الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                                                                      صفحة جزء
                                                                                                                                                                                                                                      تنبيه

                                                                                                                                                                                                                                      اعلم أن هذه البراهين العظيمة المذكورة في أول سورة " الجاثية " هذه - ثلاثة منها من براهين البعث التي يكثر في القرآن العظيم الاستدلال بها على البعث ، كثرة مستفيضة .

                                                                                                                                                                                                                                      وقد أوضحناها في مواضع من هذا الكتاب المبارك في سورة " البقرة " وسورة " النحل " وغيرهما ، وأحلنا عليها مرارا كثيرة في هذا الكتاب المبارك ، وسنعيد طرفا منها هنا لأهميتها إن شاء الله - تعالى - .

                                                                                                                                                                                                                                      والأول من البراهين المذكورة : هو خلق السماوات والأرض المذكور هنا في سورة " الجاثية " هذه إن في السماوات والأرض لآيات للمؤمنين ، لأن خلقه - جل وعلا - للسماوات والأرض - من أعظم البراهين على بعث الناس بعد الموت ; لأن من خلق الأعظم الأكبر لا شك في قدرته على خلق الأضعف الأصغر .

                                                                                                                                                                                                                                      والآيات الدالة على هذا كثيرة ، كقوله - تعالى - : لخلق السماوات والأرض أكبر من خلق الناس [ 40 \ 57 ] أي ومن قدر على خلق الأكبر فلا شك أنه قادر على خلق الأصغر ، وقوله - تعالى - : أوليس الذي خلق السماوات والأرض بقادر على أن يخلق مثلهم بلى وهو الخلاق العليم [ 36 \ 81 ] . وقوله - تعالى - : أولم يروا أن الله الذي خلق السماوات والأرض ولم يعي بخلقهن بقادر على أن يحيي الموتى بلى إنه على كل شيء قدير [ 46 \ 33 ] . وقوله - تعالى - : [ ص: 184 ] أولم يروا أن الله الذي خلق السموات والأرض قادر على أن يخلق مثلهم الآية [ 17 \ 99 ] . وقوله - تعالى - : أأنتم أشد خلقا أم السماء بناها رفع سمكها فسواها وأغطش ليلها وأخرج ضحاها والأرض بعد ذلك دحاها أخرج منها ماءها ومرعاها والجبال أرساها متاعا لكم ولأنعامكم [ 79 \ 27 - 33 ] .

                                                                                                                                                                                                                                      ونظير آية " النازعات " هذه قوله - تعالى - في أول " الصافات " : فاستفتهم أهم أشد خلقا أم من خلقنا الآية [ 37 \ 11 ] ; لأن قوله : أم من خلقنا يشير به إلى خلق السماوات والأرض وما ذكر معهما المذكور في قوله - تعالى - : رب السماوات والأرض وما بينهما ورب المشارق إلى قوله فأتبعه شهاب ثاقب [ 37 \ 5 - 10 ] .

                                                                                                                                                                                                                                      وأما الثاني من البراهين المذكورة : فهو خلقه - تعالى - للناس المرة الأولى ; لأن من ابتدع - خلقهم على غير مثال سابق - لا شك في قدرته على إعادة خلقهم مرة أخرى ، كما لا يخفى .

                                                                                                                                                                                                                                      والاستدلال بهذا البرهان على البعث كثير جدا في كتاب الله ، كقوله - تعالى - : ياأيها الناس إن كنتم في ريب من البعث فإنا خلقناكم من تراب [ 22 \ 5 ] إلى آخر الآيات .

                                                                                                                                                                                                                                      وقوله - تعالى - : وضرب لنا مثلا ونسي خلقه قال من يحيي العظام وهي رميم قل يحييها الذي أنشأها أول مرة وهو بكل خلق عليم [ 36 \ 78 - 79 ] . وقوله - تعالى - : ويقول الإنسان أئذا ما مت لسوف أخرج حيا أولا يذكر الإنسان أنا خلقناه من قبل ولم يك شيئا فوربك لنحشرنهم والشياطين الآية [ 19 \ 66 - 68 ] . وقوله - تعالى - : وهو الذي يبدأ الخلق ثم يعيده وهو أهون عليه الآية [ 30 \ 27 ] . وقوله - تعالى - : فسيقولون من يعيدنا قل الذي فطركم أول مرة [ 17 \ 51 ] . وقوله - تعالى - : كما بدأنا أول خلق نعيده وعدا علينا إنا كنا فاعلين [ 21 \ 104 ] . وقوله - تعالى - : أفعيينا بالخلق الأول بل هم في لبس من خلق جديد [ 50 \ 15 ] . وقوله - تعالى - : ولقد علمتم النشأة الأولى فلولا تذكرون [ 56 \ 62 ] . وقوله - تعالى - : وأنه خلق الزوجين الذكر والأنثى من نطفة إذا تمنى وأن عليه النشأة الأخرى [ 53 \ 45 - 47 ] . وقوله - تعالى - : أيحسب الإنسان أن يترك سدى ألم يك نطفة من مني يمنى ثم كان علقة فخلق فسوى فجعل منه الزوجين الذكر والأنثى أليس ذلك بقادر على أن يحيي الموتى [ 75 \ 36 - 40 ] . وقوله - تعالى - : والتين والزيتون وطور سينين وهذا البلد الأمين لقد خلقنا الإنسان في أحسن تقويم [ ص: 185 ] إلى قوله : فما يكذبك بعد بالدين [ 95 \ 1 - 7 ] يعني أي شيء يحملك على التكذيب بالدين - أي بالبعث والجزاء - وقد علمت أني خلقتك الخلق الأول في أحسن تقويم ، وأنت تعلم أنه لا يخفى على عاقل أن من ابتدع الإيجاد الأول لا شك في قدرته على إعادته مرة أخرى . إلى غير ذلك من الآيات .

                                                                                                                                                                                                                                      وأما البرهان الثالث منها ، وهو إحياء الأرض بعد موتها المذكور في قوله - تعالى - في سورة " الجاثية " هذه : وما أنزل الله من السماء من رزق فأحيا به الأرض بعد موتها ، فإنه يكثر الاستدلال به أيضا على البعث في القرآن العظيم ; لأن من أحيا الأرض بعد موتها قادر على إحياء الناس بعد موتهم ; لأن الجميع أحياء بعد موت .

                                                                                                                                                                                                                                      فمن الآيات الدالة على ذلك قوله - تعالى - : ومن آياته أنك ترى الأرض خاشعة فإذا أنزلنا عليها الماء اهتزت وربت إن الذي أحياها لمحيي الموتى إنه على كل شيء قدير [ 41 \ 39 ] . وقوله - تعالى - : وترى الأرض هامدة فإذا أنزلنا عليها الماء اهتزت وربت وأنبتت من كل زوج بهيج ذلك بأن الله هو الحق وأنه يحيي الموتى وأنه على كل شيء قدير وأن الساعة آتية لا ريب فيها وأن الله يبعث من في القبور [ 22 \ 5 - 7 ] . وقوله - تعالى - : فانظر إلى آثار رحمة الله كيف يحيي الأرض بعد موتها إن ذلك لمحيي الموتى وهو على كل شيء قدير [ 30 \ 50 ] . وقوله - تعالى - : وهو الذي يرسل الرياح بشرا بين يدي رحمته حتى إذا أقلت سحابا ثقالا سقناه لبلد ميت فأنزلنا به الماء فأخرجنا به من كل الثمرات كذلك نخرج الموتى لعلكم تذكرون [ 7 \ 57 ] .

                                                                                                                                                                                                                                      فقوله - تعالى - : كذلك نخرج الموتى أي نبعثهم من قبورهم أحياء كما أخرجنا تلك الثمرات بعد عدمها ، وأحيينا بإخراجها ذلك البلد الميت ، وقوله - تعالى - : يخرج الحي من الميت ويخرج الميت من الحي ويحيي الأرض بعد موتها وكذلك تخرجون [ 30 \ 19 ] يعني تخرجون من قبوركم أحياء بعد الموت . وقوله - تعالى - : وأحيينا به بلدة ميتا كذلك الخروج [ 50 \ 11 ] . إلى غير ذلك من الآيات .

                                                                                                                                                                                                                                      التالي السابق


                                                                                                                                                                                                                                      الخدمات العلمية