الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                                                                      صفحة جزء
                                                                                                                                                                                                                                      أولئك على هدى من ربهم الظاهر أنه جملة مرفوعة المحل على الخبرية، فإن جعل الموصول الأول مفصولا على أكثر التقادير في الثاني ويتبعه فصله بحسب الظاهر، إذ لا يقطع المعطوف عليه دون المعطوف، فالخبرية له، وإن جعل موصولا، وأريد بالثاني طائفة مما تقدمه وجعل هو مفصولا، كان الإخبار عنه، وذكر الخاص بعد العام كما يجوز أن يكون بطريق التشريك بينهما في الحكم السابق أعني هدى للمتقين يجوز أن يكون بطريق إفراده بالحكم عن العام، وحينئذ تكون الجملة المركبة من الموصول الثاني، وجملة الخبر معطوفة على جملة هدى للمتقين الموصوفين بـ الذين يؤمنون بالغيب والجملة الأولى، وإن كانت مسوقة لمدح الكتاب، والثانية لمدح الموصوفين بالإيمان بجميع الكتب إلا أن مدحهم ليس إلا باعتبار إيمانهم بذلك الكتاب، فهما متناسبتان باعتبار إفادة مدحه، وفائدة جعل المدح مقصودا بالذات ترغيب أمثالهم، والتعريض على ما قيل بمن ليس على صفتهم، والتخصيص المستفاد من المعطوف بالقياس إلى من لم يتصف بأوصافهم، فلا ينافي ما استفيد من المعطوف عليه، من ثبوت الهدى للمتقين مطلقا، نعم ليس هذا الوجه في البلاغة بمرتبة فصل الموصول الأول فهو أولى، وعليه تكون الجملة مشيرة إلى جواب سؤال، إما عن الحكم، أي إن المتقين هل يستحقون ما أثبت لهم من الاختصاص بالهدى؟ أو عن السبب كأنه قيل: ما سبب اختصاصهم؟ أو عن مجموع الأمرين، أي هل هم أحقاء بذلك؟ وما السبب فيه حتى يكونوا كذلك؟ فأجيب بأن هؤلاء لأجل اتصافهم بالصفات المذكورة متمكنون على الهدى الكامل الذي منحهم إياه ربهم تعالى بكتابه، ومعلوم أن العلة مختصة بهم، فيكونون مستحقين للاختصاص، فالجواب مشتمل على الحكم المطلوب مع تلخيص موجبه، وضم نتيجة الهدى تقوية للمبالغة التي تضمنها تنكير هدى، أو تحقيقا للحكم بالبرهان الآتي أيضا، ولذا استغنى عن تأكيد النسبة، أو الجملة الاسمية مؤكدة، وقد يقال: إنه بين الجواب مرتبا عليه مسببيه أعني الهدى والفلاح، لأن ذلك أوصل إلى معرفة السبب، ولا حاجة حينئذ إلى التأكيد، والأمر على التقدير، الثالث ظاهر، وجعل الجملة مشيرة إلى الجواب على احتمال وصل الأول وفصل الثاني مما لا يخفى انفصاله عن ساحة القبول، وإذا وصل الأول وعطف الثاني تكون هذه الجملة مستأنفة استئنافا نحويا، والفصل لكمال الاتصال، إذ هي كالنتيجة للصفات السابقة، أو بيانيا، والفصل لكونها كالمتصلة، فكأن سائلا يقول: ما للموصوفين بهذه الصفات اختصوا بالهدى؟ فأجيب بأن سبب اختصاصهم أنه سبحانه قدر في الأزل سعادتهم وهدايتهم، فجبلتهم مطبوعة على الهداية، والسعيد سعيد في بطن أمه، لا سيما إذا انضم إليه الفلاح الأخروي الذي هو أعظم المطالب، أو يقال: إن الجواب بشرح [ ص: 124 ] ما انطوى عليه اسمهم إجمالا من نعوت الكمال، وبيان ما تستدعيه من النتيجة، أي الذين هذه شؤونهم أحقاء بما هو أعظم من ذلك، وهذا المسلك يسلك تارة بإعادة من استؤنف عنه الحديث، كأحسنت إلى زيد زيد حقيق بالإحسان، وأخرى بإعادة صفته كأحسنت إلى زيد صديقك القديم، أهل لذلك، وهذا أبلغ لما فيه من بيان الموجب للحكم، وإيراد اسم الإشارة هنا بمنزلة إعادة الموصوف بصفاته المذكورة مع ما فيه من الإشعار بكمال تميزه بها، وانتظامه لذاك في سلك الأمور المشاهدة مع الإيماء إلى بعد منزلته، وعلو درجته، هذا وجعل (أولئك) وحده خبرا، و على هدى حال بعيد كجعله بدلا من (الذين) والظرف خبرا، وإنما كتبوا واوا في (أولئك) للفرق بينه وبين إليك الجار والمجرور كما قيل، وقيل: إنه لما كان مشارا به لجمع المذكر وكان مبنيا ومباينا للشائع من صيغ الجموع جبر في الجملة بكتابة حرف يكون في الجمع في بعض الآيات، ومن المشهور: ردوا السائل ولو بظلف محرق، وفي قوله سبحانه على هدى استعارة تمثيلية تبعية حيث شبهت حال أولئك، وهي تمكنهم من الهدى واستقرارهم عليه، وتمسكهم به بحال من اعتلى الشيء وركبه، ثم استعير للحال التي هي المشبه المتروك كلمة الاستعلاء المستعملة في المشبه به، وإلى ذلك ذهب السعد ، وأنكر السيد اجتماع التمثيلية والتبعية لأن كونها تبعية يقتضي كون كل من الطرفين معنى مفردا، لأن المعاني الحرفية مفردة، وكونها تمثيلية يستدعي انتزاعهما من أمور متعددة، وهو يستلزم تركبه.

                                                                                                                                                                                                                                      وأبدى قدس سره في الآية ثلاثة أوجه، الأول أنها استعارة تبعية مفردة بأن شبه تمسك المتقين بالهدى باستعلاء الراكب على مركوبه في التمكن والاستقرار فاستعير له الحرف الموضوع للاستعلاء، الثاني أن يشبه هيئة منتزعة من المتقي، والهدى، وتمسكه به بالهيئة المنتزعة من الراكب والمركوب، واعتلائه عليه، فيكون هناك استعارة تمثيلية تركب كل من طرفيها، لكن لم يصرح من الألفاظ التي بإزاء المشبه به إلا بكلمة (على) فإن مدلولها هو العمدة في تلك الهيئة، وما عداه تابع له ملاحظ في ضمن ألفاظ منوية، وإن لم تقدر في نظم الكلام، فليس في (على) استعارة أصلا، بل هي على حالها، قبل الاستعارة، كما إذا صرح بتلك الألفاظ كلها، الثالث أن يشبه الهدى بالمركوب على طريق الاستعارة بالكناية، وتجعل كلمة على قرينة لها على عكس الوجه الأول، وهذا الخلاف بين الشيخين في هذه المسألة مما سارت به الركبان وعقدت له المجالس، وصنفت فيه الرسائل، وأول ما وقع بينهما في مجلس تيمور، وكان الحكم نعمان الخوارزمي المعتزلي، فحكم، والظاهر أنه لأمر ما للسيد السند، والعلماء إلى اليوم فريقان في ذلك، ولا يزالون مختلفين فيه، إلا أن الأكثر مع السعد، وأجابوا عن شبهة السيد بأن انتزاع شيء من أمور متعددة يكون على وجوه شتى، فقد يكون من مجموع تلك الأمور كالوحدة الاعتبارية، وقد يكون من أمر بالقياس إلى آخر، كالإضافات، وقد يكون بعضه من أمر وبعضه من آخر، وعلى الأولين لا يقتضي تركيبه بل تعدد مأخذه، فيجوز حينئذ أن يكون المدلول الحرفي لكونه أمرا إضافيا كالاستعلاء حالة منتزعة من أمور متعددة، فلجريانها في الحرف تكون تبعية، ولكون كل من الطرفين حالة إضافية منتزعة من أمور متعددة تمثيلية، ولعل اختيار القوم في تعريف التمثيلية لفظ الانتزاع دون التركيب يرشد المنصف إلى عدم اشتراط التركيب في طرفيه، وإلا لكان الأظهر لفظ التركيب، وقد أشبعنا القول في ذلك، وذكرنا ما له، وما عليه في كتابنا (الأجوبة العراقية عن الأسئلة الإيرانية)، وفي هذا القدر هنا كفاية، وفي تنكير (هدى) إشارة إلى عظمته فلا يعرف حقيقته، ومقداره إلا اللطيف الخبير، وإنما ذكر الرب مع أن الهدى لا يكون إلا منه سبحانه تأكيدا لذلك بإسناده إليه جل شأنه، وفيه مناسبة واضحة، إذ حيث كان ربهم ناسب أن يهيئ لهم أسباب السعادتين، ويمن عليهم بمصلحة الدارين، وقد تكون [ ص: 125 ] ثم صفة محذوفة أي (على هدى) أي هدى، وحذف الصفة لفهم المعنى جائز، وقيل: يحتمل أن يكون التنوين للإفراد أي على هدى واحد، إذ لا هدى إلا هدى ما أنزل إليه صلى الله تعالى عليه وسلم، لنسخه ما قبله، (ومن) لابتداء الغاية أو للتبعيض على حذف مضاف، أي من هدى ربهم، ومعنى كون ذلك منه سبحانه أنه هو الموفق لهم، والمفيض عليهم من بحار لطفه وكرمه، وإن توسطت هناك أسباب عادية، ووسائط صورية، على أن تلك الوسائط قد ترتفع من البين، فيتبلج صبح العيان لذي عينين، وقد قرأ ابن هرمز (من ربهم) بضم الهاء، وكذلك سائر هاآت جمع المذكر والمؤنث على الأصل من غير أن يراعي فيها سبق كسر أو ياء، وأدغم النون في الراء بلا غنة الجمهور، وعليه العمل، وذهب كثير من أهل الأداء إلى الإدغام مع الغنة، ورووه عن نافع ، وابن كثير ، وأبي عمرو، وابن عامر، وعاصم، وأبي جعفر، ويعقوب، وأظهر النون أبو عون، عن قالون، وأبو حاتم عن يعقوب، وهذه الأوجه جارية أيضا في النون والتنوين، إذا لاقت لاما.

                                                                                                                                                                                                                                      وأولئك هم المفلحون الفلاح الفوز والظفر بإدراك البغية، وأصله الشق والقطع، ويشاركه في معنى الشق مشاركه في الفاء والعين نحو: فلى، وفلق، وفلذ، وفي تكرار اسم الإشارة إشارة إلى أن هؤلاء المتصفين بتلك الصفات يستحقون بذلك الاستقلال بالتمكن في الهدى، والاستبداد بالفلاح، والاختصاص بكل منهما، ولولاه لربما فهم اختصاصهم بالمجموع، فيوهم تحقق كل واحد منهما بالانفراد، فيمن عداهم، وإنما دخل العاطف بين الجملتين لكونهما واقعتين بين كمال الاتصال والانفصال، لأنهما وإن تناسبا مختلفان مفهوما ووجودا، فإن الهدى في الدنيا والفلاح في الآخرة، وإثبات كل منهما مقصود في نفسه، وبهذا فارقا قوله تعالى: أولئك كالأنعام بل هم أضل أولئك هم الغافلون فالثانية فيه مؤكدة للأولى، إذ لا معنى للتشبيه إلا بالأنعام المبالغة في الغفلة، فلا مجال للعطف بينهما و(هم) يحتمل أن يكون فصلا، أو بدلا، فيكون (المفلحون) خبرا عن (أولئك)، أو مبتدأ، و(المفلحون) خبره، والجملة خبر (أولئك)، وهذه الجملة لا تخلو عن إفادة الحصر كما لا يخفى، وقد ذكر غير واحد أن اللام في (المفلحون) حرف تعريف بناء على أن المراد الثبات على الفلاح، فهو حينئذ مما غلبت عليه الاسمية، أو ألحق بالصفة المشبهة، فهي إما للعهد الخارجي للدلالة على أن المتقين هم الذين بلغك أنهم مفلحون في العقبى، وضمير الفصل إما للقصر أو لمجرد تأكيد النسبة، ولا استبعاد في جريان القصر قلبا أو تعيينا، بل إفرادا أيضا، أو للجنس، فتشير إلى ما يعرفه كل أحد من هذا المفهوم، فإن أريد القصر كان الفصل لتأكيد النسبة، ولتأكيد الاختصاص أيضا، وإن أريد الاتحاد كان لمجرد تأكيد النسبة، وتشبث المعتزلة والخوارج بهذه الآية لخلود تارك الواجب في العذاب، لأن قصر جنس الفلاح على الموصوفين يقتضي انتفاء الفلاح عن تارك الصلاة والزكاة، فيكون مخلدا في العذاب، وهذا أوهن من بيت العنكبوت، فلا يصلح للاستدلال، لأن الفلاح عدم الدخول، أو لأن انتفاء كمال الفلاح كما يقتضيه السياق، والسباق لا يقتضي انتفاءه مطلقا، ولا حاجة إلى حمل المتقين على المجتنبين للشرك، ليدخل العاصي فيهم، لأن الإشارة ليست إليهم فقط، فلا يجدي نفعا، ككون الصفة مادحة كما لا يخفى، وها هنا سر دقيق وهو أنه سبحانه وتعالى حكى في مفتتح كتابه الكريم مدح العبد لباريه بسبب إحسانه إليه، وترقى فيه، ثم مدح الباري هنا عبده بسبب هدايته له، وترقى فيه، على أسلوب واحد، فسبحانه من إله ماجد كم أسدى جميلا، وأعطى جزيلا، وشكر قليلا، فله الفضل بلا عد، وله الحمد بلا حد.

                                                                                                                                                                                                                                      التالي السابق


                                                                                                                                                                                                                                      الخدمات العلمية