الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
صفحة جزء
[ ص: 165 ] فصل قد يقع التبيين متصلا، نحو: من الفجر . البقرة: 187، بعد قوله: الخيط الأبيض من الخيط الأسود . البقرة: 187. ومنفصلا في آية أخرى، نحو: فإن طلقها فلا تحل له من بعد حتى تنكح زوجا غيره ، بعد قوله: الطلاق مرتان ، فإنها بينت أن المراد به الطلاق الذي تملك الرجعة بعده، ولولاهما لكان الكل منحصرا في الطلقتين. وقد أخرج أحمد وأبو داود في ناسخه، وسعيد بن منصور وغيرهم، عن ابن سعيد الأسدي، قال: قال رجل: يا رسول الله، الطلاق مرتان، فأين الثالثة، قال: أو تسريح بإحسان. وأخرج ابن مردويه عن أنس، قال: قال رجل: يا رسول الله، ذكر الله الطلاق مرتين، فأين الثالثة، قال: فإمساك بمعروف أو تسريح بإحسان . وقوله: وجوه يومئذ ناضرة إلى ربها ناظرة . دال على جواز الرؤية، ويفسر أن المراد بقوله: لا تدركه الأبصار: لا تحيط به دون لا تراه. وقد أخرج ابن جرير من طريق العوفي، عن ابن عباس، في قوله: لا تدركه الأبصار ، قال: لا تحيط به. وأخرج عن عكرمة أنه قيل له عند ذكر الرؤية: أليس قد قال: لا تدركه الأبصار ، فقال: أفلست ترى السماء أفكلها ترى؟ وقوله تعالى: أحلت لكم بهيمة الأنعام إلا ما يتلى عليكم . فسره قوله: حرمت عليكم الميتة . وقوله: مالك يوم الدين . فسره قوله: وما أدراك ما [ ص: 166 ] يوم الدين ثم ما أدراك ما يوم الدين يوم لا تملك نفس . وقوله: فتلقى آدم من ربه كلمات . فسره قوله: قالا ربنا ظلمنا أنفسنا الآية . وقوله: وإذا بشر أحدهم بما ضرب للرحمن مثلا . فسره قوله في آية النحل: بالأنثى . وقوله: وأوفوا بعهدي أوف بعهدكم . قال العلماء: بيان هذا العهد قوله: لئن أقمتم الصلاة وآتيتم الزكاة وآمنتم برسلي . فهذا عهده. وعهدكم: لأكفرن عنكم سيئاتكم . وقوله: صراط الذين أنعمت عليهم . بينه قوله: فأولئك مع الذين أنعم الله عليهم من النبيين الآية. وقد يقع التبيين بالسنة، مثل: وأقيموا الصلاة وآتوا الزكاة. ولله على الناس حج البيت. وقد بينت السنة أفعال الصلاة والحج ومقادير نصب الزكاة في أنواعها.

تنبيه: اختلف في آيات، هل هي من قبيل المجمل أم لا؟. منها السرقة، قيل: إنها مجملة في اليد، لأنها تطلق على العضو إلى الكوع، وإلى المرفق، وإلى المنكب. وفي القطع، لأنه يطلق على الإبانة، وعلى الجرح، ولا ظهور لواحد من ذلك. وإبانة الشارع إلى الكوع تبين أن المراد ذلك. وقيل لا إجمال فيها، لأن القطع ظاهر في الإبانة. ومنها: وامسحوا برءوسكم . قيل إنها مجملة، لترددها بين مسح الكل والبعض، ومسح الشارع الناصية مبين لذلك. [ ص: 167 ] وقيل: لا، وإنما هي لمطلق المسح الصادق بأقل ما ينطلق عليه الاسم ويفيده. ومنها: حرمت عليكم أمهاتكم . قيل: إنها مجملة، لأن إسناد التحريم إلى العين لا يصح، لأنه إنما يتعلق بالفعل، فلا بد من تقديره، وهو محتمل لأمور لا حاجة إلى جميعها ولا مرجح لبعضها. وقيل: لا، لوجود المرجح، وهو العرف، فإنه يقتضي بأن المراد تحريم الاستمتاع بوطء أو نحوه، ويجري ذلك في كل ما يجري فيه التحريم والتحليل بالأعيان. ومنها: وأحل الله البيع وحرم الربا . قيل: إنها مجملة، لأن الربا الزيادة، وما من بيع إلا وفيه زيادة، فافتقر إلى بيان ما يحل وما يحرم. وقيل: لا، لأن البيع منقول شرعا، فحمل على عمومه، ما لم يقم دليل التخصيص. وقال الماوردي: للشافعي في هذه الآية أربعة أقوال: أحدها: أنها عامة، فإن لفظها لفظ عموم يتناول كل بيع، ويقتضي إباحة جميعها إلا ما خصه الدليل. وهذا القول أصحها عند الشافعي وأصحابه، لأنه عليه الصلاة والسلام نهى عن بيوع كانوا يعتادونها ولم يبين الجائز، فدل على أن الآية تناولت إباحة جميع البيوع إلا ما خص منها، فبين - صلى الله عليه وسلم - المخصوص. قال: فعلى هذا في العموم قولان: أحدهما أنه عموم أريد به العموم وإن دخله التخصيص. والثاني: أنه عموم أريد به الخصوص، قال: والفرق بينهما أن البيان في الثاني متقدم على اللفظ، وفي الأول متأخر عنه ومقترن به. قال: وعلى القولين يجوز الاستدلال بالآية في المسائل المختلف فيها ما لم يقم دليل تخصيص. والقول الثاني أنها مجملة لا يعقل منها صحة بيع من فساده إلا ببيان النبي - صلى الله عليه وسلم -، ثم قال: هل هي مجملة بنفسها أم بعارض ما نهي عنه من البيوع؟ [ ص: 168 ] وجهان. وهل الإجمال في المعنى المراد دون لفظها، لأن لفظ البيع اسم لغوي معناه معقول، لكن لما قام بإزائه من السنة ما يعارضه تدافع العمومان ولم يتعين المراد إلا ببيان السنة، فصار مجملا لذلك دون اللفظ، أو في اللفظ أيضا، لأنه لما لم يكن المراد منه ما وقع عليه الاسم وكانت له شرائط غير معقولة في اللغة كان مشكلا أيضا، وجهان. قال: وعلى الوجهين لا يجوز الاستدلال بها على صحة بيع ولا فساده، وإن دلت على صحة البيع من أصله. قال: وهذا هو الفرق بين العموم والمجمل حيث جاز الاستدلال بظاهر العموم ولم يجز الاستدلال بظاهر المجمل. والقول الثالث أنها عامة جملة معا، قال: واختلف في وجه ذلك على أوجه: أحدها: أن العموم في اللفظ، والإجمال في المعنى، فيكون اللفظ عاما مخصوصا، والمعنى مجملا لحقه التفسير. والثاني: أن العموم في: وأحل الله البيع، والإجمال في: وحرم الربا. والثالث: أنه كان مجملا، فلما بينه النبي - صلى الله عليه وسلم - صار عاما فيكون داخلا في المجمل قبل البيان، وفي العموم بعد البيان، فعلى هذا يجوز الاستدلال بظاهرها في البيوع المختلف فيها. والقول الرابع: أنها تناولت بيعا معهودا، ونزلت بعد أن أحل النبي - صلى الله عليه وسلم - بيوعا وحرم بيوعا، فاللام للعهد، فعلى هذا لا يجوز الاستدلال بظاهرها. ومنها الآيات التي فيها الأسماء الشرعية، نحو: وأقيموا الصلاة وآتوا الزكاة . فمن شهد منكم الشهر فليصمه . ولله على الناس حج البيت من استطاع إليه سبيلا . قيل: إنها مجملة لاحتمال الصلاة لكل دعاء، والصيام لكل إمساك، والحج لكل قصد، والمراد بها لا تدل عليه اللغة، فافتقرت إلى البيان. وقيل: لا، بل تحمل على كل ما ذكر إلا ما خص بدليل.

[ ص: 169 ] تنبيه: قال ابن الحصار: من الناس من جعل المجمل والمحتمل بإزاء شيء واحد. والصواب أن المجمل المبهم الذي لا يفهم المراد منه. والمحتمل اللفظ الواقع باللفظ الأول على معنيين مفهومين فصاعدا، سواء كان حقيقة في كلها أو في بعضها. فالفرق بينهما أن المجمل يدل على أمور معروفة، واللفظ مشترك متردد بينها. والمبهم لا يدل على أمر معروف مع القطع بأن الشارع لم يفض لأحد ببيان المجمل، بخلاف المحتمل.

التالي السابق


الخدمات العلمية