واعترض على الدليل الفطري : أن ذلك إنما كان لكون السماء قبلة للدعاء ، كما أن
الكعبة قبلة للصلاة ، ثم هو منقوض بوضع الجبهة على الأرض مع أنه ليس في جهة الأرض ؟ وأجيب على هذا الاعتراض من وجوه :
أحدها : أن قولكم : إن السماء قبلة للدعاء - لم يقله أحد من سلف الأمة ، ولا أنزل الله به من سلطان ، وهذا من الأمور الشرعية الدينية ، فلا يجوز أن يخفى على جميع سلف الأمة وعلمائها .
الثاني : أن
nindex.php?page=treesubj&link=19772قبلة الدعاء هي قبلة الصلاة ، فإنه يستحب للداعي أن يستقبل القبلة ، وكان النبي صلى الله عليه وسلم يستقبل القبلة في دعائه في مواطن كثيرة ، فمن قال إن للدعاء قبلة غير قبلة الصلاة ، أو إن له قبلتين : إحداهما
الكعبة والأخرى السماء - : فقد ابتدع في الدين ، وخالف جماعة المسلمين .
الثالث : أن القبلة : هي ما يستقبله العابد بوجهه ، كما تستقبل
[ ص: 393 ] الكعبة في الصلاة والدعاء ، والذكر والذبح ، وكما يوجه المحتضر والمدفون ، ولذلك سميت وجهة . والاستقبال خلاف الاستدبار ، فالاستقبال بالوجه ، والاستدبار بالدبر ، فأما ما حاذاه الإنسان برأسه أو يديه أو جنبه فهذا لا يسمى قبلة ، لا حقيقة ولا مجازا ، فلو كانت السماء قبلة الدعاء لكان المشروع أن يوجه الداعي وجهه إليها ، وهذا لم يشرع ، والموضع الذي ترفع اليد إليه لا يسمى قبلة ، لا حقيقة ولا مجازا ، ولأن القبلة في الدعاء أمر شرعي تتبع فيه الشرائع ، ولم تأمر الرسل أن الداعي يستقبل السماء بوجهه ، بل نهوا عن ذلك . ومعلوم أن التوجه بالقلب ، واللجأ والطلب الذي يجده الداعي من نفسه أمر فطري ، يفعله المسلم والكافر والعالم والجاهل ، وأكثر ما يفعله المضطر والمستغيث بالله ، كما فطر على أنه إذا مسه الضر يدعو الله ، مع أن أمر القبلة مما يقبل النسخ والتحويل ، كما تحولت القبلة من
الصخرة إلى
الكعبة .
وأمر التوجه في الدعاء إلى الجهة العلوية مركوز في الفطر ، والمستقبل
للكعبة يعلم أن الله تعالى ليس هناك ، بخلاف الداعي ، فإنه يتوجه إلى ربه وخالقه ، ويرجو الرحمة أن تنزل من عنده .
وأما النقض بوضع الجبهة فما أفسده من نقض ، فإن واضع الجبهة إنما قصده الخضوع لمن فوقه بالذل له ، لا بأن يميل إليه إذ هو تحته ! هذا لا يخطر في قلب ساجد . لكن يحكى عن
nindex.php?page=showalam&ids=15211بشر المريسي [ ص: 394 ] أنه سمع وهو يقول في سجوده : سبحان ربي الأسفل ! ! تعالى الله عما يقول الظالمون والجاحدون علوا كبيرا . وإن من أفضى به النفي إلى هذه الحال حري أن يتزندق ، إن لم يتداركه الله برحمته ، وبعيد من مثله الصلاح ، قال تعالى :
nindex.php?page=tafseer&surano=6&ayano=110ونقلب أفئدتهم وأبصارهم كما لم يؤمنوا به أول مرة [ الأنعام : 110 ] . وقال تعالى :
nindex.php?page=tafseer&surano=61&ayano=5فلما زاغوا أزاغ الله قلوبهم [ الصف : 5 ] . فمن لم يطلب الاهتداء من مظانه يعاقب بالحرمان . نسأل الله العفو والعافية .
وقوله : وقد أعجز عن الإحاطة خلقه - أي لا يحيطون به علما ولا رؤية ، ولا غير ذلك من وجوه الإحاطة ، بل هو سبحانه محيط بكل شيء ، ولا يحيط به شيء .
وَاعْتُرِضَ عَلَى الدَّلِيلِ الْفِطْرِيِّ : أَنَّ ذَلِكَ إِنَّمَا كَانَ لِكَوْنِ السَّمَاءِ قِبْلَةً لِلدُّعَاءِ ، كَمَا أَنَّ
الْكَعْبَةَ قِبْلَةٌ لِلصَّلَاةِ ، ثُمَّ هُوَ مَنْقُوضٌ بِوَضْعِ الْجَبْهَةِ عَلَى الْأَرْضِ مَعَ أَنَّهُ لَيْسَ فِي جِهَةِ الْأَرْضِ ؟ وَأُجِيبُ عَلَى هَذَا الِاعْتِرَاضِ مِنْ وُجُوهٍ :
أَحَدُهَا : أَنَّ قَوْلَكُمْ : إِنَّ السَّمَاءَ قِبْلَةٌ لِلدُّعَاءِ - لَمْ يَقُلْهُ أَحَدٌ مِنْ سَلَفِ الْأُمَّةِ ، وَلَا أَنْزَلَ اللَّهُ بِهِ مِنْ سُلْطَانٍ ، وَهَذَا مِنَ الْأُمُورِ الشَّرْعِيَّةِ الدِّينِيَّةِ ، فَلَا يَجُوزُ أَنْ يَخْفَى عَلَى جَمِيعِ سَلَفِ الْأُمَّةِ وَعُلَمَائِهَا .
الثَّانِي : أَنَّ
nindex.php?page=treesubj&link=19772قِبْلَةَ الدُّعَاءِ هِيَ قِبْلَةُ الصَّلَاةِ ، فَإِنَّهُ يُسْتَحَبُّ لِلدَّاعِي أَنْ يَسْتَقْبِلَ الْقِبْلَةَ ، وَكَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَسْتَقْبِلُ الْقِبْلَةَ فِي دُعَائِهِ فِي مَوَاطِنَ كَثِيرَةٍ ، فَمَنْ قَالَ إِنَّ لِلدُّعَاءِ قِبْلَةً غَيْرَ قِبْلَةِ الصَّلَاةِ ، أَوْ إِنَّ لَهُ قِبْلَتَيْنِ : إِحْدَاهُمَا
الْكَعْبَةُ وَالْأُخْرَى السَّمَاءُ - : فَقَدِ ابْتَدَعَ فِي الدِّينِ ، وَخَالَفَ جَمَاعَةَ الْمُسْلِمِينَ .
الثَّالِثُ : أَنَّ الْقِبْلَةَ : هِيَ مَا يَسْتَقْبِلُهُ الْعَابِدُ بِوَجْهِهِ ، كَمَا تُسْتَقْبَلُ
[ ص: 393 ] الْكَعْبَةُ فِي الصَّلَاةِ وَالدُّعَاءِ ، وَالذِّكْرِ وَالذَّبْحِ ، وَكَمَا يُوَجَّهُ الْمُحْتَضَرُ وَالْمَدْفُونُ ، وَلِذَلِكَ سُمِّيَتْ وُجْهَةً . وَالِاسْتِقْبَالُ خِلَافُ الِاسْتِدْبَارِ ، فَالِاسْتِقْبَالُ بِالْوَجْهِ ، وَالِاسْتِدْبَارُ بِالدُّبُرِ ، فَأَمَّا مَا حَاذَاهُ الْإِنْسَانُ بِرَأْسِهِ أَوْ يَدَيْهِ أَوْ جَنْبِهِ فَهَذَا لَا يُسَمَّى قِبْلَةً ، لَا حَقِيقَةً وَلَا مَجَازًا ، فَلَوْ كَانَتِ السَّمَاءُ قِبْلَةَ الدُّعَاءِ لَكَانَ الْمَشْرُوعُ أَنْ يُوَجِّهَ الدَّاعِي وَجْهَهُ إِلَيْهَا ، وَهَذَا لَمْ يُشْرَعْ ، وَالْمَوْضِعُ الَّذِي تُرْفَعُ الْيَدُ إِلَيْهِ لَا يُسَمَّى قِبْلَةً ، لَا حَقِيقَةً وَلَا مَجَازًا ، وَلِأَنَّ الْقِبْلَةَ فِي الدُّعَاءِ أَمْرٌ شَرْعِيٌّ تُتَّبَعُ فِيهِ الشَّرَائِعُ ، وَلَمْ تَأْمُرِ الرُّسُلُ أَنَّ الدَّاعِيَ يَسْتَقْبِلُ السَّمَاءَ بِوَجْهِهِ ، بَلْ نَهَوْا عَنْ ذَلِكَ . وَمَعْلُومٌ أَنَّ التَّوَجُّهَ بِالْقَلْبِ ، وَاللَّجْأُ وَالطَّلَبُ الَّذِي يَجِدُهُ الدَّاعِي مِنْ نَفْسِهِ أَمْرٌ فِطْرِيٌّ ، يَفْعَلُهُ الْمُسْلِمُ وَالْكَافِرُ وَالْعَالِمُ وَالْجَاهِلُ ، وَأَكْثَرُ مَا يَفْعَلُهُ الْمُضْطَرُّ وَالْمُسْتَغِيثُ بِاللَّهِ ، كَمَا فُطِرَ عَلَى أَنَّهُ إِذَا مَسَّهُ الضُّرُّ يَدْعُو اللَّهَ ، مَعَ أَنَّ أَمْرَ الْقِبْلَةِ مِمَّا يَقْبَلُ النَّسْخَ وَالتَّحْوِيلَ ، كَمَا تَحَوَّلَتِ الْقِبْلَةُ مِنَ
الصَّخْرَةِ إِلَى
الْكَعْبَةِ .
وَأَمْرُ التَّوَجُّهِ فِي الدُّعَاءِ إِلَى الْجِهَةِ الْعُلْوِيَّةِ مَرْكُوزٌ فِي الْفِطَرِ ، وَالْمُسْتَقْبِلُ
لِلْكَعْبَةِ يَعْلَمُ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى لَيْسَ هُنَاكَ ، بِخِلَافِ الدَّاعِي ، فَإِنَّهُ يَتَوَجَّهُ إِلَى رَبِّهِ وَخَالِقِهِ ، وَيَرْجُو الرَّحْمَةَ أَنْ تَنْزِلَ مِنْ عِنْدِهِ .
وَأَمَّا النَّقْضُ بِوَضْعِ الْجَبْهَةِ فَمَا أَفْسَدَهُ مِنْ نَقْضٍ ، فَإِنَّ وَاضِعَ الْجَبْهَةِ إِنَّمَا قَصْدُهُ الْخُضُوعُ لِمَنْ فَوْقَهُ بِالذُّلِّ لَهُ ، لَا بِأَنْ يَمِيلَ إِلَيْهِ إِذْ هُوَ تَحْتَهُ ! هَذَا لَا يَخْطُرُ فِي قَلْبِ سَاجِدٍ . لَكِنْ يُحْكَى عَنْ
nindex.php?page=showalam&ids=15211بِشْرٍ الْمَرِيسِيِّ [ ص: 394 ] أَنَّهُ سُمِعَ وَهُوَ يَقُولُ فِي سُجُودِهِ : سُبْحَانَ رَبِّيَ الْأَسْفَلِ ! ! تَعَالَى اللَّهُ عَمَّا يَقُولُ الظَّالِمُونَ وَالْجَاحِدُونَ عُلُوًّا كَبِيرًا . وَإِنَّ مَنْ أَفْضَى بِهِ النَّفْيُ إِلَى هَذِهِ الْحَالِ حَرِيٌّ أَنَ يَتَزَنْدَقَ ، إِنْ لَمْ يَتَدَارَكْهُ اللَّهُ بِرَحْمَتِهِ ، وَبَعِيدٌ مِنْ مِثْلِهِ الصَّلَاحُ ، قَالَ تَعَالَى :
nindex.php?page=tafseer&surano=6&ayano=110وَنُقَلِّبُ أَفْئِدَتَهُمْ وَأَبْصَارَهُمْ كَمَا لَمْ يُؤْمِنُوا بِهِ أَوَّلَ مَرَّةٍ [ الْأَنْعَامِ : 110 ] . وَقَالَ تَعَالَى :
nindex.php?page=tafseer&surano=61&ayano=5فَلَمَّا زَاغُوا أَزَاغَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ [ الصَّفِّ : 5 ] . فَمَنْ لَمْ يَطْلُبْ الِاهْتِدَاءَ مِنْ مَظَانِّهِ يُعَاقَبْ بِالْحِرْمَانِ . نَسْأَلُ اللَّهَ الْعَفْوَ وَالْعَافِيَةَ .
وَقَوْلُهُ : وَقَدْ أَعْجَزَ عَنِ الْإِحَاطَةِ خَلَقَهُ - أَيْ لَا يُحِيطُونَ بِهِ عِلْمًا وَلَا رُؤْيَةً ، وَلَا غَيْرَ ذَلِكَ مِنْ وُجُوهِ الْإِحَاطَةِ ، بَلْ هُوَ سُبْحَانَهُ مُحِيطٌ بِكُلِّ شَيْءٍ ، وَلَا يُحِيطُ بِهِ شَيْءٌ .