الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                      صفحة جزء
                                                                                      قال محمد بن أحمد غنجار في " تاريخ بخارى " : سمعت أبا عمرو أحمد بن محمد المقرئ ، سمعت مهيب بن سليم ، سمعت جعفر بن محمد القطان إمام كرمينية يقول : سمعت محمد بن إسماعيل يقول : كتبت عن ألف شيخ وأكثر ، عن كل واحد منهم عشرة آلاف وأكثر ، ما عندي حديث إلا أذكر إسناده .

                                                                                      قال غنجار : وحدثنا محمد بن عمران الجرجاني ، سمعت عبد الرحمن بن محمد البخاري ، سمعت محمد بن إسماعيل يقول : لقيت أكثر من ألف رجل أهل الحجاز والعراق والشام ومصر ، لقيتهم كرات ، أهل الشام ومصر والجزيرة مرتين ، وأهل البصرة أربع مرات ، وبالحجاز ستة أعوام ، ولا أحصي كم دخلت الكوفة وبغداد مع محدثي خراسان ، منهم : المكي بن إبراهيم ، ويحيى بن يحيى ، وابن شقيق ، وقتيبة ، وشهاب بن معمر ، وبالشام : الفريابي وأبا مسهر ، وأبا المغيرة ، وأبا اليمان ، وسمى خلقا . ثم قال : فما رأيت واحدا منهم يختلف في هذه [ ص: 408 ] الأشياء ، أن الدين قول وعمل ، وأن القرآن كلام الله .

                                                                                      وقال محمد بن أبي حاتم الوراق : سمعت حاشد بن إسماعيل وآخر يقولان : كان أبو عبد الله البخاري يختلف معنا إلى مشايخ البصرة وهو غلام ، فلا يكتب ، حتى أتى على ذلك أيام ، فكنا نقول له : إنك تختلف معنا ولا تكتب ، فما تصنع ؟ فقال لنا يوما بعد ستة عشر يوما : إنكما قد أكثرتما علي وألححتما ، فاعرضا علي ما كتبتما . فأخرجنا إليه ما كان عندنا ، فزاد على خمسة عشر ألف حديث ، فقرأها كلها عن ظهر القلب ، حتى جعلنا نحكم كتبنا من حفظه . ثم قال : أترون أني أختلف هدرا ، وأضيع أيامي؟! فعرفنا أنه لا يتقدمه أحد .

                                                                                      قال : وسمعتهما يقولان : كان أهل المعرفة من البصريين يعدون خلفه في طلب الحديث وهو شاب حتى يغلبوه على نفسه ، ويجلسوه في بعض الطريق ، فيجتمع عليه ألوف ، أكثرهم ممن يكتب عنه . وكان شابا لم يخرج وجهه .

                                                                                      وقال أبو أحمد عبد الله بن عدي الحافظ : سمعت عدة مشايخ يحكون أن محمد بن إسماعيل البخاري قدم بغداد ، فسمع به أصحاب الحديث ، فاجتمعوا وعمدوا إلى مائة حديث ، فقلبوا متونها وأسانيدها ، وجعلوا متن هذا الإسناد هذا ، وإسناد هذا المتن هذا ، ودفعوا إلى كل [ ص: 409 ] واحد عشرة أحاديث ليلقوها على البخاري في المجلس ، فاجتمع الناس ، وانتدب أحدهم ، فسأل البخاري عن حديث من عشرته ، فقال : لا أعرفه . وسأله عن آخر ، فقال : لا أعرفه . وكذلك حتى فرغ من عشرته . فكان الفقهاء يلتفت بعضهم إلى بعض ، ويقولون : الرجل فهم . ومن كان لا يدري قضى على البخاري بالعجز ، ثم انتدب آخر ، ففعل كما فعل الأول . والبخاري يقول : لا أعرفه . ثم الثالث وإلى تمام العشرة أنفس ، وهو لا يزيدهم على : لا أعرفه . فلما علم أنهم قد فرغوا ، التفت إلى الأول منهم ، فقال : أما حديثك الأول فكذا ، والثاني كذا ، والثالث كذا إلى العشرة ، فرد كل متن إلى إسناده . وفعل بالآخرين مثل ذلك . فأقر له الناس بالحفظ . فكان ابن صاعد إذا ذكره يقول : الكبش النطاح .

                                                                                      وقال غنجار : حدثنا منصور بن إسحاق الأسدي ، سمعت عبد الله بن محمد بن إبراهيم الزاغوني ، سمعت يوسف بن موسى المروروذي يقول : كنت بالبصرة في جامعها ، إذ سمعت مناديا ينادي : يا أهل العلم ، قد قدم محمد بن إسماعيل البخاري ، فقاموا في طلبه ، وكنت معهم ، فرأينا رجلا شابا ، يصلي خلف الأسطوانة . فلما فرغ من الصلاة ، أحدقوا به ، وسألوه أن يعقد لهم مجلس الإملاء ، فأجابهم . فلما كان الغد اجتمع قريب من كذا كذا ألف فجلس للإملاء وقال : يا أهل البصرة ، أنا شاب وقد سألتموني أن أحدثكم ، وسأحدثكم بأحاديث عن أهل بلدكم تستفيدون الكل . ثم قال : حدثنا عبد الله بن عثمان بن جبلة [ ص: 410 ] بن أبي رواد بلديكم ، قال : حدثنا أبي ، عن شعبة ، عن منصور وغيره ، عن سالم بن أبي الجعد ، عن أنس : أن أعرابيا جاء إلى النبي -صلى الله عليه وسلم- فقال : يا رسول الله ، الرجل يحب القوم . . . وذكر الحديث ثم قال : ليس هذا عندكم ، إن ما عندكم عن غير منصور ، عن سالم . وأملى مجلسا على هذا النسق يقول في كل حديث : روى شعبة هذا الحديث عندكم كذا ، فأما من رواية فلان ، فليس عندكم ، أو كلاما هذا معناه .

                                                                                      قال يوسف : وكان دخولي البصرة أيام محمد بن عبد الملك بن أبي الشوارب .

                                                                                      وقال محمد بن أبي حاتم الوراق : قرأ علينا أبو عبد الله كتاب " الهبة " ، فقال : ليس في هبة وكيع إلا حديثان مسندان أو ثلاثة . وفي كتاب عبد الله بن المبارك خمسة أو نحوه . وفي كتابي هذا خمسمائة [ ص: 411 ] حديث أو أكثر .

                                                                                      وقال : سمعت أبا عبد الله يقول : تفكرت أصحاب أنس ، فحضرني في ساعة ثلاثمائة .

                                                                                      قال : وسمعته يقول : ما قدمت على أحد إلا كان انتفاعه بي أكثر من انتفاعي به .

                                                                                      قال : وسمعت سليم بن مجاهد ، سمعت أبا الأزهر يقول : كان بسمرقند أربعمائة ممن يطلبون الحديث ، فاجتمعوا سبعة أيام ، وأحبوا مغالطة محمد بن إسماعيل ، فأدخلوا إسناد الشام في إسناد العراق ، وإسناد اليمن في إسناد الحرمين ، فما تعلقوا منه بسقطة لا في الإسناد ، ولا في المتن .

                                                                                      وقال الفربري : سمعت أبا عبد الله يقول : ما استصغرت نفسي عند أحد إلا عند علي بن المديني ، وربما كنت أغرب عليه .

                                                                                      وقال أحيد بن أبي جعفر والي بخارى : قال محمد بن إسماعيل يوما : رب حديث سمعته بالبصرة كتبته بالشام ، ورب حديث سمعته بالشام كتبته بمصر . فقلت له : يا أبا عبد الله بكماله ؟ قال : فسكت . [ ص: 412 ]

                                                                                      وقال محمد بن أبي حاتم : سمعت أبا عبد الله يقول : ما نمت البارحة حتى عددت كم أدخلت مصنفاتي من الحديث . فإذا نحو مائتي ألف حديث مسندة .

                                                                                      وسمعته يقول : ما كتبت حكاية قط ، كنت أتحفظها .

                                                                                      وسمعته يقول : صنفت كتاب " الاعتصام " في ليلة .

                                                                                      وسمعته يقول : لا أعلم شيئا يحتاج إليه إلا وهو في الكتاب والسنة . فقلت له : يمكن معرفة ذلك كله ؟ قال : نعم .

                                                                                      وسمعته يقول : كنت بنيسابور أجلس في الجامع ، فذهب عمرو بن زرارة ، وإسحاق بن راهويه إلى يعقوب بن عبد الله ، والي نيسابور ، فأخبروه بمكاني ، فاعتذر إليهم ، وقال : مذهبنا إذا رفع إلينا غريب لم نعرفه حبسناه حتى يظهر لنا أمره . فقال له بعضهم : بلغني أنه قال لك : لا تحسن تصلي ، فكيف تجلس ؟ فقال : لو قيل لي شيء من هذا ما كنت أقوم من ذلك المجلس حتى أروي عشرة آلاف حديث ، في الصلاة خاصة . [ ص: 413 ]

                                                                                      وسمعته يقول : كنت في مجلس الفريابي ، فقال : حدثنا سفيان ، عن أبي عروة ، عن أبي الخطاب ، عن أنس : أن النبي -صلى الله عليه وسلم- كان يطوف على نسائه في غسل واحد فلم يعرف أحد في المجلس أبا عروة ، ولا أبا الخطاب . فقلت : أما أبو عروة فمعمر ، وأبو الخطاب قتادة . قال : وكان الثوري فعولا لهذا ، يكني المشهورين .

                                                                                      قال محمد بن أبي حاتم : قدم رجاء الحافظ ، فصار إلى أبي عبد الله ، فقال لأبي عبد الله : ما أعددت لقدومي حين بلغك ؟ وفي أي شيء نظرت ؟ فقال : ما أحدثت نظرا ، ولم أستعد لذلك ، فإن أحببت أن تسأل عن شيء ، فافعل ، فجعل يناظره في أشياء ، فبقي رجاء لا يدري أين هو . ثم قال له أبو عبد الله : هل لك في الزيادة ؟ فقال استحياء منه وخجلا : نعم . قال : سل إن شئت ؟ فأخذ في أسامي أيوب ، فعد نحوا من ثلاثة عشر ، وأبو عبد الله ساكت . فلما فرغ قال له أبو عبد الله : لقد جمعت ، فظن رجاء أنه قد صنع شيئا ، فقال لأبي عبد الله : يا أبا عبد الله ، فاتك خير كثير . فزيف أبو عبد الله في أولئك سبعة أو ثمانية ، وأغرب عليه أكثر من ستين . ثم قال له رجاء : كم رويت في العمامة السوداء ؟ قال : هات كم رويت أنت ؟ ثم قال : نروي نحوا من أربعين [ ص: 414 ] حديثا . فخجل رجاء من ذاك ، ويبس ريقه .

                                                                                      قال محمد : سمعت أبا عبد الله يقول : دخلت بلخ ، فسألني أصحاب الحديث أن أملي عليهم لكل من كتبت عنه حديثا . فأمليت ألف حديث لألف رجل ممن كتبت عنهم .

                                                                                      وقال محمد بن أبي حاتم : قال أبو عبد الله : سئل إسحاق بن إبراهيم عمن طلق ناسيا . فسكت ساعة طويلة متفكرا ، والتبس عليه الأمر . فقلت أنا : قال النبي -صلى الله عليه وسلم- : إن الله عز وجل تجاوز عن أمتي ما حدثت به أنفسها ما لم تعمل به أو تكلم وإنما يراد مباشرة هذه الثلاث العمل والقلب ، أو الكلام والقلب وهذا لم يعتقد بقلبه . فقال إسحاق : قويتني ، وأفتى به .

                                                                                      وقال محمد : سمعت محمد بن إسماعيل يقول : كان إسماعيل بن أبي أويس إذا انتخبت من كتابه نسخ تلك الأحاديث . وقال : هذه الأحاديث انتخبها محمد بن إسماعيل من حديثي .

                                                                                      وقال محمد : سمعت الفربري ، يقول : رأيت عبد الله بن منير يكتب عن البخاري . [ ص: 415 ]

                                                                                      وسمعته يقول : أنا من تلاميذ محمد بن إسماعيل ، وهو معلم .

                                                                                      قلت : وقد روى البخاري أحاديث في " صحيحه " عن عبد الله بن منير ، عن يزيد بن هارون ، وجماعة . وكان زاهدا عابدا حتى قال البخاري : لم أر مثله .

                                                                                      قلت : وتوفي هو والإمام أحمد في سنة .

                                                                                      قال محمد : وسمعت أبا بكر المديني بالشاش زمن عبد الله بن أبي عرابة يقول : كنا بنيسابور عند إسحاق بن راهويه ، وأبو عبد الله في المجلس ، فمر إسحاق بحديث كان دون الصحابي عطاء الكيخاراني ، فقال إسحاق : يا أبا عبد الله ، أيش كيخاران ؟ فقال : قرية باليمن ، كان معاوية بن أبي سفيان بعث هذا الرجل ، وكان يسميه أبو بكر ، فأنسيته إلى اليمن ، فمر بكيخاران ، فسمع منه عطاء حديثين ، فقال له إسحاق : يا أبا عبد الله ، كأنك شهدت القوم .

                                                                                      وقال ابن عدي : حدثني محمد بن أحمد القومسي ، سمعت محمد بن خميرويه ، سمعت محمد بن إسماعيل يقول : أحفظ مائة ألف حديث صحيح ، وأحفظ مائتي ألف حديث غير صحيح . [ ص: 416 ]

                                                                                      قال : وسمعت أبا بكر الكلواذاني يقول : ما رأيت مثل محمد بن إسماعيل ، كان يأخذ الكتاب من العلماء ، فيطلع عليه اطلاعة ، فيحفظ عامة أطراف الأحاديث بمرة .

                                                                                      قال محمد بن يوسف الفربري : سمعت أبا جعفر محمد بن أبي حاتم الوراق يقول في الزيادات المذيلة على شمائل أبي عبد الله -قلت : وليست هي داخلة في رواية ابن خلف الشيرازي - قال : سمعت محمد بن إسماعيل البخاري يقول : ما جلست للحديث حتى عرفت الصحيح من السقيم ، وحتى نظرت في عامة كتب الرأي ، وحتى دخلت البصرة خمس مرات أو نحوها . فما تركت بها حديثا صحيحا إلا كتبته ، إلا ما لم يظهر لي .

                                                                                      وقال غنجار في " تاريخه " : حدثنا أبو عمرو أحمد بن محمد المقرئ ، حدثنا أبو بكر محمد بن يعقوب بن يوسف البيكندي ، سمعت علي بن الحسين بن عاصم البيكندي يقول : قدم علينا محمد بن إسماعيل ، قال : فاجتمعنا عنده . فقال بعضنا : سمعت إسحاق بن راهويه يقول : كأني أنظر إلى سبعين ألف حديث من كتابي . فقال محمد بن إسماعيل : أو تعجب من هذا؟! لعل في هذا الزمان من ينظر إلى مائتي ألف حديث من كتابه . وإنما عنى به نفسه .

                                                                                      التالي السابق


                                                                                      الخدمات العلمية