الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
باب متعة المطلقة

قال الله - عز وجل -: لا جناح عليكم إن طلقتم النساء ما لم تمسوهن أو تفرضوا لهن فريضة ومتعوهن ؛ تقديره: "ما لم تمسوهن؛ ولم تفرضوا لهن فريضة"؛ ألا ترى أنه عطف [ ص: 136 ] عليه قوله (تعالى): وإن طلقتموهن من قبل أن تمسوهن وقد فرضتم لهن فريضة فنصف ما فرضتم ؟ فلو كان الأول بمعنى: "ما لم تمسوهن؛ وقد فرضتم لهن فريضة؛ أو لم تفرضوا"؛ لما عطف عليها المفروض لها؛ فدل ذلك على أن معناه: "ما لم تمسوهن؛ ولم تفرضوا لهن فريضة"؛ وقد تكون "أو" بمعنى الواو؛ قال الله (تعالى): ولا تطع منهم آثما أو كفورا ؛ معناه: ولا كفورا؛ وقال (تعالى): وإن كنتم مرضى أو على سفر أو جاء أحد منكم من الغائط ؛ والمعنى: وجاء أحد منكم من الغائط؛ وأنتم مرضى؛ ومسافرون؛ وقال (تعالى): وأرسلناه إلى مائة ألف أو يزيدون ؛ معناه: ويزيدون؛ فهذا موجود في اللغة؛ وهي في النفي أظهر في دخولها عليه أنها بمعنى الواو؛ منه ما قدمنا من قوله (تعالى): ولا تطع منهم آثما أو كفورا ؛ معناه: ولا كفورا؛ لدخولها على النفي؛ وقال (تعالى): حرمنا عليهم شحومهما إلا ما حملت ظهورهما أو الحوايا أو ما اختلط بعظم ؛ "أو" في هذه المواضع بمعنى الواو؛ فوجب على هذا أن يكون قوله (تعالى): لا جناح عليكم إن طلقتم النساء ما لم تمسوهن أو تفرضوا لهن فريضة ؛ لما دخلت على النفي؛ أن تكون بمعنى الواو؛ فيكون شرط وجوب المتعة المعنيين جميعا؛ من عدم المسيس؛ والتسمية جميعا؛ بعد الطلاق.

وهذه الآية تدل على أن للرجل أن يطلق امرأته قبل الدخول بها في الحيض ؛ وأنها ليست كالمدخول بها؛ لإطلاقه إباحة الطلاق من غير تفصيل منه بحال الطهر؛ دون الحيض.

وقد اختلف السلف؛ وفقهاء الأمصار؛ في وجوب المتعة ؛ فروي عن علي أنه قال: "لكل مطلقة متعة"؛ وعن الزهري مثله؛ وقال ابن عمر : "لكل مطلقة متعة؛ إلا التي تطلق وقد فرض لها صداق ولم تمس؛ فحسبها نصف ما فرض لها"؛ وروي عن القاسم بن محمد مثله؛ وقال شريح ؛ وإبراهيم؛ والحسن : "تخير التي تطلق قبل الدخول؛ ولم يفرض على المتعة"؛ وقال شريح - وقد سألوه في متاع -: "لا نأبى أن نكون من المتقين"؛ فقال: إني محتاج؛ فقال: "لا نأبى أن نكون من المحسنين"؛ وقد روي عن الحسن؛ وأبي العالية : "لكل مطلقة متاع"؛ وسئل سعيد بن جبير عن المتعة على الناس كلهم؛ فقال: "لا؛ على المتقين"؛ وروى ابن أبي الزناد عن أبيه - في كتاب البيعة -: "وكانوا لا يرون المتاع للمطلقة واجبا؛ ولكنها تخصيص من الله؛ وفضل"؛ وروى عطاء ؛ عن ابن عباس قال: "إذا فرض الرجل؛ وطلق قبل أن يمس؛ فليس لها إلا المتاع"؛ وقال محمد بن علي : "المتعة للتي لم يفرض لها؛ والتي قد فرض لها ليس لها متعة"؛ وذكر محمد بن إسحاق ؛ عن نافع قال: "كان ابن عمر لا يرى للمطلقة متعة واجبة؛ إلا للتي أنكحت بالعوض؛ ثم يطلقها قبل أن [ ص: 137 ] يدخل بها"؛ وروى معمر ؛ عن الزهري قال: "متعتان؛ إحداهما يقضي بها السلطان؛ والأخرى حق على المتقين؛ من طلق قبل أن يفرض؛ ولم يدخل؛ أخذ بالمتعة; لأنه لا صداق عليه؛ ومن طلق بعدما يدخل؛ أو يفرض؛ فالمتعة حق عليه"؛ وعن مجاهد نحو ذلك؛ فهذا قول السلف فيها؛ وأما فقهاء الأمصار فإن أبا حنيفة ؛ وأبا يوسف ؛ ومحمدا ؛ وزفر ؛ قالوا: "المتعة واجبة للتي طلقها قبل الدخول؛ ولم يسم لها مهرا؛ وإن دخل بها فإنه يمتعها؛ ولا يجبر عليها"؛ وهو قول الثوري ؛ والحسن بن صالح ؛ والأوزاعي ؛ إلا أن الأوزاعي زعم أن أحد الزوجين؛ إذا كان مملوكا؛ لم تجب المتعة؛ وإن طلقها قبل الدخول؛ ولم يسم لها مهرا؛ وقال ابن أبي ليلى ؛ وأبو الزناد: "المتعة ليست واجبة؛ إن شاء فعل؛ وإن شاء لم يفعل؛ ولا يجبر عليها"؛ ولم يفرقا بين المدخول بها؛ وبين غير المدخول بها؛ وبين من سمي لها؛ وبين من لم يسم لها؛ وقال مالك ؛ والليث : "لا يجبر أحد على المتعة؛ سمى لها؛ أو لم يسم لها؛ دخل بها؛ أو لم يدخل؛ وإنما هي مما ينبغي أن يفعله؛ ولا يجبر عليها؛ قال مالك : "وليس للملاعنة متعة على حال من الحالات"؛ وقال الشافعي : "المتعة واجبة لكل مطلقة؛ ولكل زوجة؛ إذا كان الفراق من قبله؛ أو يتم به؛ إلا التي سمى لها؛ وطلق قبل الدخول".

قال أبو بكر : نبدأ بالكلام في إيجاب المتعة؛ ثم نعقبه بالكلام على من أوجبها لكل مطلقة؛ والدليل على وجوبها قوله (تعالى): لا جناح عليكم إن طلقتم النساء ما لم تمسوهن أو تفرضوا لهن فريضة ومتعوهن على الموسع قدره وعلى المقتر قدره متاعا بالمعروف حقا على المحسنين ؛ وقال (تعالى) - في آية أخرى -: يا أيها الذين آمنوا إذا نكحتم المؤمنات ثم طلقتموهن من قبل أن تمسوهن فما لكم عليهن من عدة تعتدونها فمتعوهن وسرحوهن سراحا جميلا ؛ وقال - في آية أخرى -: وللمطلقات متاع بالمعروف حقا على المتقين ؛ فقد حوت هذه الآيات الدلالة على وجوب المتعة من وجوه؛ أحدها قوله (تعالى): فمتعوهن ; لأنه أمر؛ والأمر يقتضي الوجوب؛ حتى تقوم الدلالة على الندب؛ والثاني قوله (تعالى): متاعا بالمعروف حقا على المحسنين ؛ وليس في ألفاظ الإيجاب آكد من قوله: ( حقا على ) ؛ والثالث قوله (تعالى): حقا على المحسنين ؛ وهو تأكيد لإيجابه؛ إذ جعلها من شرط الإحسان؛ وعلى كل أحد أن يكون من المحسنين؛ وكذلك قوله (تعالى): حقا على المتقين ؛ فقد دل قوله ( حقا على ) ؛ على الوجوب؛ وقوله (تعالى): حقا على المتقين تأكيد لإيجابها؛ وكذلك قوله (تعالى): فمتعوهن وسرحوهن سراحا جميلا ؛ قد دل على الوجوب؛ من حيث هو أمر؛ وقوله (تعالى): وللمطلقات متاع [ ص: 138 ] بالمعروف ؛ يقتضي الوجوب أيضا؛ لأنه جعلها لهن؛ وما كان للإنسان فهو ملكه؛ له المطالبة به؛ كقولك: "هذه الدار لزيد ".

فإن قيل: لما خص المتقين؛ والمحسنين؛ بالذكر في إيجاب المتعة عليهم؛ دل على أنها غير واجبة؛ وأنها ندب؛ لأن الواجبات لا يختلف فيها المتقون؛ والمحسنون؛ وغيرهم؛ قيل له: إنما ذكر المتقين؛ والمحسنين؛ تأكيدا لوجوبها؛ وليس تخصيصهم بالذكر نفيا على غيرهم؛ كما قال (تعالى): هدى للمتقين ؛ وهو هدى للناس كافة؛ وكقوله (تعالى): شهر رمضان الذي أنزل فيه القرآن هدى للناس ؛ فلم يكن قوله (تعالى): هدى للمتقين ؛ موجبا ألا يكون هدى لغيرهم؛ كذلك قوله (تعالى): حقا على المتقين ؛ أو حقا على المحسنين ؛ غير ناف أن يكون حقا على غيرهم؛ وأيضا فإنا نوجبها على المتقين؛ والمحسنين؛ بالآية؛ ونوجبها على غيرهم بقوله (تعالى): فمتعوهن وسرحوهن سراحا جميلا ؛ وذلك عام في الجميع بالاتفاق; لأن كل من أوجبها من فقهاء الأمصار على المحسنين؛ والمتقين؛ أوجبها على غيرهم؛ ويلزم هذا السائل ألا يجعلها ندبا أيضا; لأن ما كان ندبا لا يختلف فيه المتقون؛ وغيرهم؛ فإذا جاز تخصيص المتقين؛ والمحسنين بالذكر في المندوب إليه من المتعة؛ وهم وغيرهم فيه سواء؛ فكذلك جائز تخصيص المحسنين والمتقين بالذكر في الإيجاب؛ ويكونون هم؛ وغيرهم فيه سواء؛ فإن قيل: لما لم يخصص المتقين؛ والمحسنين في سائر الديون من الصداق؛ وسائر عقود المداينات؛ عند إيجابها عليهم؛ وخصهم بذلك عند ذكر المتعة؛ دل على أنها ليست بواجبة؛ قيل له: إذا كان لفظ الإيجاب موجودا في الجميع؛ فالواجب علينا الحكم بمقتضى اللفظ؛ ثم تخصيصه بعض من أوجب عليه الحق بذكر التقوى؛ والإحسان؛ إنما هو على وجه التأكيد؛ ووجوه التأكيد مختلفة؛ فمنها ما يكون ذكر بتقييد التقوى؛ والإحسان؛ ومنها ما يكون بتخصيص لفظ الأداء؛ نحو قوله (تعالى): وآتوا النساء صدقاتهن نحلة ؛ وقوله (تعالى): فليؤد الذي اؤتمن أمانته وليتق الله ربه ؛ ومنها ما يكون بالأمر بالإشهاد عليه؛ والرهن به؛ فكيف يستدل بلفظ التأكيد على نفي الإيجاب؟ وأيضا فإنا وجدنا عقد النكاح لا يخلو من إيجاب البدل؛ إن كان مسمى؛ فالمسمى؛ وإن لم يكن فيه تسمية؛ فمهر المثل؛ ثم كانت حاله إذا كان فيه تسمية أن البضع لا يخلو من استحقاق البدل له؛ مع ورود الطلاق قبل الدخول؛ وفارق النكاح بهذا المعنى سائر العقود; لأن عود المبيع إلى ملك البائع يوجب سقوط الثمن كله؛ وسقوط حق الزوج عن بضعها بالطلاق قبل الدخول لا يخرجه من استحقاق بدل ما هو نصف المسمى؛ فوجب [ ص: 139 ] أن يكون ذلك حكمه؛ إذا لم تكن فيه تسمية؛ والمعنى الجامع بينهما ورود الطلاق قبل الدخول؛ وأيضا فإن مهر المثل مستحق بالعقد؛ والمتعة هي بعض مهر المثل؛ فتجب كما يجب نصف المسمى؛ إذا طلق قبل الدخول.

فإن قيل: مهر المثل دراهم؛ ودنانير؛ والمتعة إنما هي أثواب؛ قيل له: المتعة أيضا عندنا دراهم؛ ودنانير؛ لو أعطاها لم يجبر على غيرها؛ وهذا الذي ذكرناه من أنها بعض مهر المثل يسوغ على مذهب محمد; لأنه يقول: إذا رهنها بمهر المثل رهنا؛ ثم طلقها قبل الدخول؛ كان رهنا بالمتعة؛ محبوسا بها؛ إن هلك هلك بها؛ وأما أبو يوسف فإنه لا يجعله رهنا بالمتعة؛ فإن هلك هلك بغير شيء؛ والمتعة واجبة؛ باقية عليه؛ فهذا يدل على أنه لم يرها بعض مهر المثل؛ ولكنه أوجبها بمقتضى ظاهر القرآن؛ وبالاستدلال؛ وبالأصول؛ على أن البضع لا يخلو من بدل؛ مع ورود الطلاق قبل الدخول؛ وأنه لا فارق بين وجود التسمية في العقد؛ وبين عدمها؛ إذ غير جائز حصول ملك البضع له بغير بدل؛ فوجوب مهر المثل بالعقد؛ عند عدم التسمية؛ كوجوب المسمى فيه؛ فوجب أن يستوي فيه حكمهما في وجوب بدل البضع؛ عند ورود الطلاق قبل الدخول؛ وأن تكون المتعة قائمة مقام بعض مهر المثل؛ وإن لم تكن بعضه؛ كما تقوم القيم مقام المستهلكات.

وقد قال إبراهيم - في المطلقة قبل الدخول؛ وقد سمي لها أن لها نصف الصداق -: "هو متعتها"؛ فكانت المتعة اسما لما يستحق بعد الطلاق قبل الدخول؛ ويكون بدلا من البضع؛ فإن قيل: إذا قامت مقام بعض مهر المثل؛ فهو عوض من المهر؛ والمهر لا يجب له عوض قبل الطلاق؛ فكذلك بعده؛ قيل له: لم نقل: "إنه بدل منه"؛ وإن قام مقامه؛ كما لا نقول: إن قيم المستهلكات أبدال لها؛ بل كأنها هي؛ حين قامت مقامها؛ ألا ترى أن المشتري لا يجوز له أخذ بدل المبيع قبل القبض؛ ببيع؛ ولا غيره؟ ولو كان استهلكه مستهلك كان له أخذ القيمة منه; لأنها تقوم مقامه؛ كأنها هو؛ لا على معنى العوض؛ فكذلك المتعة تقوم مقام بعض مهر المثل؛ بدلا من البضع؛ كما يجب نصف المسمى بدلا من البضع مع الطلاق؛ فإن قيل: لو كانت المتعة تقوم مقام بعض مهر المثل بدلا من البضع؛ لوجب اعتبارها بالمرأة؛ كما يعتبر مهر المثل بحالها؛ دون حال الزوج؛ فلما أوجب الله (تعالى) اعتبار المتعة بحال الرجل؛ في قوله (تعالى): ومتعوهن على الموسع قدره وعلى المقتر قدره ؛ دل على أنها ليست بدلا من البضع؛ وإذا لم تكن بدلا من البضع لم يجز أن تكون بدلا من الطلاق; لأن البضع يحصل لها بالطلاق؛ فلا يجوز أن تستحق بدل ما يحصل لها؛ وهذا يدل على أنها [ ص: 140 ] ليست بدلا عن شيء؛ وإذا كان كذلك علمنا أنها ليست بواجبة؛ قيل له: أما قولك في اعتبار حاله؛ دون حالها؛ فليس كذلك عندنا؛ وأصحابنا المتأخرون مختلفون فيه؛ فكان شيخنا أبو الحسن - رحمه الله - يقول: "يعتبر فيها حال المرأة أيضا"؛ وليس فيه خلاف الآية؛ لأنا نستعمل حكم الآية مع ذلك في اعتبار حال الزوج ؛ ومنهم من يقول: "يعتبر حاله؛ دون حالها"؛ ومن قال بهذا يلزمه سؤال هذا السائل أيضا; لأنه يقول: إن مهر المثل إنما وجب اعتباره بها في الحال التي يحصل فيها البضع للزوج؛ إما بالدخول؛ وإما بالموت القائم مقام الدخول في استحقاق كمال المهر؛ فكان بمنزلة قيم المتلفات في اعتبارها بأنفسها؛ وأما المتعة فإنها لا تجب عندنا إلا في حال سقوط حقه من بضعها؛ لسبب من قبله؛ قبل الدخول؛ أو ما يقوم مقامه؛ فلم يجب اعتبار حال المرأة؛ إذ البضع غير حاصل للزوج؛ بل حصل لها بسبب من قبله؛ من غير ثبوت حكم الدخول؛ فلذلك اعتبر حاله؛ دونها؛ وأيضا.. لو سلمنا لك أنها ليست بدلا عن شيء لم يمنع ذلك وجوبها; لأن النفقة ليست بدلا عن شيء؛ بدلالة أن بدل البضع هو المهر؛ وقد ملكه بعقد النكاح؛ والدخول والاستمتاع إنما هما تصرف في ملكه؛ وتصرف الإنسان في ملكه لا يوجب عليه بدلا؛ ولم يمنع ذلك وجوبها؛ ولذلك تلزمه نفقة أبيه؛ وابنه الصغير؛ بنص الكتاب؛ والإنفاق ليس بدلا عن شيء؛ ولم يمنع ذلك وجوبها؛ والزكوات والكفارات ليست بدلا عن شيء؛ وهن واجبات؛ فالمستدل بكونها غير بدل عن شيء؛ على نفي إيجابها؛ مغفل؛ وأيضا فاعتبارها بالرجل وبالمرأة إنما هو كلام في تقديرها؛ والكلام في التقدير ليس يتعلق بالإيجاب؛ ولا بنفيه؛ وأيضا لو لم تكن واجبة؛ لم تكن مقدرة بحال الرجل؛ فلما قال (تعالى): على الموسع قدره وعلى المقتر قدره ؛ دل على الوجوب؛ إذ ما ليس بواجب غير معتبر بحال الرجل؛ إذ له أن يفعل ما شاء منه في حال اليسار؛ والإعسار؛ فلما قدرها بحال الرجل؛ ولم يطلقها؛ فيخير الرجل فيها؛ دل على وجوبها؛ وهذا يصلح أن يكون ابتداء دليل في المسألة.

وقال هذا القائل أيضا: لما قال (تعالى): على الموسع قدره وعلى المقتر قدره ؛ اقتضى ذلك ألا تلزم المقتر الذي لا يملك شيئا؛ وإذا لم تلزمه لم تلزم الموسر؛ ومن ألزمها المقتر فقد خرج من ظاهر الكتاب; لأن من لا مال له لم تقتض الآية إيجابها عليه؛ إذ لا مال له فيعتبر قدره؛ فغير جائز أن نجعلها دينا عليه؛ وألا يكون مخاطبا بها؛ قال أبو بكر : هذا الذي ذكره هذا القائل إغفال منه لمعنى الآية; لأن الله (تعالى) لم يقل: "على الموسع على قدر ماله؛ [ ص: 141 ] وعلى المقتر على قدر ماله"؛ وإنما قال (تعالى): على الموسع قدره وعلى المقتر قدره ؛ وللمقتر قدر يعتبر به؛ وهو ثبوته في ذمته حتى يجد فيسلمه؛ كما قال الله (تعالى): وعلى المولود له رزقهن وكسوتهن بالمعروف ؛ فأوجبها عليه بالمعروف؛ ولو كان معسرا لا يقدر على شيء لم يخرج عن حكم الآية; لأن له ذمة تثبت فيها النفقة بالمعروف؛ حتى إذا وجدها أعطاها؛ كذلك المقتر في حكم المتعة؛ وكسائر الحقوق التي تثبت في الذمة؛ وتكون الذمة كالأعيان؛ ألا ترى أن شراء المعسر بمال في ذمته جائز؟ وقامت الذمة مقام العين في باب ثبوت البدل فيها؛ فكذلك ذمة الزوج المقتر ذمة صحيحة؛ يصح إثبات المتعة فيها؛ كما تثبت فيها النفقات؛ وسائر الديون.

قال أبو بكر : في هذه الآية دلالة على جواز النكاح بغير تسمية مهر ; لأن الله (تعالى) حكم بصحة الطلاق فيه؛ مع عدم التسمية؛ والطلاق لا يقع إلا في نكاح صحيح؛ وقد تضمنت الدلالة على أن شرطه أن لا صداق لها لا يفسد النكاح; لأنها لما لم يفرق بين من سكت عن التسمية؛ وبين من شرط أن لا صداق؛ فهي على الأمرين جميعا؛ وزعم مالك أنه إذا شرط أن لا مهر لها فالنكاح فاسد؛ فإن دخل بها صح النكاح؛ ولها مهر مثلها؛ وقد قضت الآية بجواز النكاح؛ وشرطه أن لا مهر لها ليس بأكثر من ترك التسمية؛ فإذا كان عدم التسمية لا يقدح في العقد؛ فكذلك شرطه أن لا مهر لها؛ وإنما قال أصحابنا: إنها غير واجبة للمدخول بها; لأنا قد بينا أن المتعة بدل من البضع؛ وغير جائز أن تستحق بدلين؛ فلما كانت مستحقة بعد الدخول المسمى؛ أو مهر المثل لم يجز أن تستحق معه المتعة؛ ولا خلاف أيضا بين فقهاء الأمصار على أن المطلقة قبل الدخول لا تستحقها على وجه الوجوب إذا وجب لها نصف المهر؛ فدل ذلك من وجهين على ما ذكرنا؛ أحدهما أنها لم تستحقه مع وجوب بعض المهر؛ فألا تستحقه مع وجوب جميعه أولى؛ والثاني أن المعنى فيه أنها قد استحقت شيئا من المهر؛ وذلك موجود في المدخول بها؛ فإن قيل: لما وجبت المتعة حين لم يجب شيء من المهر؛ وجب أن يكون وجوبها عند استحقاق المهر أولى؛ قيل له: فينبغي أن تستحقها إذا وجب نصف المهر؛ لوجوبها عند عدم شيء منه؛ وأيضا فإنما استحقتها عند فقد شيء من المهر لعلة أن البضع لا يخلو من بدل؛ قبل الطلاق؛ وبعده؛ فلما لم يجب المهر وجبت المتعة؛ ولما استحقت بدلا آخر لم يجز أن تستحقها؛ فإن قيل: قال الله (تعالى): وللمطلقات متاع بالمعروف حقا على المتقين ؛ وذلك عام في سائرهن؛ إلا ما خصه الدليل؛ قيل له: هو كذلك؛ إلا أن المتاع اسم لجميع ما ينتفع به؛ قال الله (تعالى): [ ص: 142 ] وفاكهة وأبا متاعا لكم ولأنعامكم ؛ وقال (تعالى): متاع قليل ثم مأواهم جهنم ؛ وقال (تعالى): إنما هذه الحياة الدنيا متاع ؛ وقال الأفوه الأودي:


إنما نعمة قوم متعة ... وحياة المرء ثوب مستعار



فالمتعة؛ والمتاع اسم يقع على جميع ما ينتفع به؛ ونحن متى أوجبنا للمطلقات شيئا مما ينتفع به؛ من مهر؛ أو نفقة؛ فقد قضينا عهدة الآية؛ فمتعة التي لم يدخل بها نصف المهر المسمى؛ والتي لم يسم لها على قدر حال الرجل؛ والمرأة؛ وللمدخول بها تارة المسمى؛ وتارة المثل؛ إذا لم يكن مسمى؛ وذلك كله متعة؛ وليس بواجب إذا أوجبنا لها ضربا من المتعة أن توجب لها سائر ضروبها; لأن قوله (تعالى): وللمطلقات متاع ؛ إنما يقتضي أدنى ما يقع عليه الاسم؛ فإن قيل: قوله (تعالى): وللمطلقات متاع ؛ يقتضي إيجابه بالطلاق؛ ولا يقع على ما استحقته قبله من المهر؛ قيل له: ليس كذلك; لأنه جائز أن تقول: "وللمطلقات المهور التي كانت واجبة لهن قبل الطلاق"؛ فليس في ذكر وجوبه بعد الطلاق ما ينفي وجوبه قبله؛ إذ لو كان كذلك لما جاز ذكر وجوبه في الحالين؛ مع ذكر الطلاق؛ فتكون فائدة وجوبه بعد الطلاق إعلامنا أن مع الطلاق يجب المتاع؛ إذ كان جائزا أن يظن ظان أن الطلاق يسقط ما وجب؛ فأبان عن إيجابه بعده؛ كهو قبله؛ وأيضا إن كان المراد متاعا وجب بالطلاق؛ فهو على ثلاثة أنحاء؛ إما نفقة العدة للمدخول بها؛ أو المتعة؛ أو نصف المسمى لغير المدخول بها؛ وذلك متعلق بالطلاق; لأن النفقة تسمى متاعا؛ على ما بينا؛ كما قال (تعالى): والذين يتوفون منكم ويذرون أزواجا وصية لأزواجهم متاعا إلى الحول غير إخراج ؛ فسمى النفقة والسكنى الواجبتين لها متاعا؛ ومما يدل على أن المتعة غير واجبة مع المهر اتفاق الجميع على أنه ليس لها المطالبة بها قبل الطلاق؛ فلو كانت المتعة تجب مع المهر بعد الطلاق لوجبت قبل الطلاق؛ إذ كانت بدلا من البضع؛ وليست بدلا من الطلاق؛ فكان يكون حكمها حكم المهر؛ وفي ذلك دليل على امتناع وجوب المتعة والمهر.

فإن قيل: فأنتم توجبونها بعد الطلاق لمن لم يسم لها؛ ولم يدخل بها؛ ولا توجبونها قبله؛ ولم يكن انتفاء وجوبها قبل الطلاق دليلا على انتفاء وجوبها بعده؛ وكذلك قلنا في المدخول بها؛ قيل له: إن المتعة بعض مهر المثل؛ إذ قام مقام بعضه؛ وقد كانت المطالبة لها واجبة بالمهر؛ قبل الطلاق؛ فلذلك صحت ببعضه بعده؛ وأنت لست تجعل المتعة بعض المهر؛ فلم يخل إيجابها من أن تكون بدلا من البضع؛ أو من الطلاق؛ فإن كانت بدلا من البضع مع [ ص: 143 ] مهر المثل فواجب أن تستحقها قبل الطلاق؛ وإن لم تكن بدلا من البضع استحال وجوبها عن الطلاق في حال حصول البضع لها؛ والله (تعالى) أعلم.

التالي السابق


الخدمات العلمية