الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
قوله عز وجل:

واذكروا نعمت الله عليكم إذ كنتم أعداء فألف بين قلوبكم فأصبحتم بنعمته إخوانا وكنتم على شفا حفرة من النار فأنقذكم منها كذلك يبين الله لكم آياته لعلكم تهتدون .

هذه الآية تدل على أن الخطاب بهذه الآية إنما هو للأوس والخزرج، وذلك أن العرب وإن كان هذا اللفظ يصلح في جميعها، فإنها لم تكن في وقت نزول هذه الآية اجتمعت على الإسلام ولا تألفت قلوبها، وإنما كانت في قصة شاس بن قيس في صدر الهجرة، وحينئذ نزلت هذه الآية، فهي في الأوس والخزرج، كانت بينهم عداوة وحروب، منها يوم بعاث وغيره، وكانت تلك الحروب والعداوة قد دامت بين الحيين مائة وعشرين سنة، حتى رفعها الله بالإسلام، فجاء النفر الستة من الأنصار إلى مكة حجاجا، فعرض رسول الله صلى الله عليه وسلم نفسه عليهم، وتلا عليهم القرآن كما كان يصنع مع قبائل العرب، فآمنوا به، وأراد الخروج معهم فقالوا: يا رسول الله، إن قدمت بلادنا على ما بيننا من العداوة والحرب; خفنا أن لا يتم ما نريده منك، ولكن نمضي نحن ونشيع أمرك ونداخل الناس، وموعدنا وإياك العام المقبل، فمضوا وفعلوا. وجاءت الأنصار في العام التالي ، فكانت العقبة الثانية وكانوا اثني عشر رجلا، فيهم خمسة من الستة الأولين، ثم جاؤوا من العام الثالث فكانت بيعة العقبة الكبرى، حضرها سبعون وفيهم اثنا عشر نقيبا; ووصف هذه القصة مستوعب في سيرة ابن هشام.

ويسر الله تعالى الأنصار للإسلام بوجهين، أحدهما أن بني إسرائيل كانوا مجاورين لهم وكانوا يقولون لمن يتوعدونه من العرب: يبعث لنا نبي الآن نقتلكم معه قتل عاد وإرم، فلما رأى النفر من الأنصار محمدا صلى الله عليه وسلم، قال بعضهم لبعض: هذا والله النبي الذي تذكره بنو إسرائيل فلا تسبقن إليه. والوجه الآخر: الحرب التي كانت ضرستهم [ ص: 308 ] وأفنت سراتهم، فرجوا أن يجمع الله به كلمتهم كالذي كان، فعدد الله تعالى عليهم نعمته في تأليفهم بعد العداوة، وذكرهم بها.

وقوله تعالى: "فأصبحتم" عبارة عن الاستمرار، وإن كانت اللفظة مخصوصة بوقت ما. وإنما خصت هذه اللفظة بهذا المعنى من حيث هي مبدأ النهار، وفيها مبدأ الأعمال، فالحال التي يحسها المرء من نفسه فيها هي حاله التي يستمر عليها يومه في الأغلب، ومنه قول الربيع بن ضبع:

أصبحت لا أحمل السلاح ولا أملك رأس البعير إن نفرا

والإخوان: جمع أخ، ويجمع إخوة، وهذان أشهر الجمع فيه، على أن سيبويه رحمه الله يرى أن إخوة اسم جمع، وليس ببناء جمع لأن فعلا لا يجمع على فعلة، قال بعض الناس الأخ في الدين يجمع إخوانا، والأخ في النسب يجمع إخوة: هكذا كثر استعمالهم.

قال القاضي أبو محمد رحمه الله:

وفي كتاب الله تعالى: إنما المؤمنون إخوة وفيه: أو بني إخوانهن فالصحيح أنهما يقالان في النسب، ويقالان في الدين.

والشفا: حرف كل جرم له مهوى، كالحفرة والبئر والجرف والسقف والجدار ونحوه، ويضاف في الاستعمال إلى الأعلى، كقوله: "شفا جرف" وإلى الأسفل كقوله: "شفا حفرة"، ويثنى شفوان. فشبه تعالى كفرهم الذي كانوا عليه وحربهم المدنية من الموت بالشفا، لأنهم كانوا يسقطون في جهنم دأبا فأنقذهم الله بالإسلام، والضمير في "منها" عائد على النار أو على الحفرة ، والعود على الأقرب أحسن، وقال بعض [ ص: 309 ] الناس، حكاه الطبري: إن الضمير عائد على الشفا ، وأنث الضمير من حيث كان الشفا مضافا إلى مؤنث، فالآية كقول جرير:


رأت مر السنين أخذن مني كما أخذ السرار من الهلال



إلى غير ذلك من الأمثلة.

قال القاضي أبو محمد رحمه الله:

وليس الأمر كما ذكر، والآية لا يحتاج فيها إلى هذه الصناعة، إلا لو لم تجد معادا للضمير إلا الشفا ، وأما ومعنا لفظ مؤنث يعود الضمير عليه، يعضده المعنى المتكلم فيه، فلا يحتاج إلى تلك الصناعة.

وقوله تعالى: كذلك يبين الله لكم آياته إشارة إلى ما بين في هذه الآيات، أي: فكذلك يبين لكم غيرها. وقوله: "لعلكم" ترج في حق البشر، أي: من تأمل منكم الحال رجا الاهتداء.

التالي السابق


الخدمات العلمية