الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
              صفحة جزء
              [ ص: 475 ] المسألة الثانية عشرة

              إن الشريعة كما أنها عامة في جميع المكلفين ، وجارية على مختلفات أحوالهم ; فهي عامة أيضا بالنسبة إلى عالم الغيب وعالم الشهادة من جهة كل مكلف ; فإليها نرد كل ما جاءنا من جهة الباطن ، كما نرد إليها كل ما في الظاهر ، والدليل على ذلك أشياء :

              منها : ما تقدم في المسألة قبلها من ترك اعتبار الخوارق إلا مع موافقة ظاهر الشريعة .

              والثاني : أن الشريعة حاكمة لا محكوم عليها ، فلو كان ما يقع من الخوارق والأمور الغيبية حاكما عليها بتخصيص عموم ، أو تقييد إطلاق ، أو تأويل ظاهر ، أو ما أشبه ذلك ; لكان غيرها حاكما عليها ، وصارت هي محكوما عليها بغيرها ، وذلك باطل باتفاق ; فكذلك ما يلزم عنه .

              والثالث : أن مخالفة الخوارق للشريعة دليل على بطلانها في نفسها ، وذلك أنها قد تكون في ظواهرها كالكرامات وليست كذلك ، بل أعمالا من أعمال الشيطان ; كما حكى عياض عن الفقيه أبي ميسرة المالكي أنه كان ليلة بمحرابه يصلي ويدعو ويتضرع ، وقد وجد رقة ، فإذا المحراب قد انشق وخرج منه نور عظيم ، ثم بدا له وجه كالقمر ، وقال له : " تملأ من وجهي يا أبا ميسرة ; فأنا ربك الأعلى " ; فبصق فيه وقال له : " اذهب يا لعين عليك لعنة الله " .

              وكما يحكى عن عبد القادر الكيلاني أنه عطش عطشا شديدا ; فإذا سحابة قد أقبلت وأمطرت عليه شبه الرذاذ حتى شرب ، ثم نودي من سحابة : " يا [ ص: 476 ] فلان ! أنا ربك وقد أحللت لك المحرمات " . فقال له : اذهب يا لعين . فاضمحلت السحابة ، وقيل له : بم عرفت أنه إبليس ؟ قال : بقوله : قد أحللت لك المحرمات " .

              هذا وأشباهه لو لم يكن الشرع حكما فيها لما عرف أنها شيطانية .

              وقد نزعت إلى هذا المنزع في ابتداء الوحي إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - خديجة بنت خويلد زوجه رضي الله عنها ; فإنها قالت له : أي ابن عم ! أتستطيع أن تخبرني بصاحبك هذا الذي يأتيك إذا جاءك ؟ قال : نعم . قالت : فإذا جاءك فأخبرني به . فلما جاء أخبرها ; فقالت : قم يا بن عم ; فاجلس على فخذي اليسرى . فجلس ، ثم قالت : هل تراه ؟ قال : نعم . ثم حولته إلى فخذها اليمنى ، ثم إلى حجرها ، وفي كل ذلك تقول : هل تراه ؟ فيقول : نعم . قال الراوي : فتحسرت ، وألقت خمارها ، والنبي - صلى الله عليه وسلم - جالس في حجرها ، ثم قالت : هل تراه ؟ قال : لا . وفي رواية : أنها أدخلته بينها وبين درعها ; فذهب عند ذلك . فقالت : يا ابن عم ! اثبت وأبشر ; فوالله إنه لملك ، ما هذا بشيطان .

              [ ص: 477 ] ولا يقال : إن ثم مدارك أخر يختص بها الولي ، لا يفتقر بها إلى النظر الشرعي ; لأنا نقول : إن كان كما قلت على فرض تسليمه ; فتلك المدارك من جملة الكرامات والخوارق ; إذ لا يختص بها إلا من كان وليا لله ، فلا فرق بينها وبين غيرها من الخوارق المشاهدة ، فلا بد إذا من حكم يحكم بصحتها ، وشاهد يشهد لها ; وإذ ذاك يلزم التسلسل ، وهو محال ، ولا يكتفى في ذلك بدعوى الوجدان ، فإن الوجدان من حيث هو وجدان لا دليل فيه على صحته ولا فساده ; لأن الآلام واللذات من المواجد التي لا تنكر ولا يدل ذلك على صحتها أو فسادها شرعا ، وكذلك سائر الأمور التي لا يقدر الإنسان على الانفكاك عنها ، فالغضب مثلا إذا هاج بالإنسان أمر لا ينكر كالمواجد من غير فرق ، وقد يكون محمودا إذا كان غضبا لله ، ومذموما إذا كان لغير الله ، ولا يفرق بينها إلا النظر الشرعي ; إذ لا يصح أن يقال : هذا الغضب قد أدرك صاحبه أنه محمود لا مذموم من غير نظر شرعي ; لأن الحمد والذم راجعان إلى الشرع لا إلى العقل ، فمن أين أدرك أنه محمود شرعا ، فلا يمكن أن يدركه كذلك بغير الشرع أصلا ، ولا يصح أيضا أن ينسب تمييزه إلى المربي والمعلم ; لأن البحث جار فيه أيضا .

              وإنما الذي يشكل في المسألة أن الخوارق لا قدرة للإنسان على كسبها ولا على دفعها ; إذ هي مواهب من الله تعالى يختص بها من يشاء من عباده ، [ ص: 478 ] فإذا وردت على صاحبها ; فلا حكم فيها للشرع وإن فرضنا أنها غير موافقة له ; كورود الآلام والأوجاع على الإنسان بغتة ، أو ورود الأفراح عليه كذلك من غير اكتساب ، فكما لا توصف هذه الأشياء بحسن ولا قبح شرعا ، ولا يتعلق بها حكم شرعي ; كذلك في مسألتنا ، بل أشبه شيء بها الإغماء أو الجنون أو ما أشبهه ، فلا حكم يتعلق به وإن فرضنا لحوق الضرر به على الغير كما إذا أتلف المجنون مالا أو قتل نفسا أو شرب خمرا في حال جنونه ، ألا ترى ما يحكى عن جملة منهم في استغراقهم في الأحوال حتى تمضي عليهم أوقات الصلوات وهم لا يشعرون ، ويقع منهم الوعد فيؤخذون عن أنفسهم في المكاشفات والمنازلات ; فلا يفون ، ويكاشفون بأحوال الخلق بحيث يطلعون على عوراتهم إلى ما أشبه ذلك ; فهذا وما كان مثله إذا كان واقعا منهم ومنقولا عنهم ، وهو داخل عليهم شاءوا أم أبوا ، فكيف ينكر في نفسه أو يعد مما يدخل تحت أحكام الشريعة ؟

              والجواب أن ما تقدم من الأدلة كاف في إثبات أصل المسألة ، وما اعترض به لا اعتراض به ; فإن الخوارق وإن كانت لا قدرة للإنسان في كسبها ولا دفعها ; فلقدرته تعلق بأسباب هذه المسببات . وقد مر أن الأسباب هي التي خوطب [ ص: 479 ] [ ص: 480 ] المكلف بها أمرا أو نهيا ، ومسبباتها خلق لله ; فالخوارق من جملتها .

              وتقدم أيضا أن ما نشأ عن الأسباب من المسببات ; فمنسوب إلى المكلف حكمه من جهة التسبب ; لأجل أن عادة الله في المسببات أن تكون على وزان الأسباب في الاستقامة والاعوجاج ، والاعتدال والانحراف ; فالخوارق مسببات عن الأسباب التكليفية ، فبقدر اتباع السنة في الأعمال وتصفيتها من شوائب الأكدار وغيوم الأهواء تكون الخارقة المترتبة ; فكما أنه يعرف من نتائج الأعمال العادية صواب تلك الأعمال أو عدم صوابها ; كذلك ما نحن فيه ، وقد قال تعالى : إنما تجزون ما كنتم تعملون [ الطور : 16 ] .

              وقال : هل تجزون إلا بما كنتم تكسبون [ يونس : 52 ] .

              إنما هي أعمالكم أحصيها لكم ثم أوفيكم إياها .

              [ ص: 481 ] وهو عام في الجزاء الدنيوي والأخروي ، وفروع الفقه في المعاملات شاهدة هنا كشهادة العادات ; فالموضوع مقطوع به في الجملة .

              وإذا ثبت هذا ; فما ظهر في الخارقة من استقامة أو اعوجاج ; فمنسوب إلى الرياضة المتقدمة ، والنتائج تتبع المقدمات بلا شك ; فصار الحكم التكليفي متعلقا بالخوارق من جهة مقدماتها ، فلا تسلم لصاحبها ، وإذ ذاك لا تخرج عن النظر الشرعي بخلاف المرض والجنون وأشباههما مما لا سبب له من جهة المكلف ; فإنه لا يتعلق به حكم تكليفي ، ولو فرضنا أن المكلف تسبب في تحصيله ; لكان منسوبا إليه ولتوجه التكليف إليه ; كالشكر ونحوه ; فحصل من هذا التقرير أن الشرع حاكم على الخوارق وغيرها ، لا يخرج عن حكمه شيء منها ، والله أعلم .

              التالي السابق


              الخدمات العلمية