(
nindex.php?page=tafseer&surano=7&ayano=205واذكر ربك في نفسك تضرعا وخيفة ودون الجهر من القول بالغدو والآصال ولا تكن من الغافلين )
قوله تعالى :(
nindex.php?page=tafseer&surano=7&ayano=205واذكر ربك في نفسك تضرعا وخيفة ودون الجهر من القول بالغدو والآصال ولا تكن من الغافلين ) في الآية مسائل :
المسألة الأولى : اعلم أنه تعالى لما قال :(
nindex.php?page=tafseer&surano=7&ayano=204وإذا قرئ القرآن فاستمعوا له وأنصتوا ) اعلم أن قارئا يقرأ القرآن بصوت عال حتى يمكنهم استماع القرآن ، ومعلوم أن ذلك القارئ ليس إلا الرسول عليه السلام ، فكانت هذه الآية جارية مجرى أمر الله
محمدا صلى الله عليه وسلم بأن يقرأ القرآن على القوم بصوت عال رفيع ، وإنما أمره بذلك ليحصل المقصود من تبليغ الوحي والرسالة .
ثم إنه تعالى أردف ذلك الأمر ، بأن أمره في هذه الآية بأن
nindex.php?page=treesubj&link=24582_24424يذكر ربه في نفسه ، والفائدة فيه : أن انتفاع الإنسان بالذكر إنما يكمل إذا وقع الذكر بهذه الصفة ، لأنه بهذا الشرط أقرب إلى الإخلاص والتضرع .
المسألة الثانية : أنه تعالى أمر رسوله بالذكر مقيدا بقيود :
القيد الأول :(
nindex.php?page=tafseer&surano=7&ayano=205واذكر ربك في نفسك ) والمراد بذكر الله في نفسه كونه عارفا بمعاني الأذكار التي يقولها بلسانه مستحضرا لصفات الكمال والعز والعلو والجلال والعظمة ، وذلك لأن
nindex.php?page=treesubj&link=24410الذكر باللسان إذا كان عاريا عن الذكر بالقلب كان عديم الفائدة ، ألا ترى أن الفقهاء أجمعوا على أن الرجل إذا قال : بعت واشتريت مع أنه لا يعرف معاني هذه الألفاظ ولا يفهم منها شيئا ، فإنه لا ينعقد البيع والشراء ، فكذا ههنا ، ويتفرع على ما ذكرنا أحكام :
الحكم الأول
سمعت أن بعض الأكابر من أصحاب القلوب كان إذا أراد أن يأمر واحدا من المريدين بالخلوة والذكر أمره بالخلوة والتصفية أربعين يوما ، ثم عند استكمال هذه المدة وحصول التصفية التامة ، يقرأ عليه الأسماء التسعة والتسعين ، ويقول لذلك المريد اعتبر حال قلبك عند سماع هذه الأسماء ، فكل اسم وجدت قلبك عند سماعه قوي تأثره وعظم شوقه ، فاعرف أن الله إنما يفتح أبواب المكاشفات عليك بواسطة المواظبة على ذكر ذلك الاسم بعينه ، وهذا طريق حسن لطيف في هذا الباب .
الحكم الثاني
قال المتكلمون : هذه الآية تدل على إثبات كلام النفس لأنه تعالى لما أمر رسوله بأن يذكر ربه في نفسه وجب الاعتراف بحصول الذكر النفساني ولا معنى لكلام النفس إلا ذلك .
[ ص: 87 ] فإن قالوا : لم لا يجوز أن يكون المراد من الذكر النفساني العلم والمعرفة ؟ .
قلنا : هذا باطل لأن الإنسان لا قدرة له على تحصيل العلم بالشيء ابتداء لأنه إما أن يطلبه حال حصوله أو حال عدم حصوله ، والأول باطل لأنه يقتضي تحصيل الحاصل وهو محال ، والثاني باطل لأن ما لا يكون متصورا كان الذهن غافلا عنه ، والغافل عن الشيء يمتنع كونه طالبا له ، فثبت أنه لا قدرة للإنسان على تحصيل التصورات ، فامتنع ورود الأمر به ، والآية دالة على ورود الأمر بالذكر النفساني ، فوجب أن يكون الذكر النفساني معنى مغايرا للمعرفة والعلم والتصور ، وذلك هو المطلوب .
الحكم الثالث
أنه تعالى قال :(
nindex.php?page=tafseer&surano=7&ayano=205واذكر ربك في نفسك ) ولم يقل : واذكر إلهك ولا سائر الأسماء ، وإنما سماه في هذا المقام باسم كونه ربا وأضاف نفسه إليه ، وكل ذلك يدل على نهاية الرحمة والتقريب والفضل والإحسان ، والمقصود منه أن يصير العبد فرحا عند سماع هذا الاسم ، لأن لفظ الرب مشعر بالتربية والفضل ، وعند سماع هذا الاسم يتذكر العبد أقسام نعم الله عليه ، وبالحقيقة لا يصل عقله إلى أقل أقسامها ، كما قال تعالى :(
nindex.php?page=tafseer&surano=14&ayano=34وإن تعدوا نعمة الله لا تحصوها ) [إبراهيم : 34 ، والنحل : 18] فعند انكشاف هذا المقام في القلب يقوى الرجاء ، فإذا سمع بعد ذلك قوله :(
nindex.php?page=tafseer&surano=7&ayano=205تضرعا وخيفة ) عظم الخوف ، وحينئذ تحصل في القلب موجبات الرجاء وموجبات الخوف ، وعنده يكمل الإيمان على ما قال عليه السلام : "
لو وزن nindex.php?page=treesubj&link=19898خوف المؤمن ورجاؤه لاعتدلا " إلا أن ههنا دقيقة ، وهي أن سماع لفظ الرب يوجب الرجاء ، وسماع لفظ التضرع والخيفة يوجب الخوف ، فلما وقع الابتداء بما يوجب الرجاء علمنا أن جانب الرجاء أقوى .
القيد الثاني من القيود المعتبرة في الذكر : حصول التضرع ، وإليه الإشارة بقوله تعالى :(
nindex.php?page=tafseer&surano=7&ayano=205تضرعا ) وهذا القيد معتبر ويدل عليه القرآن والمعقول . أما القرآن فقوله في سورة الأنعام :(
nindex.php?page=tafseer&surano=6&ayano=63قل من ينجيكم من ظلمات البر والبحر تدعونه تضرعا وخفية ) [الأنعام : 63] ، وأما المعقول : فلأن كمال حال الإنسان إنما يحصل بانكشاف أمرين :
أحدهما : عزة الربوبية ، وهذا المقصود إنما يتم بقوله :(
nindex.php?page=tafseer&surano=7&ayano=205واذكر ربك في نفسك ) .
الثاني : بمشاهدة ذلة العبودية ، وذلك إنما يكمل بقوله :(
nindex.php?page=tafseer&surano=7&ayano=205تضرعا ) فالانتقال من الذكر إلى
nindex.php?page=treesubj&link=24422_24426التضرع يشبه النزول من المعراج ، والانتقال من التضرع إلى الذكر يشبه الصعود ، وبهما يتم معراج الأرواح القدسية ، وههنا بحث وهو أن معرفة الله من لوازمها التضرع والخوف ، والذكر القلبي يمتنع انفكاكه عن التضرع والخوف ، فما الفائدة في اعتبار هذا التضرع والخوف ؟ وأجيب عنه بأن المعرفة لا يلزمها التضرع والخوف على الإطلاق ، لأنه ربما استحكم في عقل الإنسان أنه تعالى لا يعاقب أحدا ؛ لأن ذلك العقاب إيذاء للغير ، ولا فائدة للحق فيه ، وإذا كان كذلك لا يعذب ، فإذا اعتقد هذا لم يكمل التضرع والخوف؛ فلهذا السبب نص الله تعالى على أنه لا بد منه .
وأجيب عنه بأن الخوف على قسمين :
الأول : خوف العقاب ، وهو مقام المبتدئين .
والثاني : خوف الجلال وهو مقام المحققين ، وهذا الخوف ممتنع الزوال ، وكل من كان أعرف بجلال الله كان هذا الخوف في قلبه أكمل ، وأجيب عن هذا الجواب بأن لأصحاب المكاشفات مقامين : مكاشفة الجمال ، ومكاشفة الجلال ، فإذا كوشفوا بالجمال عاشوا ، وإذا كوشفوا بالجلال طاشوا ، ولا بد في مقام الذكر من رعاية الجانبين .
[ ص: 88 ] القيد الثالث : قوله :(
nindex.php?page=tafseer&surano=7&ayano=205وخيفة ) وفي قراءة أخرى : ( وخفية ) وقال
الزجاج : أصلها "خوفة" فقلبت الواو ياء لانكسار ما قبلها ، أقول هذا الخوف يقع على وجوه :
أحدها : خوف التقصير في الأعمال .
وثانيها :
nindex.php?page=treesubj&link=19998خوف الخاتمة ، والمحققون خوفهم من السابقة ، لأنه إنما يظهر في الخاتمة ما سبق الحكم به في الفاتحة ، ولذلك كان عليه السلام يقول : "جف القلم بما هو كائن إلى يوم القيامة" .
وثالثها : خوف أني كيف أقابل نعمة الله التي لا حصر لها ولا حد بطاعاتي الناقصة وأذكاري القاصرة ؟ وكان الشيخ
أبو بكر الواسطي يقول : الشكر شرك ، فسألوني عن هذه الكلمة فقلت : لعل المراد والله أعلم أن من حاول مقابلة وجوه إحسان الله بشكره فقد أشرك؛ لأن على هذا التقدير يصير كأن العبد يقول : منك النعمة ومني الشكر ، ولا شك أن هذا شرك ، فأما إذا
nindex.php?page=treesubj&link=19607_19611أتى بالشكر مع خوف التقصير ومع الاعتراف بالذل والخضوع فهناك يشم فيه رائحة العبودية .
وأما القراءة الثانية : وهو قوله : ( وخفية ) فالإخفاء في حق المبتدين يراد لصون الطاعات عن شوائب الرياء والسمعة ، وفي حق المنتهين المقربين منشؤه الغيرة ، وذلك لأن المحبة إذا استكملت أوجبت الغيرة ، فإذا كمل هذا التوغل وحصل الفناء ، وقع الذكر في حين الإخفاء بناء على قوله عليه السلام : "
من عرف الله كل لسانه " .
القيد الرابع : قوله :(
nindex.php?page=tafseer&surano=7&ayano=205ودون الجهر من القول ) والمراد منه أن يقع ذلك
nindex.php?page=treesubj&link=24582_24410_24424الذكر بحيث يكون متوسطا بين الجهر والمخافتة كما قال تعالى :(
nindex.php?page=tafseer&surano=17&ayano=110ولا تجهر بصلاتك ولا تخافت بها وابتغ بين ذلك سبيلا ) [الإسراء : 110] وقال عن
زكريا عليه السلام :(
nindex.php?page=tafseer&surano=19&ayano=3إذ نادى ربه نداء خفيا ) [مريم : 3] قال
nindex.php?page=showalam&ids=11ابن عباس : وتفسير قوله :(
nindex.php?page=tafseer&surano=7&ayano=205ودون الجهر من القول ) المعنى أن يذكر ربه على وجه يسمع نفسه ، فإن المراد حصول الذكر اللساني ، والذكر اللساني إذا كان بحيث يسمع نفسه فإنه يتأثر الخيال من ذلك الذكر ، وتأثر الخيال يوجب قوة في الذكر القلبي الروحاني ، ولا يزال يتقوى كل واحد من هذه الأركان الثلاثة ، وتنعكس أنوار هذه الأذكار من بعضها إلى بعض ، وتصير هذه الانعكاسات سببا لمزيد القوة والجلاء والانكشاف والترقي من حضيض ظلمات عالم الأجسام إلى أنوار مدبر النور والظلام .
(
nindex.php?page=tafseer&surano=7&ayano=205وَاذْكُرْ رَبَّكَ فِي نَفْسِكَ تَضَرُّعًا وَخِيفَةً وَدُونَ الْجَهْرِ مِنَ الْقَوْلِ بِالْغُدُوِّ وَالْآصَالِ وَلَا تَكُنْ مِنَ الْغَافِلِينَ )
قَوْلُهُ تَعَالَى :(
nindex.php?page=tafseer&surano=7&ayano=205وَاذْكُرْ رَبَّكَ فِي نَفْسِكَ تَضَرُّعًا وَخِيفَةً وَدُونَ الْجَهْرِ مِنَ الْقَوْلِ بِالْغُدُوِّ وَالْآصَالِ وَلَا تَكُنْ مِنَ الْغَافِلِينَ ) فِي الْآيَةِ مَسَائِلُ :
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى : اعْلَمْ أَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا قَالَ :(
nindex.php?page=tafseer&surano=7&ayano=204وَإِذَا قُرِئَ الْقُرْآنُ فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَأَنْصِتُوا ) اعْلَمْ أَنَّ قَارِئًا يَقْرَأُ الْقُرْآنَ بِصَوْتٍ عَالٍ حَتَّى يُمْكِنَهُمُ اسْتِمَاعُ الْقُرْآنَ ، وَمَعْلُومٌ أَنَّ ذَلِكَ الْقَارِئَ لَيْسَ إِلَّا الرَّسُولُ عَلَيْهِ السَّلَامُ ، فَكَانَتْ هَذِهِ الْآيَةُ جَارِيَةً مَجْرَى أَمْرِ اللَّهِ
مُحَمَّدًا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِأَنْ يَقْرَأَ الْقُرْآنَ عَلَى الْقَوْمِ بِصَوْتٍ عَالٍ رَفِيعٍ ، وَإِنَّمَا أَمَرَهُ بِذَلِكَ لِيَحْصُلَ الْمَقْصُودُ مِنْ تَبْلِيغِ الْوَحْيِ وَالرِّسَالَةِ .
ثُمَّ إِنَّهُ تَعَالَى أَرْدَفَ ذَلِكَ الْأَمْرَ ، بِأَنْ أَمَرَهُ فِي هَذِهِ الْآيَةِ بِأَنْ
nindex.php?page=treesubj&link=24582_24424يَذْكُرَ رَبَّهُ فِي نَفْسِهِ ، وَالْفَائِدَةُ فِيهِ : أَنَّ انْتِفَاعَ الْإِنْسَانِ بِالذِّكْرِ إِنَّمَا يَكْمُلُ إِذَا وَقَعَ الذِّكْرُ بِهَذِهِ الصِّفَةِ ، لِأَنَّهُ بِهَذَا الشَّرْطِ أَقْرَبُ إِلَى الْإِخْلَاصِ وَالتَّضَرُّعِ .
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ : أَنَّهُ تَعَالَى أَمَرَ رَسُولَهُ بِالذِّكْرِ مُقَيَّدًا بِقُيُودٍ :
الْقَيْدُ الْأَوَّلُ :(
nindex.php?page=tafseer&surano=7&ayano=205وَاذْكُرْ رَبَّكَ فِي نَفْسِكَ ) وَالْمُرَادُ بِذِكْرِ اللَّهِ فِي نَفْسِهِ كَوْنُهُ عَارِفًا بِمَعَانِي الْأَذْكَارِ الَّتِي يَقُولُهَا بِلِسَانِهِ مُسْتَحْضِرًا لِصِفَاتِ الْكَمَالِ وَالْعِزِّ وَالْعُلُوِّ وَالْجَلَالِ وَالْعَظَمَةِ ، وَذَلِكَ لِأَنَّ
nindex.php?page=treesubj&link=24410الذِّكْرَ بِاللِّسَانِ إِذَا كَانَ عَارِيًا عَنِ الذِّكْرِ بِالْقَلْبِ كَانَ عَدِيمَ الْفَائِدَةِ ، أَلَا تَرَى أَنَّ الْفُقَهَاءَ أَجْمَعُوا عَلَى أَنَّ الرَّجُلَ إِذَا قَالَ : بِعْتُ وَاشْتَرَيْتُ مَعَ أَنَّهُ لَا يَعْرِفُ مَعَانِيَ هَذِهِ الْأَلْفَاظِ وَلَا يَفْهَمُ مِنْهَا شَيْئًا ، فَإِنَّهُ لَا يَنْعَقِدُ الْبَيْعُ وَالشِّرَاءُ ، فَكَذَا هَهُنَا ، وَيَتَفَرَّعُ عَلَى مَا ذَكَرْنَا أَحْكَامٌ :
الْحُكْمُ الْأَوَّلُ
سَمِعْتُ أَنَّ بَعْضَ الْأَكَابِرِ مِنْ أَصْحَابِ الْقُلُوبِ كَانَ إِذَا أَرَادَ أَنْ يَأْمُرَ وَاحِدًا مِنَ الْمُرِيدِينَ بِالْخَلْوَةِ وَالذِّكْرِ أَمَرَهُ بِالْخَلْوَةِ وَالتَّصْفِيَةِ أَرْبَعِينَ يَوْمًا ، ثُمَّ عِنْدَ اسْتِكْمَالِ هَذِهِ الْمُدَّةِ وَحُصُولِ التَّصْفِيَةِ التَّامَّةِ ، يَقْرَأُ عَلَيْهِ الْأَسْمَاءَ التِّسْعَةَ وَالتِّسْعِينَ ، وَيَقُولُ لِذَلِكَ الْمُرِيدِ اعْتَبِرْ حَالَ قَلْبِكَ عِنْدَ سَمَاعِ هَذِهِ الْأَسْمَاءِ ، فَكُلُّ اسْمٍ وَجَدْتَ قَلْبَكَ عِنْدَ سَمَاعِهِ قَوِيَ تَأَثُّرُهُ وَعَظُمَ شَوْقُهُ ، فَاعْرِفْ أَنَّ اللَّهَ إِنَّمَا يَفْتَحُ أَبْوَابَ الْمُكَاشَفَاتِ عَلَيْكَ بِوَاسِطَةِ الْمُوَاظَبَةِ عَلَى ذِكْرِ ذَلِكَ الِاسْمِ بِعَيْنِهِ ، وَهَذَا طَرِيقٌ حَسَنٌ لَطِيفٌ فِي هَذَا الْبَابِ .
الْحُكْمُ الثَّانِي
قَالَ الْمُتَكَلِّمُونَ : هَذِهِ الْآيَةُ تَدُلُّ عَلَى إِثْبَاتِ كَلَامِ النَّفْسِ لِأَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا أَمَرَ رَسُولَهُ بِأَنْ يَذْكُرَ رَبَّهُ فِي نَفْسِهِ وَجَبَ الِاعْتِرَافُ بِحُصُولِ الذِّكْرِ النَّفْسَانِيِّ وَلَا مَعْنَى لِكَلَامِ النَّفْسِ إِلَّا ذَلِكَ .
[ ص: 87 ] فَإِنْ قَالُوا : لِمَ لَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ مِنَ الذِّكْرِ النَّفْسَانِيِّ الْعِلْمَ وَالْمَعْرِفَةَ ؟ .
قُلْنَا : هَذَا بَاطِلٌ لِأَنَّ الْإِنْسَانَ لَا قُدْرَةَ لَهُ عَلَى تَحْصِيلِ الْعِلْمِ بِالشَّيْءِ ابْتِدَاءً لِأَنَّهُ إِمَّا أَنْ يَطْلُبَهُ حَالَ حُصُولِهِ أَوْ حَالَ عَدَمِ حُصُولِهِ ، وَالْأَوَّلُ بَاطِلٌ لِأَنَّهُ يَقْتَضِي تَحْصِيلَ الْحَاصِلِ وَهُوَ مُحَالٌ ، وَالثَّانِي بَاطِلٌ لِأَنَّ مَا لَا يَكُونُ مُتَصَوَّرًا كَانَ الذِّهْنُ غَافِلًا عَنْهُ ، وَالْغَافِلُ عَنِ الشَّيْءِ يَمْتَنِعُ كَوْنُهُ طَالِبًا لَهُ ، فَثَبَتَ أَنَّهُ لَا قُدْرَةَ لِلْإِنْسَانِ عَلَى تَحْصِيلِ التَّصَوُّرَاتِ ، فَامْتَنَعَ وُرُودُ الْأَمْرِ بِهِ ، وَالْآيَةُ دَالَّةٌ عَلَى وُرُودِ الْأَمْرِ بِالذِّكْرِ النَّفْسَانِيِّ ، فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ الذِّكْرُ النَّفْسَانِيُّ مَعْنًى مُغَايِرًا لِلْمَعْرِفَةِ وَالْعِلْمِ وَالتَّصَوُّرِ ، وَذَلِكَ هُوَ الْمَطْلُوبُ .
الْحُكْمُ الثَّالِثُ
أَنَّهُ تَعَالَى قَالَ :(
nindex.php?page=tafseer&surano=7&ayano=205وَاذْكُرْ رَبَّكَ فِي نَفْسِكَ ) وَلَمْ يَقُلْ : وَاذْكُرْ إِلَهَكَ وَلَا سَائِرَ الْأَسْمَاءِ ، وَإِنَّمَا سَمَّاهُ فِي هَذَا الْمَقَامِ بِاسْمِ كَوْنِهِ رَبًّا وَأَضَافَ نَفْسَهُ إِلَيْهِ ، وَكُلُّ ذَلِكَ يَدُلُّ عَلَى نِهَايَةِ الرَّحْمَةِ وَالتَّقْرِيبِ وَالْفَضْلِ وَالْإِحْسَانِ ، وَالْمَقْصُودُ مِنْهُ أَنْ يَصِيرَ الْعَبْدُ فَرِحًا عِنْدَ سَمَاعِ هَذَا الِاسْمِ ، لِأَنَّ لَفْظَ الرَّبِّ مُشْعِرٌ بِالتَّرْبِيَةِ وَالْفَضْلِ ، وَعِنْدَ سَمَاعِ هَذَا الِاسْمِ يَتَذَكَّرُ الْعَبْدُ أَقْسَامَ نِعَمِ اللَّهِ عَلَيْهِ ، وَبِالْحَقِيقَةِ لَا يَصِلُ عَقْلُهُ إِلَى أَقَلِّ أَقْسَامِهَا ، كَمَا قَالَ تَعَالَى :(
nindex.php?page=tafseer&surano=14&ayano=34وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لَا تُحْصُوهَا ) [إِبْرَاهِيمَ : 34 ، وَالنَّحْلِ : 18] فَعِنْدَ انْكِشَافِ هَذَا الْمَقَامِ فِي الْقَلْبِ يَقْوَى الرَّجَاءُ ، فَإِذَا سَمِعَ بَعْدَ ذَلِكَ قَوْلَهُ :(
nindex.php?page=tafseer&surano=7&ayano=205تَضَرُّعًا وَخِيفَةً ) عَظُمَ الْخَوْفُ ، وَحِينَئِذٍ تَحْصُلُ فِي الْقَلْبِ مُوجِبَاتُ الرَّجَاءِ وَمُوجِبَاتُ الْخَوْفِ ، وَعِنْدَهُ يَكْمُلُ الْإِيمَانُ عَلَى مَا قَالَ عَلَيْهِ السَّلَامُ : "
لَوْ وُزِنَ nindex.php?page=treesubj&link=19898خَوْفُ الْمُؤْمِنِ وَرَجَاؤُهُ لَاعْتَدَلَا " إِلَّا أَنَّ هَهُنَا دَقِيقَةً ، وَهِيَ أَنَّ سَمَاعَ لَفْظِ الرَّبِّ يُوجِبُ الرَّجَاءَ ، وَسَمَاعَ لَفْظِ التَّضَرُّعِ وَالْخِيفَةِ يُوجِبُ الْخَوْفَ ، فَلَمَّا وَقَعَ الِابْتِدَاءُ بِمَا يُوجِبُ الرَّجَاءَ عَلِمْنَا أَنْ جَانِبَ الرَّجَاءِ أَقْوَى .
الْقَيْدُ الثَّانِي مِنَ الْقُيُودِ الْمُعْتَبَرَةِ فِي الذِّكْرِ : حُصُولُ التَّضَرُّعِ ، وَإِلَيْهِ الْإِشَارَةُ بِقَوْلِهِ تَعَالَى :(
nindex.php?page=tafseer&surano=7&ayano=205تَضَرُّعًا ) وَهَذَا الْقَيْدُ مُعْتَبَرٌ وَيَدُلُّ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ وَالْمَعْقُولُ . أَمَّا الْقُرْآنُ فَقَوْلُهُ فِي سُورَةِ الْأَنْعَامِ :(
nindex.php?page=tafseer&surano=6&ayano=63قُلْ مَنْ يُنَجِّيكُمْ مِنْ ظُلُمَاتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ تَدْعُونَهُ تَضَرُّعًا وَخُفْيَةً ) [الْأَنْعَامِ : 63] ، وَأَمَّا الْمَعْقُولُ : فَلِأَنَّ كَمَالَ حَالِ الْإِنْسَانِ إِنَّمَا يَحْصُلُ بِانْكِشَافِ أَمْرَيْنِ :
أَحَدُهُمَا : عِزَّةُ الرُّبُوبِيَّةِ ، وَهَذَا الْمَقْصُودُ إِنَّمَا يَتِمُّ بِقَوْلِهِ :(
nindex.php?page=tafseer&surano=7&ayano=205وَاذْكُرْ رَبَّكَ فِي نَفْسِكَ ) .
الثَّانِي : بِمُشَاهَدَةِ ذِلَّةِ الْعُبُودِيَّةِ ، وَذَلِكَ إِنَّمَا يَكْمُلُ بِقَوْلِهِ :(
nindex.php?page=tafseer&surano=7&ayano=205تَضَرُّعًا ) فَالِانْتِقَالُ مِنَ الذِّكْرِ إِلَى
nindex.php?page=treesubj&link=24422_24426التَّضَرُّعِ يُشْبِهُ النُّزُولَ مِنَ الْمِعْرَاجِ ، وَالِانْتِقَالُ مِنَ التَّضَرُّعِ إِلَى الذِّكْرِ يُشْبِهُ الصُّعُودَ ، وَبِهِمَا يَتِمُّ مِعْرَاجُ الْأَرْوَاحِ الْقُدْسِيَّةِ ، وَهَهُنَا بَحْثٌ وَهُوَ أَنَّ مَعْرِفَةَ اللَّهِ مِنْ لَوَازِمِهَا التَّضَرُّعُ وَالْخَوْفُ ، وَالذِّكْرُ الْقَلْبِيُّ يَمْتَنِعُ انْفِكَاكُهُ عَنِ التَّضَرُّعِ وَالْخَوْفِ ، فَمَا الْفَائِدَةُ فِي اعْتِبَارِ هَذَا التَّضَرُّعِ وَالْخَوْفِ ؟ وَأُجِيبَ عَنْهُ بِأَنَّ الْمَعْرِفَةَ لَا يَلْزَمُهَا التَّضَرُّعُ وَالْخَوْفُ عَلَى الْإِطْلَاقِ ، لِأَنَّهُ رُبَّمَا اسْتَحْكَمَ فِي عَقْلِ الْإِنْسَانِ أَنَّهُ تَعَالَى لَا يُعَاقِبُ أَحَدًا ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ الْعِقَابَ إِيذَاءٌ لِلْغَيْرِ ، وَلَا فَائِدَةَ لِلْحَقِّ فِيهِ ، وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ لَا يُعَذِّبُ ، فَإِذَا اعْتَقَدَ هَذَا لَمْ يَكْمُلِ التَّضَرُّعُ وَالْخَوْفُ؛ فَلِهَذَا السَّبَبِ نَصَّ اللَّهُ تَعَالَى عَلَى أَنَّهُ لَا بُدَّ مِنْهُ .
وَأُجِيبَ عَنْهُ بِأَنَّ الْخَوْفَ عَلَى قِسْمَيْنِ :
الْأَوَّلُ : خَوْفُ الْعِقَابِ ، وَهُوَ مَقَامُ الْمُبْتَدِئِينَ .
وَالثَّانِي : خَوْفُ الْجَلَالِ وَهُوَ مَقَامُ الْمُحَقِّقِينَ ، وَهَذَا الْخَوْفُ مُمْتَنِعُ الزَّوَالِ ، وَكُلُّ مَنْ كَانَ أَعْرَفَ بِجَلَالِ اللَّهِ كَانَ هَذَا الْخَوْفُ فِي قَلْبِهِ أَكْمَلَ ، وَأُجِيبَ عَنْ هَذَا الْجَوَابِ بِأَنَّ لِأَصْحَابِ الْمُكَاشَفَاتِ مَقَامَيْنِ : مُكَاشَفَةُ الْجَمَالِ ، وَمُكَاشَفَةُ الْجَلَالِ ، فَإِذَا كُوشِفُوا بِالْجَمَالِ عَاشُوا ، وَإِذَا كُوشِفُوا بِالْجَلَالِ طَاشُوا ، وَلَا بُدَّ فِي مَقَامِ الذِّكْرِ مِنْ رِعَايَةِ الْجَانِبَيْنِ .
[ ص: 88 ] الْقَيْدُ الثَّالِثُ : قَوْلُهُ :(
nindex.php?page=tafseer&surano=7&ayano=205وَخِيفَةً ) وَفِي قِرَاءَةٍ أُخْرَى : ( وَخِفْيَةً ) وَقَالَ
الزَّجَّاجُ : أَصْلُهَا "خِوْفَةً" فَقُلِبَتِ الْوَاوُ يَاءً لِانْكِسَارِ مَا قَبْلَهَا ، أَقُولُ هَذَا الْخَوْفُ يَقَعُ عَلَى وُجُوهٍ :
أَحَدُهَا : خَوْفُ التَّقْصِيرِ فِي الْأَعْمَالِ .
وَثَانِيهَا :
nindex.php?page=treesubj&link=19998خَوْفُ الْخَاتِمَةِ ، وَالْمُحَقِّقُونَ خَوْفُهُمْ مِنَ السَّابِقَةِ ، لِأَنَّهُ إِنَّمَا يَظْهَرُ فِي الْخَاتِمَةِ مَا سَبَقَ الْحُكْمُ بِهِ فِي الْفَاتِحَةِ ، وَلِذَلِكَ كَانَ عَلَيْهِ السَّلَامُ يَقُولُ : "جَفَّ الْقَلَمُ بِمَا هُوَ كَائِنٌ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ" .
وَثَالِثُهَا : خَوْفُ أَنِّي كَيْفَ أُقَابِلُ نِعْمَةَ اللَّهِ الَّتِي لَا حَصْرَ لَهَا وَلَا حَدَّ بِطَاعَاتِي النَّاقِصَةِ وَأَذْكَارِي الْقَاصِرَةِ ؟ وَكَانَ الشَّيْخُ
أَبُو بَكْرٍ الْوَاسِطِيُّ يَقُولُ : الشُّكْرُ شِرْكٌ ، فَسَأَلُونِي عَنْ هَذِهِ الْكَلِمَةِ فَقُلْتُ : لَعَلَّ الْمُرَادَ وَاللَّهُ أَعْلَمُ أَنَّ مَنْ حَاوَلَ مُقَابَلَةَ وُجُوهِ إِحْسَانِ اللَّهِ بِشُكْرِهِ فَقَدْ أَشْرَكَ؛ لِأَنَّ عَلَى هَذَا التَّقْدِيرِ يَصِيرُ كَأَنَّ الْعَبْدَ يَقُولُ : مِنْكَ النِّعْمَةُ وَمِنِّي الشُّكْرُ ، وَلَا شَكَّ أَنَّ هَذَا شِرْكٌ ، فَأَمَّا إِذَا
nindex.php?page=treesubj&link=19607_19611أَتَى بِالشُّكْرِ مَعَ خَوْفِ التَّقْصِيرِ وَمَعَ الِاعْتِرَافِ بِالذُّلِّ وَالْخُضُوعِ فَهُنَاكَ يُشَمُّ فِيهِ رَائِحَةُ الْعُبُودِيَّةِ .
وَأَمَّا الْقِرَاءَةُ الثَّانِيَةُ : وَهُوَ قَوْلُهُ : ( وَخُفْيَةً ) فَالْإِخْفَاءُ فِي حَقِّ الْمُبْتَدِينَ يُرَادُ لِصَوْنِ الطَّاعَاتِ عَنْ شَوَائِبِ الرِّيَاءِ وَالسُّمْعَةِ ، وَفِي حَقِّ الْمُنْتَهِينَ الْمُقَرَّبِينَ مَنْشَؤُهُ الْغَيْرَةُ ، وَذَلِكَ لِأَنَّ الْمَحَبَّةَ إِذَا اسْتَكْمَلَتْ أَوْجَبَتِ الْغَيْرَةَ ، فَإِذَا كَمُلَ هَذَا التَّوَغُّلُ وَحَصَلَ الْفَنَاءُ ، وَقَعَ الذِّكْرُ فِي حِينِ الْإِخْفَاءِ بِنَاءً عَلَى قَوْلِهِ عَلَيْهِ السَّلَامُ : "
مَنْ عَرَفَ اللَّهَ كَلَّ لِسَانُهُ " .
الْقَيْدُ الرَّابِعُ : قَوْلُهُ :(
nindex.php?page=tafseer&surano=7&ayano=205وَدُونَ الْجَهْرِ مِنَ الْقَوْلِ ) وَالْمُرَادُ مِنْهُ أَنْ يَقَعَ ذَلِكَ
nindex.php?page=treesubj&link=24582_24410_24424الذِّكْرُ بِحَيْثُ يَكُونُ مُتَوَسِّطًا بَيْنَ الْجَهْرِ وَالْمُخَافَتَةِ كَمَا قَالَ تَعَالَى :(
nindex.php?page=tafseer&surano=17&ayano=110وَلَا تَجْهَرْ بِصَلَاتِكَ وَلَا تُخَافِتْ بِهَا وَابْتَغِ بَيْنَ ذَلِكَ سَبِيلًا ) [الْإِسْرَاءُ : 110] وَقَالَ عَنْ
زَكَرِيَّا عَلَيْهِ السَّلَامُ :(
nindex.php?page=tafseer&surano=19&ayano=3إِذْ نَادَى رَبَّهُ نِدَاءً خَفِيًّا ) [مَرْيَمَ : 3] قَالَ
nindex.php?page=showalam&ids=11ابْنُ عَبَّاسٍ : وَتَفْسِيرُ قَوْلِهِ :(
nindex.php?page=tafseer&surano=7&ayano=205وَدُونَ الْجَهْرِ مِنَ الْقَوْلِ ) الْمَعْنَى أَنْ يَذْكُرَ رَبَّهُ عَلَى وَجْهٍ يُسْمِعُ نَفْسَهُ ، فَإِنَّ الْمُرَادَ حُصُولُ الذِّكْرِ اللِّسَانِيِّ ، وَالذِّكْرُ اللِّسَانِيُّ إِذَا كَانَ بِحَيْثُ يُسْمِعُ نَفْسَهُ فَإِنَّهُ يَتَأَثَّرُ الْخَيَالُ مِنْ ذَلِكَ الذِّكْرِ ، وَتَأَثُّرُ الْخَيَالِ يُوجِبُ قُوَّةً فِي الذِّكْرِ الْقَلْبِيِّ الرُّوحَانِيِّ ، وَلَا يَزَالُ يَتَقَوَّى كُلُّ وَاحِدٍ مِنْ هَذِهِ الْأَرْكَانِ الثَّلَاثَةِ ، وَتَنْعَكِسُ أَنْوَارُ هَذِهِ الْأَذْكَارِ مِنْ بَعْضِهَا إِلَى بَعْضٍ ، وَتَصِيرُ هَذِهِ الِانْعِكَاسَاتُ سَبَبًا لِمَزِيدِ الْقُوَّةِ وَالْجَلَاءِ وَالِانْكِشَافِ وَالتَّرَقِّي مِنْ حَضِيضِ ظُلُمَاتِ عَالَمِ الْأَجْسَامِ إِلَى أَنْوَارِ مُدَبِّرِ النُّورِ وَالظَّلَامِ .