الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                                                                      صفحة جزء
                                                                                                                                                                                                                                      مسألة :

                                                                                                                                                                                                                                      أخذ بعض علماء الأصول من هذه الآية الكريمة وأمثالها من الآيات كقوله تعالى : هو الذي خلق لكم ما في الأرض جميعا [ 2 \ 29 ] - أن الأصل فيما على الأرض الإباحة ، حتى يرد دليل خاص بالمنع ، لأن الله امتن على الأنام بأنه وضع لهم الأرض ، وجعل لهم فيها أرزاقهم من القوت والتفكه في آية الرحمن هذه ، وامتن عليهم بأنه خلق لهم ما في الأرض جميعا في قوله : هو الذي خلق لكم ما في الأرض جميعا .

                                                                                                                                                                                                                                      ومعلوم أنه - جل وعلا - لا يمتن بحرام إذ لا منة في شيء محرم ، واستدلوا لذلك أيضا بحصر المحرمات في أشياء معينة في آيات من كتاب الله ، كقوله تعالى : [ ص: 496 ] قل لا أجد في ما أوحي إلي محرما على طاعم يطعمه إلا أن يكون ميتة أو دما مسفوحا أو لحم خنزير الآية [ 6 \ 145 ] ، وقوله تعالى : قل إنما حرم ربي الفواحش ما ظهر منها وما بطن الآية [ 7 \ 33 ] ، وقوله تعالى : قل تعالوا أتل ما حرم ربكم عليكم الآية [ 6 \ 151 ] .

                                                                                                                                                                                                                                      وفي هذه المسألة قولان آخران :

                                                                                                                                                                                                                                      أحدهما : أن الأصل فيما على الأرض التحريم حتى يدل دليل على الإباحة ، واحتجوا لهذا بأن جميع الأشياء مملوكة لله - جل وعلا - ، والأصل في ملك الغير منع التصرف فيه إلا بإذنه ، وفي هذا مناقشات معروفة في الأصول ، ليس هذا محل بسطها .

                                                                                                                                                                                                                                      القول الثاني : هو الوقف وعدم الحكم فيها بمنع ولا إباحة حتى يقوم الدليل ، فتحصل أن في المسألة ثلاثة مذاهب : المنع ، والإباحة ، والوقف .

                                                                                                                                                                                                                                      قال مقيده عفا الله عنه وغفر له : الذي يظهر لي صوابه في هذه المسألة هو التفصيل ، لأن الأعيان التي خلقها الله في الأرض للناس - بها ثلاث حالات :

                                                                                                                                                                                                                                      الأولى : أن يكون فيها نفع لا يشوبه ضرر كأنواع الفواكه وغيرها .

                                                                                                                                                                                                                                      الثانية : أن يكون فيها ضرر لا يشوبه نفع كأكل الأعشاب السامة القاتلة .

                                                                                                                                                                                                                                      الثالثة : أن يكون فيها نفع من جهة وضرر من جهة أخرى ، فإن كان فيها نفع لا يشوبه ضرر ، فالتحقيق حملها على الإباحة حتى يقوم دليل على خلاف ذلك لعموم قوله : هو الذي خلق لكم ما في الأرض جميعا . وقوله : والأرض وضعها للأنام الآية .

                                                                                                                                                                                                                                      وإن كان فيها ضرر لا يشوبه نفع فهي على التحريم لقوله - صلى الله عليه وسلم : " لا ضرر ولا ضرار " .

                                                                                                                                                                                                                                      وإن كان فيها نفع من جهة وضرر من جهة أخرى فلها ثلاث حالات :

                                                                                                                                                                                                                                      الأولى : أن يكون النفع أرجح من الضرر .

                                                                                                                                                                                                                                      والثانية : عكس هذا .

                                                                                                                                                                                                                                      والثالثة : أن يتساوى الأمران .

                                                                                                                                                                                                                                      فإن كان الضرر أرجح من النفع أو مساويا له فالمنع لحديث : " لا ضرر ولا [ ص: 497 ] ضرار " ولأن درء المفاسد مقدم على جلب المصالح ، وإن كان النفع أرجح ، فالأظهر الجواز ، لأن المقرر في الأصول أن المصلحة الراجحة تقدم على المفسدة المرجوحة ، كما أشار له في مراقي السعود بقوله :


                                                                                                                                                                                                                                      وألغ إن يك الفساد أبعدا


                                                                                                                                                                                                                                      أو رجح الإصلاح كالأسارى     تفدى بما ينفع للنصارى
                                                                                                                                                                                                                                      وانظر تدلي دولي العنب     في كل مشرق وكل مغرب

                                                                                                                                                                                                                                      ومراده : تقديم المصلحة الراجحة على المفسدة المرجوحة ، أو البعيدة ممثلا له بمثالين :

                                                                                                                                                                                                                                      الأول منهما : أن تخليص أسارى المسلمين من أيدي العدو بالفداء مصلحة راجحة قدمت على المفسدة المرجوحة ، التي هي انتفاع العدو بالمال المدفوع لهم فداء للأسارى .

                                                                                                                                                                                                                                      الثاني : أن انتفاع الناس بالعنب والزبيب مصلحة راجحة على مفسدة عصر الخمر من العنب ، فلم يقل أحد بإزالة العنب من الدنيا لدفع ضرر عصر الخمر منه ، لأن الانتفاع بالعنب والزبيب مصلحة راجحة على تلك المفسدة . وهذا التفصيل الذي اخترنا قد أشار له صاحب مراقي السعود بقوله :


                                                                                                                                                                                                                                      والحكم ما به يجيء الشرع     وأصل كل ما يضر المنع



                                                                                                                                                                                                                                      التالي السابق


                                                                                                                                                                                                                                      الخدمات العلمية