ثم قال :(
nindex.php?page=tafseer&surano=8&ayano=47ولا تكونوا كالذين خرجوا من ديارهم بطرا ورئاء الناس ويصدون عن سبيل الله ) قال المفسرون : المراد
nindex.php?page=treesubj&link=29313قريش حين خرجوا من مكة لحفظ العير ، فلما وردوا
الجحفة بعث
الحقاف الكناني وكان صديقا
لأبي جهل إليه بهدايا مع ابن له ، فلما أتاه قال : إن أبي ينعمك صباحا ويقول لك : إن شئت أن أمدك بالرجال أمددتك ، وإن شئت أن أزحف إليك بمن معي من قرابتي فعلت ، فقال
أبو جهل : قل لأبيك جزاك الله والرحم خيرا ، إن كنا نقاتل الله كما يزعم
محمد فوالله ما لنا بالله من طاقة ، وإن كنا نقاتل الناس فوالله إن بنا على الناس لقوة ، والله ما نرجع عن قتال
محمد حتى نرد
بدرا فنشرب فيها الخمور وتعزف علينا فيها القيان ، فإن
بدرا موسم من مواسم العرب ، وسوق من أسواقهم حتى تسمع العرب بهذه الواقعة ، قال المفسرون : فوردوا
بدرا وشربوا كئوس المنايا مكان الخمر ، وناحت عليهم النوائح مكان القيان .
واعلم أنه تعالى وصفهم بثلاثة أشياء :
الأول : البطر ، قال
الزجاج :
nindex.php?page=treesubj&link=24623البطر الطغيان في النعمة . والتحقيق أن النعم إذا كثرت من الله على العبد فإن صرفها إلى مرضاته وعرف أنها من الله تعالى فذاك هو الشكر ، وأما إن توسل بها إلى المفاخرة على الأقران والمكاثرة على أهل الزمان فذاك هو البطر .
والثاني : قوله :(
nindex.php?page=tafseer&surano=8&ayano=47ورئاء الناس ) والرئاء عبارة عن القصد إلى إظهار الجميل مع أن باطنه يكون قبيحا ، والفرق بينه وبين النفاق أن
nindex.php?page=treesubj&link=19228النفاق إظهار الإيمان مع إبطان الكفر ،
nindex.php?page=treesubj&link=18691والرئاء إظهار الطاعة مع إبطان المعصية ، روي أنه صلى الله عليه وسلم لما رآهم في موقف
بدر قال : "
اللهم إن قريشا أقبلت بفخرها وخيلائها لمعارضة دينك ومحاربة رسولك " .
والثالث : قوله :(
nindex.php?page=tafseer&surano=8&ayano=47ويصدون عن )
[ ص: 139 ] (
nindex.php?page=tafseer&surano=8&ayano=47سبيل الله ) فعل مضارع
nindex.php?page=treesubj&link=34077وعطف الفعل على الاسم غير حسن ، وذكر
الواحدي فيه ثلاثة أوجه :
الأول : أن يكون قوله :(
nindex.php?page=tafseer&surano=8&ayano=47ويصدون عن سبيل الله ) بمنزلة صادين .
والثاني : أن يكون قوله :(
nindex.php?page=tafseer&surano=8&ayano=47بطرا ورئاء ) بمنزلة يبطرون ويراءون .
وأقول : إن شيئا من هذه الوجوه لا يشفي الغليل ؛ لأنه تارة يقيم الفعل مقام الاسم وأخرى يقيم الاسم مقام الفعل ، ليصح له كون الكلمة معطوفة على جنسها ، وكان من الواجب عليه أن يذكر السبب الذي لأجله عبر عن الأولين بالمصدر ، وعن الثالث بالفعل ، وأقول : إن الشيخ
nindex.php?page=showalam&ids=13990عبد القاهر الجرجاني ذكر أن الاسم يدل على التمكين والاستمرار ، والفعل على التجدد والحدوث ، قال : ومثاله في الاسم قوله تعالى :(
nindex.php?page=tafseer&surano=18&ayano=18وكلبهم باسط ذراعيه بالوصيد ) [الكهف : 18] وذلك يقتضي كون تلك الحالة ثابتة راسخة ، ومثال الفعل قوله تعالى :(
nindex.php?page=tafseer&surano=10&ayano=31قل من يرزقكم من السماء والأرض ) [يونس : 31] وذلك يدل على أنه تعالى يوصل الرزق إليهم ساعة فساعة ، هذا ما ذكره الشيخ
عبد القاهر .
إذا عرفت هذا فنقول : إن
أبا جهل ورهطه وشيعته كانوا مجبولين على البطر والمفاخرة والعجب ، وأما صدهم عن سبيل الله فإنما حصل في الزمان الذي ادعى
محمد عليه الصلاة والسلام النبوة ؛ ولهذا السبب ذكر البطر والرئاء بصيغة الاسم ، وذكر الصد عن سبيل الله بصيغة الفعل والله أعلم .
وحاصل الكلام : أنه تعالى أمرهم عند لقاء العدو بالثبات والاشتغال بذكر الله ، ومنعهم من أن يكون الحامل لهم على ذلك الثبات البطر والرئاء ، بل أوجب عليهم أن يكون الحامل لهم عليه طلب عبودية الله .
واعلم أن حاصل القرآن من أوله إلى آخره دعوة الخلق من الاشتغال بالخلق ، وأمرهم بالعناء في طريق عبودية الحق ، والمعصية مع الانكسار أقرب إلى الإخلاص من الطاعة مع الافتخار ، ثم ختم هذه الآية بقوله :(
nindex.php?page=tafseer&surano=8&ayano=47والله بما يعملون محيط ) والمقصود أن الإنسان ربما أظهر من نفسه أن الحامل له والداعي إلى الفعل المخصوص طلب مرضاة الله تعالى مع أنه لا يكون الأمر كذلك في الحقيقة ، فبين تعالى كونه عالما بما في دواخل القلوب ، وذلك كالتهديد والزجر عن الرئاء والتصنع .
ثُمَّ قَالَ :(
nindex.php?page=tafseer&surano=8&ayano=47وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ خَرَجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ بَطَرًا وَرِئَاءَ النَّاسِ وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ ) قَالَ الْمُفَسِّرُونَ : الْمُرَادُ
nindex.php?page=treesubj&link=29313قُرَيْشٌ حِينَ خَرَجُوا مِنْ مَكَّةَ لِحِفْظِ الْعِيرِ ، فَلَمَّا وَرَدُوا
الْجُحْفَةَ بَعَثَ
الْحَقَّافُ الْكِنَانِيُّ وَكَانَ صَدِيقًا
لِأَبِي جَهْلٍ إِلَيْهِ بِهَدَايَا مَعَ ابْنٍ لَهُ ، فَلَمَّا أَتَاهُ قَالَ : إِنَّ أَبِي يُنْعِمُكَ صَبَاحًا وَيَقُولُ لَكَ : إِنْ شِئْتَ أَنْ أَمُدَّكَ بِالرِّجَالِ أَمْدَدْتُكَ ، وَإِنْ شِئْتَ أَنْ أَزْحَفَ إِلَيْكَ بِمَنْ مَعِي مِنْ قَرَابَتِي فَعَلْتُ ، فَقَالَ
أَبُو جَهْلٍ : قُلْ لِأَبِيكَ جَزَاكَ اللَّهُ وَالرَّحِمَ خَيْرًا ، إِنْ كُنَّا نُقَاتِلُ اللَّهَ كَمَا يَزْعُمُ
مُحَمَّدٌ فَوَاللَّهِ مَا لَنَا بِاللَّهِ مِنْ طَاقَةٍ ، وَإِنْ كُنَّا نُقَاتِلُ النَّاسَ فَوَاللَّهِ إِنَّ بِنَا عَلَى النَّاسِ لَقُوَّةً ، وَاللَّهِ مَا نَرْجِعُ عَنْ قِتَالِ
مُحَمَّدٍ حَتَّى نَرِدَ
بَدْرًا فَنَشْرَبَ فِيهَا الْخُمُورَ وَتَعْزِفَ عَلَيْنَا فِيهَا الْقِيَانُ ، فَإِنَّ
بَدْرًا مَوْسِمٌ مِنْ مَوَاسِمِ الْعَرَبِ ، وَسُوقٌ مِنْ أَسْوَاقِهِمْ حَتَّى تَسْمَعَ الْعَرَبُ بِهَذِهِ الْوَاقِعَةِ ، قَالَ الْمُفَسِّرُونَ : فَوَرَدُوا
بَدْرًا وَشَرِبُوا كُئُوسَ الْمَنَايَا مَكَانَ الْخَمْرِ ، وَنَاحَتْ عَلَيْهِمُ النَّوَائِحُ مَكَانَ الْقِيَانِ .
وَاعْلَمْ أَنَّهُ تَعَالَى وَصَفَهُمْ بِثَلَاثَةِ أَشْيَاءَ :
الْأَوَّلُ : الْبَطَرُ ، قَالَ
الزَّجَّاجُ :
nindex.php?page=treesubj&link=24623الْبَطَرُ الطُّغْيَانُ فِي النِّعْمَةِ . وَالتَّحْقِيقُ أَنَّ النِّعَمَ إِذَا كَثُرَتْ مِنَ اللَّهِ عَلَى الْعَبْدِ فَإِنْ صَرَفَهَا إِلَى مَرْضَاتِهِ وَعَرَفَ أَنَّهَا مِنَ اللَّهِ تَعَالَى فَذَاكَ هُوَ الشُّكْرُ ، وَأَمَّا إِنْ تَوَسَّلَ بِهَا إِلَى الْمُفَاخَرَةِ عَلَى الْأَقْرَانِ وَالْمُكَاثَرَةِ عَلَى أَهْلِ الزَّمَانِ فَذَاكَ هُوَ الْبَطَرُ .
وَالثَّانِي : قَوْلُهُ :(
nindex.php?page=tafseer&surano=8&ayano=47وَرِئَاءَ النَّاسِ ) وَالرِّئَاءُ عِبَارَةٌ عَنِ الْقَصْدِ إِلَى إِظْهَارِ الْجَمِيلِ مَعَ أَنَّ بَاطِنَهُ يَكُونُ قَبِيحًا ، وَالْفَرْقُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ النِّفَاقِ أَنَّ
nindex.php?page=treesubj&link=19228النِّفَاقَ إِظْهَارُ الْإِيمَانِ مَعَ إِبْطَانِ الْكُفْرِ ،
nindex.php?page=treesubj&link=18691وَالرِّئَاءُ إِظْهَارُ الطَّاعَةِ مَعَ إِبْطَانِ الْمَعْصِيَةِ ، رُوِيَ أَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمَّا رَآهُمْ فِي مَوْقِفِ
بَدْرٍ قَالَ : "
اللَّهُمَّ إِنَّ قُرَيْشًا أَقْبَلَتْ بِفَخْرِهَا وَخُيَلَائِهَا لِمُعَارَضَةِ دِينِكَ وَمُحَارَبَةِ رَسُولِكَ " .
وَالثَّالِثُ : قَوْلُهُ :(
nindex.php?page=tafseer&surano=8&ayano=47وَيَصُدُّونَ عَنْ )
[ ص: 139 ] (
nindex.php?page=tafseer&surano=8&ayano=47سَبِيلِ اللَّهِ ) فِعْلٌ مُضَارِعٌ
nindex.php?page=treesubj&link=34077وَعَطْفُ الْفِعْلِ عَلَى الِاسْمِ غَيْرُ حَسَنٍ ، وَذَكَرَ
الْوَاحِدِيُّ فِيهِ ثَلَاثَةَ أَوْجُهٍ :
الْأَوَّلُ : أَنْ يَكُونَ قَوْلُهُ :(
nindex.php?page=tafseer&surano=8&ayano=47وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ ) بِمَنْزِلَةِ صَادِّينَ .
وَالثَّانِي : أَنْ يَكُونَ قَوْلُهُ :(
nindex.php?page=tafseer&surano=8&ayano=47بَطَرًا وَرِئَاءَ ) بِمَنْزِلَةِ يَبْطَرُونَ وَيُرَاءُونَ .
وَأَقُولُ : إِنَّ شَيْئًا مِنْ هَذِهِ الْوُجُوهِ لَا يَشْفِي الْغَلِيلَ ؛ لِأَنَّهُ تَارَةً يُقِيمُ الْفِعْلَ مَقَامَ الِاسْمِ وَأُخْرَى يُقِيمُ الِاسْمَ مَقَامَ الْفِعْلِ ، لِيَصِحَّ لَهُ كَوْنُ الْكَلِمَةِ مَعْطُوفَةً عَلَى جِنْسِهَا ، وَكَانَ مِنَ الْوَاجِبِ عَلَيْهِ أَنْ يَذْكُرَ السَّبَبَ الَّذِي لِأَجْلِهِ عَبَّرَ عَنِ الْأَوَّلَيْنِ بِالْمَصْدَرِ ، وَعَنِ الثَّالِثِ بِالْفِعْلِ ، وَأَقُولُ : إِنَّ الشَّيْخَ
nindex.php?page=showalam&ids=13990عَبْدَ الْقَاهِرِ الْجُرْجَانِيَّ ذَكَرَ أَنَّ الِاسْمَ يَدُلُّ عَلَى التَّمْكِينِ وَالِاسْتِمْرَارِ ، وَالْفِعْلَ عَلَى التَّجَدُّدِ وَالْحُدُوثِ ، قَالَ : وَمِثَالُهُ فِي الِاسْمِ قَوْلُهُ تَعَالَى :(
nindex.php?page=tafseer&surano=18&ayano=18وَكَلْبُهُمْ بَاسِطٌ ذِرَاعَيْهِ بِالْوَصِيدِ ) [الْكَهْفِ : 18] وَذَلِكَ يَقْتَضِي كَوْنَ تِلْكَ الْحَالَةِ ثَابِتَةً رَاسِخَةً ، وَمِثَالُ الْفِعْلِ قَوْلُهُ تَعَالَى :(
nindex.php?page=tafseer&surano=10&ayano=31قُلْ مَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ ) [يُونُسَ : 31] وَذَلِكَ يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ تَعَالَى يُوصِلُ الرِّزْقَ إِلَيْهِمْ سَاعَةً فَسَاعَةً ، هَذَا مَا ذَكَرَهُ الشَّيْخُ
عَبْدُ الْقَاهِرِ .
إِذَا عَرَفْتَ هَذَا فَنَقُولُ : إِنَّ
أَبَا جَهْلٍ وَرَهْطَهُ وَشِيعَتَهُ كَانُوا مَجْبُولِينَ عَلَى الْبَطَرِ وَالْمُفَاخَرَةِ وَالْعُجْبِ ، وَأَمَّا صَدُّهُمْ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ فَإِنَّمَا حَصَلَ فِي الزَّمَانِ الَّذِي ادَّعَى
مُحَمَّدٌ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ النُّبُوَّةَ ؛ وَلِهَذَا السَّبَبِ ذَكَرَ الْبَطَرَ وَالرِّئَاءَ بِصِيغَةِ الِاسْمِ ، وَذَكَرَ الصَّدَّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ بِصِيغَةِ الْفِعْلِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ .
وَحَاصِلُ الْكَلَامِ : أَنَّهُ تَعَالَى أَمَرَهُمْ عِنْدَ لِقَاءِ الْعَدُوِّ بِالثَّبَاتِ وَالِاشْتِغَالِ بِذِكْرِ اللَّهِ ، وَمَنَعَهَمْ مِنْ أَنْ يَكُونَ الْحَامِلُ لَهُمْ عَلَى ذَلِكَ الثَّبَاتِ الْبَطَرَ وَالرِّئَاءَ ، بَلْ أَوْجَبَ عَلَيْهِمْ أَنْ يَكُونَ الْحَامِلُ لَهُمْ عَلَيْهِ طَلَبَ عُبُودِيَّةِ اللَّهِ .
وَاعْلَمْ أَنَّ حَاصِلَ الْقُرْآنِ مِنْ أَوَّلِهِ إِلَى آخِرِهِ دَعْوَةُ الْخَلْقِ مِنَ الِاشْتِغَالِ بِالْخَلْقِ ، وَأَمْرُهُمْ بِالْعَنَاءِ فِي طَرِيقِ عُبُودِيَّةِ الْحَقِّ ، وَالْمَعْصِيَةُ مَعَ الِانْكِسَارِ أَقْرَبُ إِلَى الْإِخْلَاصِ مِنَ الطَّاعَةِ مَعَ الِافْتِخَارِ ، ثُمَّ خَتَمَ هَذِهِ الْآيَةَ بِقَوْلِهِ :(
nindex.php?page=tafseer&surano=8&ayano=47وَاللَّهُ بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطٌ ) وَالْمَقْصُودُ أَنَّ الْإِنْسَانَ رُبَّمَا أَظْهَرَ مِنْ نَفْسِهِ أَنَّ الْحَامِلَ لَهُ وَالدَّاعِيَ إِلَى الْفِعْلِ الْمَخْصُوصِ طَلَبُ مَرْضَاةِ اللَّهِ تَعَالَى مَعَ أَنَّهُ لَا يَكُونُ الْأَمْرُ كَذَلِكَ فِي الْحَقِيقَةِ ، فَبَيَّنَ تَعَالَى كَوْنَهُ عَالِمًا بِمَا فِي دَوَاخِلِ الْقُلُوبِ ، وَذَلِكَ كَالتَّهْدِيدِ وَالزَّجْرِ عَنِ الرِّئَاءِ وَالتَّصَنُّعِ .