وأما استدلال
المعتزلة بقوله تعالى :
nindex.php?page=tafseer&surano=23&ayano=14nindex.php?page=treesubj&link=28994فتبارك الله أحسن الخالقين [ المؤمنون : 14 ] ، فمعنى الآية : أحسن المصورين المقدرين . والخلق يذكر ويراد به التقدير ، وهو المراد هنا ، بدليل قوله تعالى :
nindex.php?page=tafseer&surano=13&ayano=16الله خالق كل شيء [ الرعد : 16 ] و [ الزمر : 62 ] أي الله خالق كل شيء مخلوق ، فدخلت أفعال العباد في عموم : ( كل ) . وما أفسد قولهم في إدخال كلام الله تعالى في عموم : ( كل ) ، الذي هو صفة من صفاته ، يستحيل عليه أن يكون مخلوقا ! وأخرجوا أفعالهم التي هي مخلوقة من عموم : ( كل ) ! ! وهل يدخل في عموم : ( كل ) إلا ما هو مخلوق ؟ فذاته المقدسة وصفاته غير داخلة في هذا العموم ، ودخل سائر المخلوقات في عمومها . وكذا قوله تعالى :
nindex.php?page=tafseer&surano=37&ayano=96والله خلقكم وما تعملون [ الصافات : 96 ] . ولا نقول لأن : " ما " مصدرية ، أي :
[ ص: 644 ] خلقكم وعملكم - إذ سياق الآية يأباه ، لأن
إبراهيم عليه السلام إنما أنكر عليهم عبادة المنحوت ، لا النحت ، والآية تدل على أن المنحوت مخلوق لله تعالى ، وهو ما صار منحوتا إلا بفعلهم ، فيكون ما هو من آثار فعلهم مخلوقا لله تعالى ، ولو لم يكن النحت مخلوقا لله تعالى لم يكن المنحوت مخلوقا له ، بل الخشب أو الحجر لا غير . وذكر
أبو الحسين البصري إمام المتأخرين من
المعتزلة : أن العلم بأن
nindex.php?page=treesubj&link=28785العبد يحدث فعله - ضروري . وذكر
الرازي أن افتقار الفعل المحدث الممكن إلى مرجح يجب وجوده عنده ويمتنع عند عدمه - ضروري ، وكلاهما صادق فيما ذكره من العلم الضروري ، ثم ادعاء كل منهما أن هذا العلم الضروري يبطل ما ادعاه الآخر من الضرورة - غير مسلم ، بل كلاهما صادق فيما ادعاه من العلم الضروري ، وإنما وقع غلطه في إنكاره ما مع الآخر من الحق . فإنه لا منافاة بين كون العبد محدثا لفعله وكون هذا الإحداث وجب وجوده بمشيئة الله تعالى ، كما قال تعالى :
nindex.php?page=tafseer&surano=91&ayano=7ونفس وما سواها فألهمها فجورها وتقواها [ الشمس : 7 - 8 ] . فقوله : "
nindex.php?page=tafseer&surano=91&ayano=8فألهمها فجورها وتقواها إثبات للقدر بقوله : فألهمها وإثبات لفعل العبد بإضافة الفجور والتقوى إلى نفسه ، ليعلم أنها هي الفاجرة والمتقية . وقوله بعد ذلك :
nindex.php?page=tafseer&surano=91&ayano=9قد أفلح من زكاها وقد خاب من دساها [ الشمس : 9 - 10 ] - إثبات أيضا لفعل العبد ، ونظائر ذلك كثيرة .
[ ص: 645 ] وهذه شبهة أخرى من شبه القوم التي فرقتهم ، بل مزقتهم كل ممزق ، وهي : أنهم قالوا ؟
nindex.php?page=treesubj&link=28785كيف يستقيم الحكم على قولكم بأن الله يعذب المكلفين على ذنوبهم وهو خلقها فيهم ؟ فأين العدل في تعذيبهم على ما هو خالقه وفاعله فيهم ؟ وهذا السؤال لم يزل مطروقا في العالم على ألسنة الناس ، وكل منهم يتكلم في جوابه بحسب علمه ومعرفته ، وعنه تفرقت بهم الطرق : فطائفة أخرجت أفعالهم عن قدرة الله تعالى ، وطائفة أنكرت الحكم والتعليل ، وسدت باب السؤال . وطائفة أثبتت كسبا لا يعقل ! جعلت الثواب [ والعقاب ] عليه . وطائفة التزمت لأجله وقوع مقدور بين قادرين ، ومفعول بين فاعلين ! وطائفة التزمت الجبر ، وأن الله يعذبهم على ما لا يقدرون عليه ! وهذا السؤال هو الذي أوجب التفرق والاختلاف .
والجواب الصحيح عنه ، أن يقال : إن ما يبتلى به العبد من الذنوب الوجودية ، وإن كانت خلقا لله تعالى ، فهي عقوبة له على ذنوب قبلها ، فالذنب يكسب الذنب ، ومن عقاب السيئة السيئة بعدها . فالذنوب كالأمراض التي يورث بعضها بعضا .
يبقى أن يقال : فالكلام في الذنب الأول الجالب لما بعده من الذنوب ؟ يقال : هو عقوبة أيضا على عدم فعل ما خلق له وفطر عليه ، فإن الله سبحانه خلقه لعبادته وحده لا شريك له ، وفطره على محبته ،
[ ص: 646 ] وتألهه والإنابة إليه ، كما قال تعالى :
nindex.php?page=tafseer&surano=30&ayano=30فأقم وجهك للدين حنيفا فطرة الله التي فطر الناس عليها [ الروم : 30 ] . فإن لم يفعل ما خلق له وفطر عليه ، من محبة الله وعبوديته ، والإنابة إليه - عوقب على ذلك بأن زين له الشيطان ما يفعله من الشرك والمعاصي ، فإنه صادف قلبا خاليا قابلا للخير والشر ، ولو كان فيه الخير الذي يمنع ضده لم يتمكن منه الشر ، كما قال تعالى :
nindex.php?page=tafseer&surano=12&ayano=24كذلك لنصرف عنه السوء والفحشاء إنه من عبادنا المخلصين [ يوسف : 24 ] . وقال إبليس :
nindex.php?page=tafseer&surano=38&ayano=82فبعزتك لأغوينهم أجمعين إلا عبادك منهم المخلصين [ ص : 82 - 83 ] . وقال الله عز وجل :
nindex.php?page=tafseer&surano=15&ayano=41هذا صراط علي مستقيم إن عبادي ليس لك عليهم سلطان [ الحجر : 41 - 42 ] .
nindex.php?page=treesubj&link=19694والإخلاص : خلوص القلب من تأليه ما سوى الله تعالى وإرادته ومحبته ، فخلص لله ، فلم يتمكن منه الشيطان . وأما إذا صادفه فارغا من ذلك ، تمكن منه بحسب فراغه ، فيكون جعله مذنبا مسيئا في هذه الحال عقوبة له على عدم هذا الإخلاص . وهي محض العدل .
فإن قلت : فذلك العدم من خلقه فيه ؟ قيل : هذا سؤال فاسد ، فإن العدم كاسمه ، لا يفتقر إلى تعلق التكوين والإحداث به ، فإن عدم الفعل ليس أمرا وجوديا حتى يضاف إلى الفاعل ، بل هو شر محض ، والشر ليس إلى الله سبحانه ، كما قال صلى الله عليه وسلم في حديث الاستفتاح :
nindex.php?page=hadith&LINKID=964503لبيك وسعديك ، والخير كله في يديك ، والشر ليس إليك . وكذا في حديث الشفاعة يوم القيامة ، حين يقول له الله :
[ ص: 647 ] يا
محمد ، nindex.php?page=hadith&LINKID=964504فيقول : لبيك وسعديك ، والخير في يديك ، والشر ليس إليك .
وقد أخبر الله تعالى أن تسليط الشيطان إنما هو على الذين يتولونه والذين هم به مشركون ، فلما تولوه دون الله وأشركوا به معه - عوقبوا على ذلك بتسليطه عليهم ، وكانت هذه الولاية والإشراك عقوبة خلو القلب وفراغه من الإخلاص . فإلهام البر والتقوى ثمرة هذا الإخلاص ونتيجته ، وإلهام الفجور عقوبة على خلوه من الإخلاص .
فإن قلت : إن كان هذا الترك أمرا وجوديا عاد السؤال جذعا ، وإن كان أمرا عدميا فكيف يعاقب على العدم المحض ؟
قيل : ليس هنا ترك هو كف النفس ومنعها عما تريده وتحبه ، فهذا قد يقال : إنه أمر وجودي ، وإنما هنا عدم وخلو من أسباب الخير ، وهذا العدم هو محض خلوها مما هو أنفع شيء لها ، والعقوبة على الأمر
[ ص: 648 ] العدمي هي بفعل السيئات ، لا بالعقوبات التي تناله بعد إقامة الحجة عليه بالرسل . فلله فيه عقوبتان :
إحداهما : جعله مذنبا خاطئا ، وهذه عقوبة عدم إخلاصه وإنابته وإقباله على الله ، وهذه العقوبة قد لا يحس بألمها ومضرتها ، لموافقتها شهوته وإرادته ، وهي في الحقيقة من أعظم العقوبات .
والثانية : العقوبات المؤلمة بعد فعله للسيئات . وقد قرن الله تعالى بين هاتين العقوبتين في قوله تعالى :
nindex.php?page=tafseer&surano=6&ayano=44فلما نسوا ما ذكروا به فتحنا عليهم أبواب كل شيء [ الأنعام : 44 ] . فهذه العقوبة الأولى ، ثم قال :
nindex.php?page=tafseer&surano=6&ayano=44حتى إذا فرحوا بما أوتوا أخذناهم بغتة [ الأنعام : 44 ] فهذه العقوبة الثانية .
فإن قيل : فهل كان يمكنهم أن يأتوا بالإخلاص والإنابة والمحبة له وحده - من غير أن يخلق ذلك في قلوبهم ويجعلهم مخلصين له منيبين له محبين له ؟ أم ذلك محض جعله في قلوبهم وإلقائه فيها ؟ قيل : لا ، بل هو محض منته وفضله ، وهو من أعظم الخير الذي هو بيده ، والخير كله في يديه ، ولا يقدر أحد أن يأخذ من الخير إلا ما أعطاه ، ولا يتقي من الشر إلا ما وقاه .
فإن قيل : فإذا لم يخلق ذلك في قلوبهم ولم يوفقوا له ، ولا سبيل لهم إليه بأنفسهم ، عاد السؤال ؟ وكان منعهم منه ظلما ، ولزمكم القول بأن العدل هو تصرف المالك في ملكه بما يشاء ، لا يسأل عما يفعل وهم يسألون .
قيل : لا يكون سبحانه بمنعهم من ذلك ظالما ، وإنما يكون المانع ظالما إذا منع غيره حقا لذلك الغير عليه ، وهذا هو الذي حرمه الرب
[ ص: 649 ] على نفسه ، وأوجب على نفسه خلافه . وأما إذا منع غيره ما ليس بحق له ، بل هو محض فضله ومنته عليه - لم يكن ظالما بمنعه ، فمنع الحق ظلم ، ومنع الفضل والإحسان عدل . وهو سبحانه العدل في منعه ، كما هو المحسن المنان بعطائه .
فإن قيل : فإذا كان العطاء والتوفيق إحسانا ورحمة ، فهلا كان العمل له والغلبة ، كما أن رحمته تغلب غضبه ؟
قيل : المقصود في هذا المقام بيان أن هذه العقوبة المترتبة على هذا المنع ، والمنع المستلزم للعقوبة - ليس بظلم ، بل هو محض العدل .
وهذا سؤال عن
nindex.php?page=treesubj&link=30364الحكمة التي أوجبت تقديم العدل على الفضل في بعض المحال ؟ وهلا سوى بين العباد في الفضل ؟ وهذا السؤال حاصله : لم تفضل على هذا ولم يتفضل على الآخر ؟ وقد تولى الله سبحانه الجواب عنه بقوله :
nindex.php?page=tafseer&surano=57&ayano=21ذلك فضل الله يؤتيه من يشاء والله ذو الفضل العظيم [ الحديد : 21 ] . وقوله :
nindex.php?page=tafseer&surano=57&ayano=29لئلا يعلم أهل الكتاب ألا يقدرون على شيء من فضل الله وأن الفضل بيد الله يؤتيه من يشاء والله ذو الفضل العظيم [ الحديد : 29 ] . ولما سأله
اليهود والنصارى عن تخصيص هذه الأمة بأجرين وإعطائهم هم أجرا أجرا ، قال : هل ظلمتكم من حقكم شيئا ؟ قالوا : لا ، قال : فذلك فضلي أوتيه من أشاء وليس في الحكمة إطلاع كل فرد من أفراد الناس على
[ ص: 650 ] كمال حكمته في عطائه ومنعه ، بل إذا كشف الله عن بصيرة العبد ، حتى أبصر طرفا يسيرا من حكمته في خلقه ، وأمره وثوابه وعقابه ، وتخصيصه وحرمانه ، وتأمل أحوال محال ذلك ، استدل بما علمه على ما لم يعلمه .
ولما استشكل أعداؤه المشركون هذا التخصيص ، قالوا :
nindex.php?page=tafseer&surano=6&ayano=53أهؤلاء من الله عليهم من بيننا قال تعالى مجيبا لهم :
nindex.php?page=tafseer&surano=6&ayano=53nindex.php?page=treesubj&link=28977أليس الله بأعلم بالشاكرين [ الأنعام : 53 ] . فتأمل هذا الجواب ، تر في ضمنه أنه سبحانه أعلم بالمحل الذي يصلح لغرس شجرة النعمة فتثمر بالشكر ، من المحل الذي لا يصلح لغرسها ، فلو غرست فيه لم تثمر ، فكان غرسها هناك ضائعا لا يليق بالحكمة ، كما قال تعالى :
nindex.php?page=tafseer&surano=6&ayano=124الله أعلم حيث يجعل رسالته [ الأنعام : 124 ] .
وَأَمَّا اسْتِدْلَالُ
الْمُعْتَزِلَةِ بِقَوْلِهِ تَعَالَى :
nindex.php?page=tafseer&surano=23&ayano=14nindex.php?page=treesubj&link=28994فَتَبَارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ [ الْمُؤْمِنُونَ : 14 ] ، فَمَعْنَى الْآيَةِ : أَحْسَنُ الْمُصَوِّرِينَ الْمُقَدِّرِينَ . وَالْخَلْقُ يُذْكَرُ وَيُرَادُ بِهِ التَّقْدِيرُ ، وَهُوَ الْمُرَادُ هُنَا ، بِدَلِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى :
nindex.php?page=tafseer&surano=13&ayano=16اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ [ الرَّعْدِ : 16 ] وَ [ الزُّمَرِ : 62 ] أَيِ اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ مَخْلُوقٍ ، فَدَخَلَتْ أَفْعَالُ الْعِبَادِ فِي عُمُومِ : ( كُلِّ ) . وَمَا أَفْسَدُ قَوْلَهُمْ فِي إِدْخَالِ كَلَامِ اللَّهِ تَعَالَى فِي عُمُومِ : ( كُلِّ ) ، الَّذِي هُوَ صِفَةٌ مِنْ صِفَاتِهِ ، يَسْتَحِيلُ عَلَيْهِ أَنْ يَكُونَ مَخْلُوقًا ! وَأَخْرَجُوا أَفْعَالَهُمُ الَّتِي هِيَ مَخْلُوقَةٌ مِنْ عُمُومِ : ( كُلِّ ) ! ! وَهَلْ يَدْخُلُ فِي عُمُومِ : ( كُلِّ ) إِلَّا مَا هُوَ مَخْلُوقٌ ؟ فَذَاتُهُ الْمُقَدَّسَةُ وَصِفَاتُهُ غَيْرُ دَاخِلَةٍ فِي هَذَا الْعُمُومِ ، وَدَخَلَ سَائِرُ الْمَخْلُوقَاتِ فِي عُمُومِهَا . وَكَذَا قَوْلُهُ تَعَالَى :
nindex.php?page=tafseer&surano=37&ayano=96وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ وَمَا تَعْمَلُونَ [ الصَّافَّاتِ : 96 ] . وَلَا نَقُولُ لِأَنَّ : " مَا " مَصْدَرِيَّةٌ ، أَيْ :
[ ص: 644 ] خَلْقَكُمْ وَعَمَلَكُمْ - إِذْ سِيَاقُ الْآيَةِ يَأْبَاهُ ، لِأَنَّ
إِبْرَاهِيمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ إِنَّمَا أَنْكَرَ عَلَيْهِمْ عِبَادَةَ الْمَنْحُوتِ ، لَا النَّحْتَ ، وَالْآيَةُ تَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْمَنْحُوتَ مَخْلُوقٌ لِلَّهِ تَعَالَى ، وَهُوَ مَا صَارَ مَنْحُوتًا إِلَّا بِفِعْلِهِمْ ، فَيَكُونُ مَا هُوَ مِنْ آثَارِ فِعْلِهِمْ مَخْلُوقًا لِلَّهِ تَعَالَى ، وَلَوْ لَمْ يَكُنِ النَّحْتُ مَخْلُوقًا لِلَّهِ تَعَالَى لَمْ يَكُنِ الْمَنْحُوتُ مَخْلُوقًا لَهُ ، بَلِ الْخَشَبُ أَوِ الْحَجَرُ لَا غَيْرَ . وَذَكَرَ
أَبُو الْحُسَيْنِ الْبَصْرِيُّ إِمَامُ الْمُتَأَخِّرِينَ مِنَ
الْمُعْتَزِلَةِ : أَنَّ الْعِلْمَ بِأَنَّ
nindex.php?page=treesubj&link=28785الْعَبْدَ يُحْدِثُ فِعْلَهُ - ضَرُورِيٌّ . وَذَكَرَ
الرَّازِيُّ أَنَّ افْتِقَارَ الْفِعْلِ الْمُحْدَثِ الْمُمْكِنِ إِلَى مُرَجِّحٍ يَجِبُ وَجُودُهُ عِنْدَهُ وَيَمْتَنِعُ عِنْدَ عَدَمِهِ - ضَرُورِيٌّ ، وَكِلَاهُمَا صَادِقٌ فِيمَا ذَكَرَهُ مِنَ الْعِلْمِ الضَّرُورِيِّ ، ثُمَّ ادِّعَاءُ كُلٍّ مِنْهُمَا أَنَّ هَذَا الْعِلْمَ الضَّرُورِيَّ يُبْطِلُ مَا ادَّعَاهُ الْآخَرُ مِنَ الضَّرُورَةِ - غَيْرُ مُسَلَّمٍ ، بَلْ كِلَاهُمَا صَادِقٌ فِيمَا ادَّعَاهُ مِنَ الْعِلْمِ الضَّرُورِيِّ ، وَإِنَّمَا وَقَعَ غَلَطُهُ فِي إِنْكَارِهِ مَا مَعَ الْآخَرِ مِنَ الْحَقِّ . فَإِنَّهُ لَا مُنَافَاةَ بَيْنَ كَوْنِ الْعَبْدِ مُحْدِثًا لِفِعْلِهِ وَكَوْنِ هَذَا الْإِحْدَاثِ وَجَبَ وُجُودُهُ بِمَشِيئَةِ اللَّهِ تَعَالَى ، كَمَا قَالَ تَعَالَى :
nindex.php?page=tafseer&surano=91&ayano=7وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا [ الشَّمْسِ : 7 - 8 ] . فَقَوْلُهُ : "
nindex.php?page=tafseer&surano=91&ayano=8فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا إِثْبَاتٌ لِلْقَدَرِ بِقَوْلِهِ : فَأَلْهَمَهَا وَإِثْبَاتٌ لِفِعْلِ الْعَبْدِ بِإِضَافَةِ الْفُجُورِ وَالتَّقْوَى إِلَى نَفْسِهِ ، لِيُعْلَمَ أَنَّهَا هِيَ الْفَاجِرَةُ وَالْمُتَّقِيَةُ . وَقَوْلُهُ بَعْدَ ذَلِكَ :
nindex.php?page=tafseer&surano=91&ayano=9قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا وَقَدْ خَابَ مَنْ دَسَّاهَا [ الشَّمْسِ : 9 - 10 ] - إِثْبَاتٌ أَيْضًا لِفِعْلِ الْعَبْدِ ، وَنَظَائِرُ ذَلِكَ كَثِيرَةٌ .
[ ص: 645 ] وَهَذِهِ شُبْهَةٌ أُخْرَى مِنْ شُبَهِ الْقَوْمِ الَّتِي فَرَّقَتْهُمْ ، بَلْ مَزَّقَتْهُمْ كُلَّ مُمَزَّقٍ ، وَهِيَ : أَنَّهُمْ قَالُوا ؟
nindex.php?page=treesubj&link=28785كَيْفَ يَسْتَقِيمُ الْحُكْمُ عَلَى قَوْلِكُمْ بِأَنَّ اللَّهَ يُعَذِّبُ الْمُكَلَّفِينَ عَلَى ذُنُوبِهِمْ وَهُوَ خَلَقَهَا فِيهِمْ ؟ فَأَيْنَ الْعَدْلُ فِي تَعْذِيبِهِمْ عَلَى مَا هُوَ خَالِقُهُ وَفَاعِلُهُ فِيهِمْ ؟ وَهَذَا السُّؤَالُ لَمْ يَزَلْ مَطْرُوقًا فِي الْعَالَمِ عَلَى أَلْسِنَةِ النَّاسِ ، وَكُلٌّ مِنْهُمْ يَتَكَلَّمُ فِي جَوَابِهِ بِحَسَبِ عِلْمِهِ وَمَعْرِفَتِهِ ، وَعَنْهُ تَفَرَّقَتْ بِهِمُ الطُّرُقُ : فَطَائِفَةٌ أَخْرَجَتْ أَفْعَالَهُمْ عَنْ قُدْرَةِ اللَّهِ تَعَالَى ، وَطَائِفَةٌ أَنْكَرَتِ الْحُكْمَ وَالتَّعْلِيلَ ، وَسَدَّتْ بَابَ السُّؤَالِ . وَطَائِفَةٌ أَثْبَتَتْ كَسْبًا لَا يُعْقَلُ ! جَعَلَتِ الثَّوَابَ [ وَالْعِقَابَ ] عَلَيْهِ . وَطَائِفَةٌ الْتَزَمَتْ لِأَجْلِهِ وُقُوعَ مَقْدُورٍ بَيْنَ قَادِرَيْنِ ، وَمَفْعُولٍ بَيْنَ فَاعِلَيْنِ ! وَطَائِفَةٌ الْتَزَمَتِ الْجَبْرَ ، وَأَنَّ اللَّهَ يُعَذِّبُهُمْ عَلَى مَا لَا يَقْدِرُونَ عَلَيْهِ ! وَهَذَا السُّؤَالُ هُوَ الَّذِي أَوْجَبَ التَّفَرُّقَ وَالِاخْتِلَافَ .
وَالْجَوَابُ الصَّحِيحُ عَنْهُ ، أَنْ يُقَالَ : إِنَّ مَا يُبْتَلَى بِهِ الْعَبْدُ مِنَ الذُّنُوبِ الْوُجُودِيَّةِ ، وَإِنْ كَانَتْ خَلْقًا لِلَّهِ تَعَالَى ، فَهِيَ عُقُوبَةٌ لَهُ عَلَى ذُنُوبٍ قَبْلَهَا ، فَالذَّنْبُ يُكْسِبُ الذَّنْبَ ، وَمِنْ عِقَابِ السَّيِّئَةِ السَّيِّئَةُ بَعْدَهَا . فَالذُّنُوبُ كَالْأَمْرَاضِ الَّتِي يُورِثُ بَعْضُهَا بَعْضًا .
يَبْقَى أَنْ يُقَالَ : فَالْكَلَامُ فِي الذَّنْبِ الْأَوَّلِ الْجَالِبِ لِمَا بَعْدَهُ مِنَ الذُّنُوبِ ؟ يُقَالُ : هُوَ عُقُوبَةٌ أَيْضًا عَلَى عَدَمِ فِعْلِ مَا خُلِقَ لَهُ وَفُطِرَ عَلَيْهِ ، فَإِنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ خَلَقَهُ لِعِبَادَتِهِ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ ، وَفَطَرَهُ عَلَى مَحَبَّتِهِ ،
[ ص: 646 ] وَتَأَلُّهِهِ وَالْإِنَابَةِ إِلَيْهِ ، كَمَا قَالَ تَعَالَى :
nindex.php?page=tafseer&surano=30&ayano=30فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا فِطْرَةَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا [ الرُّومِ : 30 ] . فَإِنْ لَمْ يَفْعَلْ مَا خُلِقَ لَهُ وَفُطِرَ عَلَيْهِ ، مِنْ مَحَبَّةِ اللَّهِ وَعُبُودِيَّتِهِ ، وَالْإِنَابَةِ إِلَيْهِ - عُوقِبَ عَلَى ذَلِكَ بِأَنْ زَيَّنَ لَهُ الشَّيْطَانُ مَا يَفْعَلُهُ مِنَ الشِّرْكِ وَالْمَعَاصِي ، فَإِنَّهُ صَادَفَ قَلْبًا خَالِيًا قَابِلًا لِلْخَيْرِ وَالشَّرِّ ، وَلَوْ كَانَ فِيهِ الْخَيْرُ الَّذِي يَمْنَعُ ضِدَّهُ لَمْ يَتَمَكَّنْ مِنْهُ الشَّرُّ ، كَمَا قَالَ تَعَالَى :
nindex.php?page=tafseer&surano=12&ayano=24كَذَلِكَ لِنَصْرِفَ عَنْهُ السُّوءَ وَالْفَحْشَاءَ إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُخْلَصِينَ [ يُوسُفَ : 24 ] . وَقَالَ إِبْلِيسُ :
nindex.php?page=tafseer&surano=38&ayano=82فَبِعِزَّتِكَ لَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ إِلَّا عِبَادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ [ ص : 82 - 83 ] . وَقَالَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ :
nindex.php?page=tafseer&surano=15&ayano=41هَذَا صِرَاطٌ عَلَيَّ مُسْتَقِيمٌ إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ [ الْحِجْرِ : 41 - 42 ] .
nindex.php?page=treesubj&link=19694وَالْإِخْلَاصُ : خُلُوصُ الْقَلْبِ مِنْ تَأْلِيهِ مَا سِوَى اللَّهِ تَعَالَى وَإِرَادَتِهِ وَمَحَبَّتِهِ ، فَخَلَصَ لِلَّهِ ، فَلَمْ يَتَمَكَّنْ مِنْهُ الشَّيْطَانُ . وَأَمَّا إِذَا صَادَفَهُ فَارِغًا مِنْ ذَلِكَ ، تَمَكَّنَ مِنْهُ بِحَسَبِ فَرَاغِهِ ، فَيَكُونُ جَعْلُهُ مُذْنِبًا مُسِيئًا فِي هَذِهِ الْحَالِ عُقُوبَةً لَهُ عَلَى عَدَمِ هَذَا الْإِخْلَاصِ . وَهِيَ مَحْضُ الْعَدْلِ .
فَإِنْ قُلْتَ : فَذَلِكَ الْعَدَمُ مَنْ خَلَقَهُ فِيهِ ؟ قِيلَ : هَذَا سُؤَالٌ فَاسِدٌ ، فَإِنَّ الْعَدَمَ كَاسْمِهِ ، لَا يَفْتَقِرُ إِلَى تَعَلُّقِ التَّكْوِينِ وَالْإِحْدَاثِ بِهِ ، فَإِنَّ عَدَمَ الْفِعْلِ لَيْسَ أَمْرًا وُجُودِيًّا حَتَّى يُضَافَ إِلَى الْفَاعِلِ ، بَلْ هُوَ شَرٌّ مَحْضٌ ، وَالشَّرُّ لَيْسَ إِلَى اللَّهِ سُبْحَانَهُ ، كَمَا قَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي حَدِيثِ الِاسْتِفْتَاحِ :
nindex.php?page=hadith&LINKID=964503لَبَّيْكَ وَسَعْدَيْكَ ، وَالْخَيْرُ كُلُّهُ فِي يَدَيْكَ ، وَالشَّرُّ لَيْسَ إِلَيْكَ . وَكَذَا فِي حَدِيثِ الشَّفَاعَةِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ ، حِينَ يَقُولُ لَهُ اللَّهُ :
[ ص: 647 ] يَا
مُحَمَّدُ ، nindex.php?page=hadith&LINKID=964504فَيَقُولُ : لَبَّيْكَ وَسَعْدَيْكَ ، وَالْخَيْرُ فِي يَدَيْكَ ، وَالشَّرُّ لَيْسَ إِلَيْكَ .
وَقَدْ أَخْبَرَ اللَّهُ تَعَالَى أَنَّ تَسْلِيطَ الشَّيْطَانِ إِنَّمَا هُوَ عَلَى الَّذِينَ يَتَوَلَّوْنَهُ وَالَّذِينَ هُمْ بِهِ مُشْرِكُونَ ، فَلَمَّا تَوَلَّوْهُ دُونَ اللَّهِ وَأَشْرَكُوا بِهِ مَعَهُ - عُوقِبُوا عَلَى ذَلِكَ بِتَسْلِيطِهِ عَلَيْهِمْ ، وَكَانَتْ هَذِهِ الْوِلَايَةُ وَالْإِشْرَاكُ عُقُوبَةَ خُلُوِّ الْقَلْبِ وَفَرَاغِهِ مِنَ الْإِخْلَاصِ . فَإِلْهَامُ الْبِرِّ وَالتَّقْوَى ثَمَرَةُ هَذَا الْإِخْلَاصِ وَنَتِيجَتُهُ ، وَإِلْهَامُ الْفُجُورِ عُقُوبَةٌ عَلَى خُلُوِّهِ مِنَ الْإِخْلَاصِ .
فَإِنْ قُلْتَ : إِنْ كَانَ هَذَا التَّرْكُ أَمْرًا وُجُودِيًّا عَادَ السُّؤَالُ جَذَعًا ، وَإِنْ كَانَ أَمْرًا عَدَمِيًّا فَكَيْفَ يُعَاقَبُ عَلَى الْعَدَمِ الْمَحْضِ ؟
قِيلَ : لَيْسَ هَنَا تَرْكٌ هُوَ كَفُّ النَّفْسِ وَمَنْعُهَا عَمَّا تُرِيدُهُ وَتُحِبُّهُ ، فَهَذَا قَدْ يُقَالُ : إِنَّهُ أَمْرٌ وُجُودِيٌّ ، وَإِنَّمَا هُنَا عَدَمٌ وَخُلُوٌّ مِنْ أَسْبَابِ الْخَيْرِ ، وَهَذَا الْعَدَمُ هُوَ مَحْضُ خُلُوِّهَا مِمَّا هُوَ أَنْفَعُ شَيْءٍ لَهَا ، وَالْعُقُوبَةُ عَلَى الْأَمْرِ
[ ص: 648 ] الْعَدَمِيِّ هِيَ بِفِعْلِ السَّيِّئَاتِ ، لَا بِالْعُقُوبَاتِ الَّتِي تَنَالُهُ بَعْدَ إِقَامَةِ الْحُجَّةِ عَلَيْهِ بِالرُّسُلِ . فَلِلَّهِ فِيهِ عُقُوبَتَانِ :
إِحْدَاهُمَا : جَعْلُهُ مُذْنِبًا خَاطِئًا ، وَهَذِهِ عُقُوبَةُ عَدَمِ إِخْلَاصِهِ وَإِنَابَتِهِ وَإِقْبَالِهِ عَلَى اللَّهِ ، وَهَذِهِ الْعُقُوبَةُ قَدْ لَا يُحِسُّ بِأَلَمِهَا وَمَضَرَّتِهَا ، لِمُوَافَقَتِهَا شَهْوَتَهُ وَإِرَادَتَهُ ، وَهِيَ فِي الْحَقِيقَةِ مِنْ أَعْظَمِ الْعُقُوبَاتِ .
وَالثَّانِيَةُ : الْعُقُوبَاتُ الْمُؤْلِمَةُ بَعْدَ فِعْلِهِ لِلسَّيِّئَاتِ . وَقَدْ قَرَنَ اللَّهُ تَعَالَى بَيْنَ هَاتَيْنِ الْعُقُوبَتَيْنِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى :
nindex.php?page=tafseer&surano=6&ayano=44فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ أَبْوَابَ كُلِّ شَيْءٍ [ الْأَنْعَامِ : 44 ] . فَهَذِهِ الْعُقُوبَةُ الْأُولَى ، ثُمَّ قَالَ :
nindex.php?page=tafseer&surano=6&ayano=44حَتَّى إِذَا فَرِحُوا بِمَا أُوتُوا أَخَذْنَاهُمْ بَغْتَةً [ الْأَنْعَامِ : 44 ] فَهَذِهِ الْعُقُوبَةُ الثَّانِيَةُ .
فَإِنْ قِيلَ : فَهَلْ كَانَ يُمْكِنُهُمْ أَنْ يَأْتُوا بِالْإِخْلَاصِ وَالْإِنَابَةِ وَالْمَحَبَّةِ لَهُ وَحْدَهُ - مِنْ غَيْرِ أَنْ يَخْلُقَ ذَلِكَ فِي قُلُوبِهِمْ وَيَجْعَلَهُمْ مُخْلِصِينَ لَهُ مُنِيبِينَ لَهُ مُحِبِّينَ لَهُ ؟ أَمْ ذَلِكَ مَحْضُ جَعْلِهِ فِي قُلُوبِهِمْ وَإِلْقَائِهِ فِيهَا ؟ قِيلَ : لَا ، بَلْ هُوَ مَحْضُ مِنَّتِهِ وَفَضْلِهِ ، وَهُوَ مِنْ أَعْظَمِ الْخَيْرِ الَّذِي هُوَ بِيَدِهِ ، وَالْخَيْرُ كُلُّهُ فِي يَدَيْهِ ، وَلَا يَقْدِرُ أَحَدٌ أَنْ يَأْخُذَ مِنَ الْخَيْرِ إِلَّا مَا أَعْطَاهُ ، وَلَا يَتَّقِي مِنَ الشَّرِّ إِلَّا مَا وَقَاهُ .
فَإِنْ قِيلَ : فَإِذَا لَمْ يُخْلَقْ ذَلِكَ فِي قُلُوبِهِمْ وَلَمْ يُوَفَّقُوا لَهُ ، وَلَا سَبِيلَ لَهُمْ إِلَيْهِ بِأَنْفُسِهِمْ ، عَادَ السُّؤَالُ ؟ وَكَانَ مَنْعُهُمْ مِنْهُ ظُلْمًا ، وَلَزِمَكُمُ الْقَوْلُ بِأَنَّ الْعَدْلَ هُوَ تَصَرُّفُ الْمَالِكِ فِي مُلْكِهِ بِمَا يَشَاءُ ، لَا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُونَ .
قِيلَ : لَا يَكُونُ سُبْحَانَهُ بِمَنْعِهِمْ مِنْ ذَلِكَ ظَالِمًا ، وَإِنَّمَا يَكُونُ الْمَانِعُ ظَالِمًا إِذَا مَنَعَ غَيْرَهُ حَقًا لِذَلِكَ الْغَيْرِ عَلَيْهِ ، وَهَذَا هُوَ الَّذِي حَرَّمَهُ الرَّبُّ
[ ص: 649 ] عَلَى نَفْسِهِ ، وَأَوْجَبَ عَلَى نَفْسِهِ خِلَافَهُ . وَأَمَّا إِذَا مَنَعَ غَيْرَهُ مَا لَيْسَ بِحَقٍّ لَهُ ، بَلْ هُوَ مَحْضُ فَضْلِهِ وَمِنَّتِهِ عَلَيْهِ - لَمْ يَكُنْ ظَالِمًا بِمَنْعِهِ ، فَمَنْعُ الْحَقِّ ظُلْمٌ ، وَمَنْعُ الْفَضْلِ وَالْإِحْسَانِ عَدْلٌ . وَهُوَ سُبْحَانَهُ الْعَدْلُ فِي مَنْعِهِ ، كَمَا هُوَ الْمُحْسِنُ الْمَنَّانُ بِعَطَائِهِ .
فَإِنْ قِيلَ : فَإِذَا كَانَ الْعَطَاءُ وَالتَّوْفِيقُ إِحْسَانًا وَرَحْمَةً ، فَهَلَّا كَانَ الْعَمَلُ لَهُ وَالْغَلَبَةُ ، كَمَا أَنَّ رَحْمَتَهُ تَغْلِبُ غَضَبَهُ ؟
قِيلَ : الْمَقْصُودُ فِي هَذَا الْمَقَامِ بَيَانُ أَنَّ هَذِهِ الْعُقُوبَةَ الْمُتَرَتِّبَةَ عَلَى هَذَا الْمَنْعِ ، وَالْمَنْعَ الْمُسْتَلْزِمَ لِلْعُقُوبَةِ - لَيْسَ بِظُلْمٍ ، بَلْ هُوَ مَحْضُ الْعَدْلِ .
وَهَذَا سُؤَالٌ عَنِ
nindex.php?page=treesubj&link=30364الْحِكْمَةِ الَّتِي أَوْجَبَتْ تَقْدِيمَ الْعَدْلِ عَلَى الْفَضْلِ فِي بَعْضِ الْمَحَالِّ ؟ وَهَلَّا سَوَّى بَيْنَ الْعِبَادِ فِي الْفَضْلِ ؟ وَهَذَا السُّؤَالُ حَاصِلُهُ : لِمَ تَفَضَّلَ عَلَى هَذَا وَلَمْ يَتَفَضَّلْ عَلَى الْآخَرِ ؟ وَقَدْ تَوَلَّى اللَّهُ سُبْحَانَهُ الْجَوَابَ عَنْهُ بِقَوْلِهِ :
nindex.php?page=tafseer&surano=57&ayano=21ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ [ الْحَدِيدِ : 21 ] . وَقَوْلِهِ :
nindex.php?page=tafseer&surano=57&ayano=29لِئَلَّا يَعْلَمَ أَهْلُ الْكِتَابِ أَلَّا يَقْدِرُونَ عَلَى شَيْءٍ مِنْ فَضْلِ اللَّهِ وَأَنَّ الْفَضْلَ بِيَدِ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ [ الْحَدِيدِ : 29 ] . وَلَمَّا سَأَلَهُ
الْيَهُودُ وَالنَّصَارَى عَنْ تَخْصِيصِ هَذِهِ الْأُمَّةِ بِأَجْرَيْنِ وَإِعْطَائِهِمْ هُمْ أَجْرًا أَجْرًا ، قَالَ : هَلْ ظَلَمْتُكُمْ مِنْ حَقِّكُمْ شَيْئًا ؟ قَالُوا : لَا ، قَالَ : فَذَلِكَ فَضْلِي أُوتِيهِ مَنْ أَشَاءُ وَلَيْسَ فِي الْحِكْمَةِ إِطْلَاعُ كُلِّ فَرْدٍ مِنْ أَفْرَادِ النَّاسِ عَلَى
[ ص: 650 ] كَمَالِ حِكْمَتِهِ فِي عَطَائِهِ وَمَنْعِهِ ، بَلْ إِذَا كَشَفَ اللَّهُ عَنْ بَصِيرَةِ الْعَبْدِ ، حَتَّى أَبْصَرَ طَرَفًا يَسِيرًا مِنْ حِكْمَتِهِ فِي خَلْقِهِ ، وَأَمْرِهِ وَثَوَابِهِ وَعِقَابِهِ ، وَتَخْصِيصِهِ وَحِرْمَانِهِ ، وَتَأَمَّلَ أَحْوَالَ مَحَالِّ ذَلِكَ ، اسْتَدَلَّ بِمَا عَلِمَهُ عَلَى مَا لَمْ يَعْلَمْهُ .
وَلَمَّا اسْتَشْكَلَ أَعْدَاؤُهُ الْمُشْرِكُونَ هَذَا التَّخْصِيصَ ، قَالُوا :
nindex.php?page=tafseer&surano=6&ayano=53أَهَؤُلَاءِ مَنَّ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنْ بَيْنِنَا قَالَ تَعَالَى مُجِيبًا لَهُمْ :
nindex.php?page=tafseer&surano=6&ayano=53nindex.php?page=treesubj&link=28977أَلَيْسَ اللَّهُ بِأَعْلَمَ بِالشَّاكِرِينَ [ الْأَنْعَامِ : 53 ] . فَتَأَمَّلْ هَذَا الْجَوَابَ ، تَرَ فِي ضِمْنِهِ أَنَّهُ سُبْحَانَهُ أَعْلَمُ بِالْمَحَلِّ الَّذِي يَصْلُحُ لِغَرْسِ شَجَرَةِ النِّعْمَةِ فَتُثْمِرُ بِالشُّكْرِ ، مِنَ الْمَحَلِّ الَّذِي لَا يَصْلُحُ لِغَرْسِهَا ، فَلَوْ غُرِسَتْ فِيهِ لَمْ تُثْمِرْ ، فَكَانَ غَرْسُهَا هُنَاكَ ضَائِعًا لَا يَلِيقُ بِالْحِكْمَةِ ، كَمَا قَالَ تَعَالَى :
nindex.php?page=tafseer&surano=6&ayano=124اللَّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسَالَتَهُ [ الْأَنْعَامِ : 124 ] .