الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                                                                      صفحة جزء
                                                                                                                                                                                                                                      [ ص: 238 ] سورة قريش

                                                                                                                                                                                                                                      ويقال لها: سورة لإيلاف

                                                                                                                                                                                                                                      وفيها قولان .

                                                                                                                                                                                                                                      أحدهما: مكية، قاله الجمهور .

                                                                                                                                                                                                                                      والثاني: مدنية، قاله الضحاك، وابن السائب .

                                                                                                                                                                                                                                      واختلف القراء في " لإيلاف " فقرأ ابن عامر " لإلاف " بغير ياء بعد الهمزة، مثل: لعلاف . وقرأ أبو جعفر بياء ساكنة من غير همز . وروى حماد بن أحمد عن الشموني بهمزتين مخففتين، الأولى: مكسورة، والثانية: ساكنة على وزن لععلاف . وقرأ الباقون بهمزة بعدها ياء ساكنة، مثل لعيلاف .

                                                                                                                                                                                                                                      وفي لام " لإيلاف " ثلاثة أقوال .

                                                                                                                                                                                                                                      أحدها: موصولة بما قبلها، المعنى: فجعلهم كعصف مأكول لإيلاف قريش، أي: أهلك الله أصحاب الفيل لتبقى قريش . وما قد ألفوا من رحلة الشتاء، والصيف [هذا قول الفراء والجمهور .

                                                                                                                                                                                                                                      [ ص: 239 ] والثاني: أنها لام التعجب، كأن المعنى: اعجبوا لإيلاف قريش رحلة الشتاء والصيف]، وتركهم عبادة رب هذا البيت، قاله الأعمش، والكسائي .

                                                                                                                                                                                                                                      والثالث: أن معناها متصل بما بعدها . المعنى: فليعبدوا رب هذا البيت لإيلافهم رحلة الشتاء والصيف، لأنهم كانوا في الرحلتين آمنين، فإذا عرض لهم عارض قالوا: نحن أهل حرم الله فلا يتعرض لهم، قال الزجاج: وهذا الوجه قول النحويين الذين ترتضى أقوالهم . وقال ابن قتيبة: بعض الناس يذهب إلى أن هذه السورة وسورة الفيل واحدة، وأكثر الناس على أنهما سورتان، وإن كانتا متصلتي الألفاظ . والمعنى: إن قريشا كانت بالحرم آمنة من الأعداء . والحرم واد جديب لا زرع فيه ولا شجر، وإنما كانت قريش تعيش فيه بالتجارة وكانت لهم رحلتان في كل سنة، رحلة في الشتاء، ورحلة في الصيف إلى الشام . ولولا هاتان الرحلتان لم يكن به مقام . ولولا أنهم بمجاورة البيت لم يقدروا على التصرف، فلما قصد أصحاب الفيل هدم الكعبة أهلكهم الله لتقيم قريش بالحرم، فذكرهم الله نعمته بالسورتين . والمعنى: أنه أهلك أولئك ليؤلف قريشا هاتين [ ص: 240 ] الرحلتين اللتين بهما معاشهم، ومقامهم بمكة . تقول: ألفت موضع كذا: إذا لزمته، وألفنيه الله، كما تقول: لزمت موضع كذا وكذا، وألزمنيه الله، وكرر " لإيلاف " للتوكيد، كما تقول أعطيتك المال لصيانة وجهك صيانته عن كل الناس . قال الزجاج: يقال: ألفت المكان ألفا، وآلفته إيلافا بمعنى واحد .

                                                                                                                                                                                                                                      وأما قريش فهم ولد النضر بن كنانة، وكل من لم يلده النضر فليس بقرشي . وقيل: هم من ولد فهر بن مالك بن النضر، فمن لم يلده فهر فليس بقرشي . وإنما سموا قريشا لتجارتهم وجمعهم المال . والقرش: الكسب . يقال: هو يقرش لعياله، ويقترش، أي: يكتسب . وقد سأل معاوية ابن عباس رضي الله عنهم: لم سميت قريش قريشا؟ فقال ابن عباس: بدابة تكون في البحر يقال لها: القريش لا تمر بشيء من الغث والسمين إلا أكلته . وأنشد:


                                                                                                                                                                                                                                      وقريش هي التي تسكن البحـ ـ ـر بها سميت قريش قريشا



                                                                                                                                                                                                                                      وقال ابن الأنباري: قال قوم: سموا قريشا بالاقتراش، وهو وقوع الرماح بعضها على بعض . قال الشاعر:


                                                                                                                                                                                                                                      ولما دنا الرايات واقترش القنا     وطار مع القوم القلوب الرواجف



                                                                                                                                                                                                                                      [ ص: 241 ] بسم الله الرحمن الرحيم

                                                                                                                                                                                                                                      لإيلاف قريش إيلافهم رحلة الشتاء والصيف فليعبدوا رب هذا البيت الذي أطعمهم من جوع وآمنهم من خوف .

                                                                                                                                                                                                                                      قوله تعالى: إيلافهم قرأ أبو جعفر وابن فليح عن ابن كثير، والوليد ابن عتبة عن ابن عامر، والتغلبي عن ابن ذكوان، عنه " إلافهم " بهمزة مكسورة من غير ياء بعدها، مثل: علافهم . وروى الخزاعي عن ابن فليح، وأبان ابن تغلب عن عاصم " إلفهم " بسكون اللام أيضا . ورواه الشموني إلا حمادا بهمزتين مكسورتين بعدهما ياء ساكنة، ورواه حماد كذلك إلا أنه حذف الياء . وقرأ الباقون بهمزة مكسورة بعدها ياء ساكنة مثل " عيلافهم " . وجمهور العلماء على أن الرحلتين كانتا للتجارة، وكانوا يخرجون إلى الشام في الصيف، وإلى اليمن في الشتاء لشدة برد الشام، وروى سعيد بن جبير عن ابن عباس قال: كانوا يشتون بمكة، ويصيفون بالطائف . قال الفراء: والرحلة منصوبة بإيقاع الفعل عليها .

                                                                                                                                                                                                                                      قوله تعالى: فليعبدوا رب هذا البيت أي: ليوحدوه الذي أطعمهم من جوع أي: بعد الجوع، كما تقول: كسوتك من عري، وذلك أن الله تعالى آمنهم بالحرم، فلم يتعرض لهم في رحلتهم، فكان ذلك سببا لإطعامهم [ ص: 242 ] بعدما كانوا فيه من الجوع . وروى عطاء عن ابن عباس قال: كانوا في ضر ومجاعة حتى جمعهم هاشم على الرحلتين، فكانوا يقسمون ربحهم بين الغني والفقير حتى استغنوا .

                                                                                                                                                                                                                                      قوله تعالى: وآمنهم من خوف وذلك أنهم كانوا آمنين بالحرم، إن حضروا حماهم، وإن سافروا قيل: هؤلاء أهل الحرم، فلا يعرض لهم أحد .

                                                                                                                                                                                                                                      التالي السابق


                                                                                                                                                                                                                                      الخدمات العلمية