الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                            معلومات الكتاب

                                                                                                                            مواهب الجليل في شرح مختصر خليل

                                                                                                                            الحطاب - محمد بن محمد بن عبد الرحمن الرعينى

                                                                                                                            صفحة جزء
                                                                                                                            ص ( وغسل رجليه بكعبيه الناتئين بمفصلي الساقين )

                                                                                                                            ش : هذه الفريضة الرابعة من الفرائض المجمع عليها وهي غسل الرجلين وبوجوب غسلهما قال جماعة أهل السنة إلا ما يحكى عن ابن جرير الطبري أنه قال بالتخيير [ ص: 212 ] بين المسح والغسل ، وبه قال داود وقال بعض القدرية والروافض الواجب المسح ولا يجوز الغسل ، ويحكى عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما قال في الطراز : وهذه المذاهب كلها باطلة بالإجماع ولا يكترث بمن يخرج عن الجماعة فالغسل واجب بالكتاب والسنة والإجماع والقياس قال صاحب الجمع : قال ابن رشد : وأشار ابن خويز منداد إلى وجوبهما معا وهو بعيد .

                                                                                                                            ( قلت ) بل هو مخالف لإجماع من تقدمه فقد قال صاحب الطراز في الاحتجاج على القائلين بالمسح والتخيير : وأجمعنا على أنه لا يجب الجمع بين الغسل والمسح . قال : ومنشأ الخلاف اختلاف القراءتين فعلى قراءة النصب يكون وجوب الغسل ظاهرا ; لأنها معطوفة على الوجه واليدين ولا يضر الفصل بينهما بمسح الرأس ، وأما قراءة الجر فظاهرها يقتضي وجوب المسح لكن لا يمكن حملها عليه ; لأنه لم يرد من فعل النبي صلى الله عليه وسلم والصحابة بعده إلا الغسل فيتعين ويجاب عن الآية بأنها ليست معطوفة على الرءوس وإنما هي مخفوضة على الجواز . حكي هذا القول عن سيبويه والأخفش وجماعة من الفقهاء والمفسرين وخالفهم في ذلك المحققون ورأوا أن الخفض على الجوار لا يحسن في المعطوف ; لأن حرف العطف حاجز بين الاسمين ومبطل للمجاورة ، ورأوا أن الحمل على ذلك حمل على شاذ ينبغي صون القرآن عنه وقالوا : الخفض في الآية إنما هو بالعطف على لفظ الرءوس ، فقيل : الأرجل مغسولة لا ممسوحة فأجابوا بوجهين ( أحدهما ) أن المسح هنا هو الغسل . قال أبو علي : حكى لنا من لا يتهم أن أبا زيد قال : المسح خفيف الغسل يقال : تمسحت للصلاة ويراد به الغسل وخصت الرجلان من بين سائر المغسولات باسم المسح ليقتصد في صب الماء عليها إذا كانتا مظنة الإسراف .

                                                                                                                            ( والثاني ) أن المراد هنا هو المسح على الخفين والله تعالى أعلم . وقوله : بكعبيه الباء بمعنى مع أي مع كعبيه والمشهور دخولهما في وجوب الغسل ، وروى ابن نافع لا يجب إدخالهما وقيل : يدخلان احتياطا قاله عبد الوهاب والخلاف في دخولهما في الغسل كالخلاف في دخول المرفقين قاله اللخمي وغيره . قال صاحب الطراز : وفرق بعض الناس فقال بدخول الكعبين بخلاف المرفقين ; لأن اسم الرجل لا يتناول الساق فلو لم يذكر الكعبين لم يدخلا فلا بد لذكرهما من فائدة ثم رد هذا القول وقال ابن عرفة اللخمي الكعبان كالمرفقين . عياض قد يفرق بأن القطع تحت الكعبين بخلاف المرفقين ثم فسر المصنف الكعبين بقوله : الناتئين بمفصلي الساقين ، والناتئ المرتفع من نتأ ينتأ نتوءا وهو بالهمز ويجوز إبدال الهمزة ياء لوقوعها بعد الكسرة ، وهذا الذي ذكره المصنف في تفسير الكعبين هو المشهور عندنا وعند أهل اللغة وقيل : هما الكائنان عند معقد الشراك ، وعزاه اللخمي لرواية ابن القاسم وعياض لرواية أحمد بن نصر وفي مختصر ابن عبد الحكم أن مالكا أنكر هذه الرواية قال ابن عرفة : زاد ابن رشد فقال : وقيل : هما مجتمع العروق على ظهر القدم ، وذكر ابن ناجي هذا القول عن عياض عن ظاهر كتاب الوقار ونصه : وقيل : هما المفصلان اللذان على ظاهر القدم ، وعزاه عياض لظاهر كتاب الوقار

                                                                                                                            ( قلت ) وقيل : إنهما مؤخرا الرجل حكاه في الطراز قال : وينسب لمالك أيضا ثم قال : والمشهور في المذهب هو المشهور في اللغة ولأن الكعب ما نتأ وظهر وهو مأخوذ من التكعب وهو الظهور ، ومنه سميت الكعبة ، ويقال امرأة كاعب إذا ارتفع ثديها ، ولا شك أن ارتفاع اللذين في طرف الساق أظهر ولأن الأرجل في قوله تعالى { وأرجلكم } اسم جنس أضيف واسم الجنس إذا أضيف عم والعام يقع الحكم فيه على كل فرد فيكون كل رجل معناه إلى الكعبين ، وهذا يقتضي أن يكون في كل رجل كعبان ذكر ابن رشد أنه ظهر له هذا الاستدلال في مجلس الربعي بالإسكندرية [ ص: 213 ] فما بقي في المجلس إلا من استحسن ذلك وبلغ ذلك القرافي فاستحسنه وقال في الذخيرة : لو كان المراد ما في ظهر القدم لقال إلى الكعاب كما قال إلى المرافق ; لأن لكل رجل حينئذ كعبين كما أن لكل يد مرفقا فيقابل الجمع بالجمع ، فلما عدل عنه إلى التثنية حمل على أن المراد الكعبان اللذان في طرف الساق فيصير المعنى اغسلوا كل رجل إلى ساقها .

                                                                                                                            ( تنبيهات الأول ) قال ابن فرحون : كلام ابن الحاجب وابن شاس وابن بشير والباجي وغيرهم من الذين يحكون الخلاف في الكعبين يقتضي أن الخلاف في ذلك خلاف في منتهى الغسل وأن في المذهب من يقول : ينتهي الغسل إلى الكعب الذي عند معقد الشراك ، وهذا لم يقل به أحد في المذهب ولا خارجه ونقل ابن الفرس أن الكعبين اللذين إليهما انتهى حد الوضوء هما الناتئان في الساقين بالإجماع ، ونقل الزناتي أيضا اتفاق العلماء على أنهما اللذان في جنبي الساقين ، وعلى هذا فلا فائدة في ذكر الخلاف ; لأنه على تقدير ثبوته راجع إلى اللغة وكذا قال الزناتي فثبت أنه لا خلاف في وجوب غسل الكعب الناتئ عند معقد الشراك وما فوقه إلى الكعبين على ما نقله ابن الفرس والزناتي من الإجماع ، وكلام من تقدم يؤذن بالخلاف فيه انتهى .

                                                                                                                            ونقله الشيخ زروق في شرح الرسالة وقال : تأمله فإنه حسن وقال الشارح في الكبير : وعلى القول بأنهما اللذان عند معقد الشراك فلا خلاف في دخولهما في الغسل انتهى .

                                                                                                                            ( الثاني ) قال ابن فرحون أورد الشيخ تقي الدين بن دقيق العيد على ابن الحاجب أنه عد غسل الرجلين في الفرائض مع أن غسلهما على التعيين ليس بفرض لجواز تركه بالمسح على الخفين فينبغي أن يقال : الواجب أحد أمرين إما الغسل أو المسح على الخفين .

                                                                                                                            ( قلت ) وهذا ليس بظاهر ; لأن مسح الخفين ليس بواجب وإنما هو رخصة ، والواجب غسل الرجلين فتأمله والله تعالى أعلم .

                                                                                                                            ص ( وندب تخليل أصابعهما )

                                                                                                                            ش : يعني أن تخليل أصابع الرجلين مستحب وهذا القول عزاه المصنف في التوضيح لابن شعبان وقال الشارح في الكبير والوسط : أنه المشهور قال : وهو مقتضى قول الرسالة والتخليل أطيب للنفس وقال الشيخ زروق في شرح الرسالة : أنه المشهور وعزاه ابن عرفة لابن حبيب قال وللباجي وابن رشد عن ابن وهب كابن الحاجب قال : وفي أول سماع ابن القاسم مثله وفي أثنائه إنكاره .

                                                                                                                            ( قلت ) يشير بالأول لقوله في رسم اغتسل ونصه وسئل مالك عمن توضأ ولم يخلل أصابع رجليه قال : يجزئ عنه قال ابن رشد : ظاهر هذه الرواية أن تخليلهما حسن ، وكذلك قال ابن حبيب أنه مرغب فيه وفي رسم نذر سنة بعد هذا أنه لا يخلل ونحوه .

                                                                                                                            روى ابن وهب عن مالك في المجموعة قال : ولا خير في الجفاء والغلو انتهى . ونص ما في رسم نذر سنة قال في اللحية : يحرك ظاهرها من غير أن يدخل يده فيها وهو مثل أصابع الرجل واليد لا تخلل ، وهذا هو الثاني وهو القول بالإنكار الذي أشار إليه ابن عرفة بقوله : وفي أثنائه إنكاره . عزا في التوضيح القول بالإنكار لرواية أشهب فقط وقد تقدم أنه في سماع ابن القاسم وقيل بوجوب التخليل . قال في التوضيح : رجح اللخمي وابن بزيزة وابن عبد السلام الوجوب في تخليل أصابع اليدين والرجلين لما روي { أنه صلى الله عليه وسلم كان يخلل أصابع رجليه بخنصره } وذكر ابن وهب أنه سمع مالكا ينكر التخليل قال : فأخبرته بالحديث فرجع إليه انتهى . يعني الحديث المتقدم وهكذا ذكره في مختصر الواضحة عن ابن لهيعة وروى الترمذي من حديث ابن عباس رضي الله تعالى عنهما عن النبي صلى الله عليه وسلم { إذا توضأت فخلل بين أصابع يديك ورجليك } وقال : حديث حسن غريب ثم قال في التوضيح : وإنما أتى في أصابع الرجلين قول بالإنكار ولم يأت في اليدين لالتصاق أصابع الرجلين [ ص: 214 ] فأشبه ما بينهما الباطن انتهى .

                                                                                                                            ( قلت ) وقد تقدم حكاية القول بالإنكار في أصابع اليدين أيضا ، لكن الفرق المذكور يصح أن يفرق به للمشهور حيث كان في اليدين الوجوب وفي الرجلين الاستحباب وهكذا ذكره ابن ناجي فإنه ذكر أن ابن حبيب يوافق المشهور في وجوب تخليل أصابع اليدين واستحباب تخليل أصابع الرجلين وذكر فرقين آخرين أحدهما : أن اليدين فرضهما الغسل بلا خلاف واختلف العلماء في الرجلين هل فرضهما الغسل أو المسح كما تقدم ؟ والثاني : أن الرجلين يسقط غسلهما بالمسح على الخفين ويسقطان في التيمم بخلاف اليدين وذكر عن شيخه الشبيبي أنه كان يفتي إلى أن مات بتخليل ما بين إبهام الرجل والذي يليه فقط لانفراج ما بينهما وعزا للرسالة الإباحة قال : فتحصل في ذلك خمسة أقوال . يريد بفتوى شيخه وبما عزاه للرسالة واقتصر المصنف على القول بالاستحباب ; لأنه ظاهر ما في سماع ابن القاسم عن مالك وهو ظاهر الرسالة ، وقال به من تقدم ذكره بل نقل بعضهم عن ابن الفخار أنه صرح بأنه المشهور كما صرح بذلك الشارح والشيخ زروق فكان الجاري على قاعدته أن يذكر فيه خلافا ، لأنه قد تقدم عنه أن القول بالوجوب رجحه اللخمي وابن بزيزة وابن عبد السلام وقال القرطبي في تفسيره : هو الصحيح .

                                                                                                                            ( تنبيهات الأول ) قال في الذخيرة : قال بعض العلماء : يبدأ بتخليل خنصر اليمنى ; لأنه يمنى أصابعها ويختم بإبهامها ويبدأ بإبهام اليسرى ; لأنه يمنى أصابعها ويختم بخنصرها ، ونقله عنه ابن عرفة وغيره كما ذكرنا ، وتقدم عن الجزولي أنه يخلل أصابع الرجلين من أسفل بخلاف أصابع اليدين فإنه يخللهما من ظاهرهما وقال الشيخ زروق في شرح قول الرسالة : وإن شاء خلل أصابعه . يعني بأن يدخل أصابع يديه في خلال أصابعهما مع الماء . قالوا : والمستحب في ذلك أن يخللهما من أسفلهما وكذلك ورد في حديث رواه الترمذي ويعبرون عنه بالنحر وعن تخليل اليدين بالذبح ويبدأ بخنصر اليمنى ويختم بخنصر اليسرى انتهى .

                                                                                                                            وتقدم في الحديث الذي في التوضيح أنه صلى الله عليه وسلم { كان يخلل أصابع رجليه بخنصره } وذكر في مختصر الواضحة حديثا آخر { أنه كان يخلل بالمسبحة } وهو أمكن والله تعالى أعلم .

                                                                                                                            ( الثاني ) لم يذكر المصنف حكم تخليل أصابع اليدين والرجلين في الغسل فأما أصابع اليدين فيؤخذ من كلامه أن تخليلهما واجب ; لأنه إذا وجب في الوضوء فأحرى أن يجب في الغسل ، وأما أصابع الرجلين فيحتمل أن يقال : أن حكمهما في الغسل كحكمهما في الوضوء وبذلك صرح الشيخ زروق في شرح الرسالة فقال في باب الغسل من الجنابة : وفي تخليل أصابعهما ما في الوضوء ، وتقدم أن المشهور الندب وقال المواق بن حبيب هو مرغب فيه وأما في الغسل فواجب انتهى . ونقل بعضهم عن ابن الفخار أنه قال في شرح الرسالة : والمشهور وجوب تخليل أصابع الرجلين في الغسل واستحبابه في الوضوء انتهى . مختصرا وتقدم أن القول بوجوب التخليل رجحه جماعة فتعين العمل به خصوصا في الغسل والله تعالى أعلم .

                                                                                                                            ( الثالث ) إذا قلنا : لا يجب تخليل أصابع الرجلين في الوضوء ولا في الغسل فلا بد من إيصال الماء لما بين الأصابع قاله في مختصر الواضحة والله تعالى أعلم

                                                                                                                            التالي السابق


                                                                                                                            الخدمات العلمية