الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                                                                            المسألة الرابعة : قوله تعالى :( واعلموا أن الله يحول بين المرء وقلبه ) يختلف تفسيره بحسب اختلاف [ ص: 119 ] الناس في الجبر والقدر . أما القائلون بالجبر ، فقال الواحدي حكاية عن ابن عباس والضحاك : يحول بين المرء الكافر وطاعته ، ويحول بين المرء المطيع ومعصيته ، فالسعيد من أسعده الله ، والشقي من أضله الله ، والقلوب بيد الله يقلبها كيف يشاء ، فإذا أراد الكافر أن يؤمن والله تعالى لا يريد إيمانه يحول بينه وبين قلبه ، وإذا أراد المؤمن أن يكفر والله لا يريد كفره حال بينه وبين قلبه .

                                                                                                                                                                                                                                            قلت : وقد دللنا بالبراهين العقلية على صحة أن الأمر كذلك وذلك لأن الأحوال القلبية إما العقائد وإما الإرادات والدواعي . أما العقائد : فهي إما العلم ، وإما الجهل . أما العلم فيمتنع أن يقصد الفاعل إلى تحصيله إلا إذا علم كونه علما ، ولا يعلم ذلك إلا إذا علم كون ذلك الاعتقاد مطابقا للمعلوم ، ولا يعلم ذلك إلا إذا سبق علمه بالمعلوم ، وذلك يوجب توقف الشيء على نفسه ، وأما الجهل فالإنسان البتة لا يختاره ولا يريده إلا إذا ظن أن ذلك الاعتقاد علم ، ولا يحصل له هذا الظن إلا بسبق جهل آخر ، وذلك أيضا يوجب توقف الشيء على نفسه

                                                                                                                                                                                                                                            وأما الدواعي والإرادات فحصولها إن لم يكن بفاعل يلزم الحدوث لا عن محدث ، وإن كان بفاعل فذلك الفاعل إما العبد وإما الله تعالى ، والأول باطل ، وإلا لزم توقف ذلك القصد على قصد آخر وهو محال ، فتعين أن يكون فاعل الاعتقادات والإرادات والدواعي هو الله تعالى ، فنص القرآن دل على أن أحوال القلوب من الله ، والدلائل العقلية دلت على ذلك ، فثبت أن الحق ما ذكرناه . أما القائلون بالقدر فقالوا : لا يجوز أن يكون المراد من هذه الآية ما ذكرتم ، وبيانه من وجوه :

                                                                                                                                                                                                                                            الوجه الأول : قال الجبائي : إن من حال الله بينه وبين الإيمان فهو عاجز ، وأمر العاجز سفه ، ولو جاز ذلك لجاز أن يأمرنا الله بصعود السماء ، وقد أجمعوا على أن الزمن لا يؤمر بالصلاة قائما ، فكيف يجوز ذلك على الله تعالى ؟ وقد قال تعالى :( لا يكلف الله نفسا إلا وسعها ) [البقرة : 286] وقال في المظاهر :( فمن لم يستطع فإطعام ستين مسكينا ) [المجادلة : 4] فأسقط فرض الصوم عمن لا يستطيعه .

                                                                                                                                                                                                                                            الوجه الثاني : أن الله تعالى أمر بالاستجابة لله وللرسول ، وذكر هذا الكلام في معرض الذكر والتحذير عن ترك الإجابة ، ولو كان المراد ما ذكرتم لكان ذلك عذرا قويا في ترك الإجابة ، ولا يكون زجرا عن ترك الإجابة .

                                                                                                                                                                                                                                            الوجه الثالث : أنه تعالى أنزل القرآن ليكون حجة للرسول على الكفار ، لا ليكون حجة للكفار على الرسول ، ولو كان المعنى ما ذكرتم لصارت هذه الآية من أقوى الدلائل للكفار على الرسول ، ولقالوا إنه تعالى لما منعنا من الإيمان فكيف يأمرنا به ؟ فثبت بهذه الوجوه أنه لا يمكن حمل الآية على ما قاله أهل الجبر .

                                                                                                                                                                                                                                            قالوا ونحن نذكر في الآية وجوها :

                                                                                                                                                                                                                                            الأول : أن الله تعالى يحول بين المرء وبين الانتفاع بقلبه بسبب الموت ، يعني بذلك أن تبادروا في الاستجابة فيما ألزمتكم من الجهاد وغيره قبل أن يأتيكم الموت الذي لا بد منه ويحول بينكم وبين الطاعة والتوبة . قال القاضي : ولذلك قال تعالى عقيبه ما يدل عليه وهو قوله :( وأنه إليه تحشرون ) والمقصود من هذه الآية الحث على الطاعة قبل نزول الموت الذي يمنع منها .

                                                                                                                                                                                                                                            الثاني : أن المراد أنه تعالى يحول بين المرء وبين ما يتمناه ويريده بقلبه ، فإن الأجل يحول دون الأمل ، فكأنه قال : بادروا إلى الأعمال الصالحة ولا تعتمدوا على ما يقع في قلوبكم من توقع طول البقاء ، فإن ذلك غير موثوق به ، وإنما حسن إطلاق لفظ القلب على الأماني الحاصلة في القلب لأن تسمية الشيء باسم ظرفه جائزة كقولهم : سال [ ص: 120 ] الوادي .

                                                                                                                                                                                                                                            الثالث : أن المؤمنين كانوا خائفين من القتال يوم بدر ، فكأنه قيل لهم : سارعوا إلى الطاعة ولا تتمنعوا عنها بسبب ما تجدون في قلوبكم من الضعف والجبن ، فإن الله تعالى يغير تلك الأحوال فيبدل الضعف بالقوة ، والجبن بالشجاعة ، لأنه تعالى مقلب القلوب .

                                                                                                                                                                                                                                            الرابع : قال مجاهد : المراد من القلب ههنا العقل ، فكان المعنى أنه يحول بين المرء وقلبه ، والمعنى فبادروا إلى الأعمال وأنتم تعقلون ، فإنكم لا تأمنون زوال العقول التي عند ارتفاعها يبطل التكليف . وجعل القلب كناية عن العقل جائز ، كما قال تعالى :( إن في ذلك لذكرى لمن كان له قلب ) [ق : 37] أي لمن كان له عقل .

                                                                                                                                                                                                                                            الخامس : قال الحسن : معناه أن الله حائل بين المرء وقلبه ، والمعنى أن قربه تعالى من عبده أشد من قرب قلب العبد منه ، والمقصود منه التنبيه على أنه تعالى لا يخفى عليه شيء مما في باطن العبد ومما في ضميره ، ونظيره قوله تعالى :( ونحن أقرب إليه من حبل الوريد ) [ق : 16] فهذه جملة الوجوه المذكورة في هذا الباب لأصحاب الجبر والقدر .

                                                                                                                                                                                                                                            ثم قال تعالى :( وأنه إليه تحشرون ) أي واعلموا أنكم إليه تحشرون أي إلى الله ولا تتركون مهملين معطلين ، وفيه ترغيب شديد في العمل وتحذير عن الكسل والغفلة .

                                                                                                                                                                                                                                            التالي السابق


                                                                                                                                                                                                                                            الخدمات العلمية