التمهيد
مفهوم السنة والبدعة عند ابن تيمية
يحسن قبل الشروع في بيان أصول شيخ الإسلام ابن تيمية في الحكم على أهل البدع، أن أعرض بشيء من الاختصار ما يبين مفهومه رحمه الله للسنة، ويحدد أهلها، ويوضح طريقتهم، ويبين مفهومه للبدعة وتفاوتها، ودعوته إلى الاعتصام بالسنة، وتحذيره من البدعة وفسادها بحيث يتحدد لنا موقفه من الاتباع والابتداع ابتداء.
1 - تعريفه للسنة
يرى أن السنة من الفعل هـي: (ما قام الدليل الشرعي عليه بأنه طاعة لله ورسوله، سواء فعله رسول الله صلى الله عليه وسلم ، أو فعل على زمانه، أم لم يفعله ولم يفعل على زمانه، لعدم المقتضي حينئذ لفعله،أو وجود المانع منه، فإنه إذا ثبت أنه أمر به أو استحبه فهو سنة، كما أمر بإجلاء اليهود والنصارى من جزيرة العرب [1] ، وكما جمع الصحابة القرآن في [ ص: 50 ] المصحف [2] ، وكما داوموا على قيام رمضان في المسجد جماعة [3] " [4] .
قصد الشيخ في هـذا التعريف، المعنى العام للسنة، وهو الطريقة الموافقة لهدي الرسول صلى الله عليه وسلم وعمل الصحابة رضي الله عنهم ، ولا سيما الخلفاء الراشدون، وقد استقاه من وصية رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( عليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين، تمسكوا بها، وعضوا عليها بالنواجذ، وإياكم ومحدثات الأمور، فإن كل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة ) [5] .
2 - من هـم أهل السنة؟
يرى أنهم المتبعون لسلف الأمة، الذين عاشوا في القرون الثلاثة المفضلة، وحازوا كل فضيلة، وثبت لهم ذلك بالضرورة، [ ص: 51 ] وأنه (من المعلوم بالضرورة لمن تدبر الكتاب والسنة، وما اتفق عليه أهل السنة والجماعة من جميع الطوائف، أن خير قرون هـذه الأمة في الأعمال والأقوال والاعتقاد... القرن الأول، ثم الذين يلونهم، ثم الذين يلونهم، كما ثبت ذلك عن النبي صلى الله عليه وسلم من غير وجه [6] ، وأنهم أفضل من الخلف في كل فضيلة، من علم وعمل وإيمان وعقل ودين وبيان وعبادة، وأنهم أولى بالبيان لكل مشكل.. هـذا لا يدفعه إلا من كابر المعلوم بالضرورة من دين الإسلام، وأضله الله على علم) [7] ، كما " قال عبد الله بن عمر [8] رضي الله عنهما : (من كان منكم مستنا فليستن بمن قد مات، أولئك أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم كانوا خير هـذه الأمة، أبرها قلوبا، وأعمقها علما، وأقلها تكلفا.. قوم اختارهم الله لصحبة نبيه، ونقل دينه، فتشبهوا بأخلاقهم وطرائقهم، فهم أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم ، كانوا على الهدى المستقيم " [9] وقال غيره: (عليكم بآثار من سلف، فإنهم جاءوا بما يكفي وبشفى , [ ص: 52 ] ولم يحدث بعدهم خير كامن لم يعلموه) [10] ، وقال الإمام الشافعي [11] : (هم فوقنا في كل علم وعقل ودين وفضل، وكل سبب ينال به علم أو يدرك به هـوى، ورأيهم لنا خير من رأينا لأنفسنا) [12] .
وحدد رحمه الله أهل السنة والجماعة، فقال: (أهل السنة والجماعة من الصحابة جميعهم والتابعين، وأئمة أهل السنة وأهل الحديث، وجماهير الفقهاء والصوفية [13] ، مثل مالك [14] والثوري [15] والأوزاعي [16] . [ ص: 53 ] وحماد بن زيد [17] ، والشافعي ، وأحمد بن حنبل ، وغيرهم، ومحققي أهل الكلام [18] ) [19] ، فلم يحصر أهل السنة والجماعة في مدرسة معينة؛ لأن طريق السنة يتسع لكل من اعتصم بها، واتبع آثار السلف رحمهم الله تعالى) .
3 - طريقة أهل السنة
بين الإمام ابن تيمية أن (طريقة أهل السنة والجماعة، اتباع آثار رسول الله صلى الله عليه وسلم باطنا وظاهرا، واتباع سبيل السابقين الأولين من المهاجرين والأنصار ، واتباع وصية رسول الله صلى الله عليه وسلم حيث قال: (عليكم بسنتي) [20] إلى آخر الحديث) [21] ، فهم إنما سموا بأهل السنة لهذا المعنى، وسموا أهل الجماعة؛ لأن الجماعة هـي الاجتماع، وضدها الفرقة، نسبة إلى الأصل الثالث وهو الإجماع، ويقصد به الإجماع المنضبط، وهو ما كان عليه السلف الصالح، إذ بعدهم كثر الاختلاف، وافترقت الأمة [22] . [ ص: 54 ]
وإنما كان السلف على السنة؛ لأن غاية ما عندهم أن يكونوا موافقين لرسول الله صلى الله عليه وسلم ؛ ولأن عامة ما عندهم من العلم والإيمان استفادوه منه صلى الله عليه وسلم ، الذي أخرجهم الله به من الظلمات إلى النور، وهداهم به إلى صراط العزيز الحميد [23] ، لذا كان الحق معهم؛ لأن (الحق دائما مع سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم وآثاره الصحيحة، وأن كل طائفة تضاف إلى غيره إذا انفردت بقول عن سائر الأمة، لم يكن القول الذي انفردت به إلا خطأ، بخلاف المضاف إليه أهل السنة والحديث، فإن الصواب معهم دائما، ومن وافقهم كان الصواب معه دائما لموافقته إياهم، ومن خالفهم فإن الصواب معهم دونه في جميع أمور الدين، فإن الحق مع الرسول صلى الله عليه وسلم ، فمن كان أعلم بسنته وأتبع لها كان الصواب معه، وهؤلاء هـم الذين لا ينتصرون إلا لقوله، ولا يضافون إلا إليه، وهم أعلم الناس بسنته، وأتبع لها، وأكثر سلف الأمة كذلك، لكن التفرق والاختلاف كثير في المتأخرين) [24] .
لذا كانت متابعة السلف شعارا للتمييز بين أهل السنة وأهل البدعة، كما قال الإمام أحمد في رسالة عبدوس بن مالك [25] : (أصول السنة عندنا: التمسك بما كان عليه أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم ) [26] ، فعلم أن [ ص: 55 ] شعار أهل البدع هـو ترك انتحال اتباع السلف.. ولما كان الرافضة [27] أشهر الطوائف بالبدعة، حتـى إن العامـة لا تعرف مـن شعـائـر البـدع إلا الرفض، صار السني في اصطلاحهم من لا يكون رافضيا؛ وذلك لأنهم أكثر مخالفة للأحاديث النبوية ولمعاني القرآن، وأكثر قدحا في سلف الأمة وأئمتها، وطعنا في جمهور الأمة من جميع الطوائف، فلما كانوا أبعد عن متابعة السلف كانوا أشهر بالبدعة [28] ، وهناك طوائف أقرب منهم إلى طريقة السلف مثل (متكلمة أهل الإثبات من الكلابية [29] والكرامية [30] والأشعرية [31] مع الفقهاء والصوفية وأهل الحديث، فهؤلاء في الجملة لا يطعنون في السلف، بل قد يوافقونهم في أكثر جمل مقالاتهم، لكن كل من كان بالحديث من هـؤلاء أعلم، كان بمذهب السلف أعلم، وله أتبع، وإنما يوجد تعظيم السلف عند كل طائفة بقدر استنانها، وقلة ابتداعها) [32] . [ ص: 56 ]
4 - تعريفه للبدعة
يرى البدعة في مقابل السنة، وهي: (ما خالفت الكتاب والسنة أو إجماع سلف الأمة من الاعتقادات والعبادات) [33] ، أو هـي بمعنى أعم: (ما لم يشرعه الله من الدين.. فكل من دان بشيء لم يشرعه الله فذاك بدعة، وإن كان متأولا فيه) [34] ، أي مما استحدثه الناس، ولم يكن له مستند في الشريعة.
وهي (نوعان: نوع في الأقوال والاعتقادات، ونوع في الأفعال والعبادات، وهذا الثاني يتضمن الأول، كما أن الأول يدعو إلى الثاني) [35] ، فمثال الأول في الأقوال: بدعة الأوراد المحدثة، وفي الاعتقادات: بدعة الرافضة والخوارج [36] ، والمعتزلة [37] ، والمرجئة [38] . [ ص: 57 ] والجهمية [39] .. ومثال الثاني في الأفعال: لبس الصوف عبادة، وعمل المولد [40] ، وفي العبادات، الجهر بالنية في الصلاة، والأذان في العيدين [41] .
5 - تفاوت البدعـة
يرى أن البدعة تكون باطلا على قدر ما فيها من مخالفة للكتاب والسنة، وابتعاد عن متابعة السلف، فهي ليست باطلا محضا، إذ لو كانت كذلك لظهرت وبانت وما قبلت، كما أنها ليست حقا محضا لا شـوب فيه، وإلا كـانت موافقـة للسنـة التي لا تنـاقض حقا محضا لا باطل فيه، وإنما تشتمل على حق وباطل [42] ، وعلى هـذا يكون بعضها أشد من بعض [43] ، ويكون أهلها (على درجات: منهم من يكون قد خالف السنة في أصول عظيمة، ومنهم من يكون إنما خالف السنة في أمور دقيقة) [44] وهذا التفاوت يقع في مسائل العقيدة والعبادة على حد سواء، [ ص: 58 ] فإن (الجليل من كل واحد من الصنفين، مسائل أصول، والدقيق مسائل فروع) [45] .. وما درج عليه الناس من تسمية مسائل العقيدة الخبرية بالأصول، ومسائل العبادة العملية بالفروع، تسمية محدثة، قسمها طائفة من الفقهاء المتكلمين، وأما جمهور الفقهاء المحققين والصوفية فعندهم أن المسائل العملية آكد وأهم من المسائل الخبرية المتنازع فيها، لذا كثر كلامهم فيها، وكرهوا الكلام في الأخرى، كما أثر ذلك عن مالك وغيره من أهل المدينة [46] .
وقد أشار الشيخ إلى هـذا التفاوت من حيث قرب الفرق وبعدها عن الحق قائلا: (وأصحاب ابن كلاب [47] كالحـارث المحاسبـي [48] ، وأبي العباس القلانسي [49] ، ونحوهما، خير من الأشعرية في هـذا وهذا، وكلما كان الرجل إلى السلف والأئمة أقرب، كان قوله أعلى وأفضل) [50] . [ ص: 59 ]
6 - تأكيده على العمل بالسنة
يؤكد شيخ الإسلام على أنه لا عاصم من الوقوع في الباطل إلا بملازمة السنة، ذلك أن (السنة مثال سفينة نوح عليه السلام ، من ركبها نجا، ومن تخلف عنها غرق، قال الزهري [51] : كان من مضى من علمائنا يقولون: الاعتصام بالسنة نجاة) [52] ، لذا فإن المبتدعة لما كانوا مخالفين للسنة، وقعوا في الباطل وإن كانوا متأولين؛ لأنهم اتبعوا الهوى، وضلوا طريق السنة المنصوب على العلم والعدل والهدى، ومن هـنا سمي أصحاب البدع، أصحاب الأهواء [53] .
أما أهل العلم والإيمان من السلف، فإنهم تمسكوا بالسنة، وكان منهجهم على النقيض من منهج المبتدعة، فهم (يجعلون كلام الله ورسوله هـو الأصل الذي يعتمد عليه، وإليه يرد ما تنازع الناس فيه، فما وافقه كان حقا، وما خالفه كان باطلا، ومن كان قصده متابعته من المؤمنين، وأخطأ بعد اجتهاده الذي استفرغ به وسعه، غفر الله له خطأه، سواء كان خطؤه في المسائل العلمية الخبرية أو المسائل العملية، فإنه ليس كل ما كان معلوما متيقنا لبعض الناس، يجب أن يكون معلوما متيقنا لغيره، وليس كل ما قاله رسول الله صلى الله عليه وسلم يعلمه كل الناس [ ص: 60 ] ويفهمونه، بل كثير منهم لم يسمع كثيرا منه، وكثير منهـم قد يشتبـه عليـه مـا أراده، وإن كـان كلامـه في نفسـه محكـما مقـرونا بما يبين مراده) [54] .
لكن إذا لم يتبع منهج السلف، فإنه يخاف على المنتسبين إلى العلم والنظر العقلي، وما يتبع ذلك، من الوقوع في بدعة الأقوال والاعتقادات، ويخاف على المنتسبين إلى العبادة والإرادة، وما يتبع ذلك، من الوقوع في بدعة الأفعال والعبادات، وكل ذلك من الضلال والبغي، وقد أمر المسلم أن يقول في صلاته: ( اهدنا الصراط المستقيم * صراط الذين أنعمت عليهم غير المغضوب عليهم ولا الضالين ) (الفاتحة: 6 -7) ، آمين، وصح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: ( اليهـود مغضوب عليهم، والنصـارى ضـالـون ) [55] ، قـال سفيـان بن عيينة [56] : كانوا يقولون: من فسد من العلماء ففيه شبه من اليهود ، ومن فسد من العباد ففيه شبه من النصارى .. وكان السلف يقولون: احذروا فتنة العالم الفاجر، والعابد الجاهل، فإن فتنتهما فتنة لكل مفتون، فطالب [ ص: 61 ] العلم إن لم يقترن بطلبه فعل مـا يجـب عليـه، وترك ما يحرم عليه من الاعتصام بالكتاب والسنة، وإلا وقع في الضلال [57]
7 - تحذيره من البدعة، وبيانه لوجه فسادها
حذر الشيخ من البدعة، وبين أنها أشر من المعصيـة [58] ، لـذم رسول الله صلى الله عليه وسلم إياها في ( قوله: شر الأمور محدثاتها، وكل بدعة ضلالة ) [59] ، وفي رواية: ( وكل ضلالة في النار ) [60] .. وذم عليه الصلاة والسلام الواقعين فيها، في ذمه للرجل الذي اعترض على رسول الله صلى الله عليه وسلم في قسمته، فقال فيه: ( يخرج من ضئضئي [61] هـذا قوم يحقر أحدكم صلاته مع صلاتهم، وصيامه مع صيامهم، وقراءته مع قراءتهم، يقرءون القرآن لا يجاوز حناجرهم، يمرقون[62] من الإسلام، كما يمرق السهم من الرمية، لئن أدركتهم لأقتلنهم قتل عاد ) [63] .. وفي رواية: ( لو يعلم الذين يقاتلونهم ماذا لهم عن لسان محمد لاتكلوا عن العمل ) [64] . [ ص: 62 ] .. وفي رواية: ( شر قتلى تحت أديم السماء، خير قتلى من قتلوه ) [65] .
قال الشيخ معلقا على هـذا الحديث: (فهؤلاء مع كثرة صلاتهم وصيامهم وقراءتهم، وما هـم عليه من العبادة والزهادة، أمر النبي صلى الله عليه وسلم بقتلهم، وقتلهم علي بن أبي طالب [66] ومن معه من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم ، وذلك لخروجهم عن سنة النبي وشريعته، وأظن أني ذكرت قول الشافعي : لأن يبتلى العبد بكل ذنب، ما خلا الشرك بالله، خير من أن يبتلى بشيء من هـذه الأهواء ) [67] .
كما بين الشيخ أن فساد البدعة وضررها من وجهين:
الأول: أن البدع مفسدة للقلوب، مزاحمة للسنة في إصلاح النفوس، فهي أشبه ما تكون بالطعام الخبيث، وفي هـذا المعنى يقول (الشرائع أغذية القلوب، فمتى اغتذت القلوب بالبدع لم يبق فيها فضل للسنن، فتكون بمنزلة من اغتذى بالطعام الخبيث) [68] . [ ص: 63 ]
الثاني: أن البدع معارضة للسنن، تقود أصحابها إلى الاعتقادات الباطلة والأعمال الفاسدة والخروج عن الشريعة، وفي هـذا المعنى يقول: مبينا أن (من أسباب هـذه الاعتقادات والأحوال الفاسدة، الخروج عن الشرعة والمنهاج، الذي بعث به الرسول صلى الله عليه وسلم إلينا، فإن البدع هـي مبادئ الكفر ومظان الكفر، كما أن السنن المشروعة هـي مظاهر الإيمان، ومقوية للإيمان، فإنه يزيد بالطاعة وينقص بالمعصية) [69] ، وهذا ظاهر في منهج المبتدعة، القائم على معارضة الكتاب والسنة، لـما (جعلوا أقوالهم التي ابتدعوها هـي الأقوال المحكمة، التي جعلوها أصول دينهم، وجعلوا قول الله ورسوله من المجمل الذي لا يستفاد منه علم ولا هـدى، فجعلوا المتشابه من كلامهم هـو المحكم، والمحكم من كلام الله ورسوله هـو المتشابـه، كمـا يجعـل الجهميـة من المتفلسفـة والمعتزلـة ونحوهم، ما أحدثوه من الأقوال التي نفوا بها صفات الله، ونفوا بها رؤيته في الآخرة، وعلوه على خلقه، وكون القرآن كلامه ونحو ذلك، جعلوا تلك الأقوال محكمة، وجعلوا قول الله ورسوله مئولا عليها، أو مردودا، أو غير ملتفت إليه، ولا متلقى للهدى منه) [70] . [ ص: 64 ]