الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                          صفحة جزء
                                                          وإن كادوا ليستفزونك من الأرض ليخرجوك منها وإذا لا يلبثون خلافك إلا قليلا .

                                                          كان كفار مكة يكيدون للنبي صلى الله عليه وسلم ولأصحابه، فلقد آذوا أصحابه إيذاء بالغا، حتى إن منهم من مات تحت حر العذاب كأم عمار بن ياسر وأبيه، وحتى إن منهم من نطق بالكفر وقلبه مطمئن بالإيمان، وقد هاجر منهم فرارا من الأذى إلى الحبشة طائفة من المؤمنين استنقاذا لإيمانهم وقد هاجروا مرتين، والنبي صلى الله عليه وسلم ثابت في مكانه مقيم يشارك من لم يستطع السفر الأذى والمصابرة، ولو خرج لضاقوا في أنفسهم، واشتد بهم الألم بعدم من يشاركهم، وهو قطب الدعوة.

                                                          [ ص: 4434 ] رأى المشركون ذلك ورأوا أن يزيدوا في إيذائه ليزعجوه ويستفزوه ليخرج، وبلغ ذلك أقصاه عندما هموا بقتله أو تثبيته أو إخراجه، وإلى هذا يشير قوله تعالى: وإن كادوا ليستفزونك من الأرض ليخرجوك منها و (إن) هنا هي المخففة من الثقيلة كما هي في الآية السابقة في التلاوة، واللام لام التوكيد فارقة بينها وبين (إن) النافية، ومعنى استفز، أي طلب الفز بألا يكون قارا ثابتا، وهؤلاء طلبوا أن يفز النبي صلى الله عليه وسلم من الأرض بألا تكون مستقرا له يأمن فيها ويسكن حتى لا يبقى بها؛ لأنهم علموا أنه لا محالة مضيع شركهم قاض على أوثانهم مزعج لهم فأزعجوه منها ليخرج، والأرض هي أرض مكة؛ لأنها المعهودة، فـ (أل) للعهد، ولأنها الجديرة بأن تسمى الأرض الحرام؛ لأنها الحرم الآمن الذي يجبى إليه ثمرات كل شيء ولأنها أم القرى، إنهم يفعلون ذلك ليخرجوك من أرض مكة، ولكنه إن خرج فإنه يبتدئ زوال سلطانهم وهي تضطرب من تحتهم، ولذا قال تعالى: وإذا لا يلبثون خلافك إلا قليلا أي أنه نتيجة لخروجه من بينهم لن يستمروا بعده إلا زمنا قليلا فإن دولتهم تأخذ في الزوال، وذلك بأحد أمرين:

                                                          الأمر الأول: أن يجد قوما غيرهم يستجيبون لدعوته وتكون له بهم قوة فيردون اعتداءاتهم وفتنهم، وقد كان ذلك، فإن الله تعالى أمره بالهجرة في ميقاتها عندما وجد من استجاب من أهل يثرب، فكانوا هم ومن هاجروا قوة الإسلام استنصفوا منهم، ثم زالت دولة الأوثان بعد ذلك ويئس الشيطان أن يعبد في هذه الأرض.

                                                          الأمر الثاني: أن ينزل الله بهم ما أنزل بالذين آذوا أنبياءهم وأخرجوهم أو سدوا سبل الحق عليهم حتى يئسوا من أن يؤمنوا، وقال الله لكل نبي منهم: لن يؤمن من قومك إلا من قد آمن فإنه ينزل عليهم من آياته خسفا، أو زلزالا، أو حاصبا، أو ريحا صرصرا عاتية.

                                                          التالي السابق


                                                          الخدمات العلمية