بيان
nindex.php?page=treesubj&link=19574_19597مظان الحاجة إلى الصبر
وأن العبد لا يستغني عنه في حال من الأحوال :
اعلم أن جميع ما يلقى العبد في هذه الحياة لا يخلو من نوعين : ما يوافق هواه ، وما لا يوافقه بل يكرهه ، وهو محتاج إلى الصبر في كل واحد منهما ، وهو في جميع الأحوال لا يخلو عن هذين النوعين ، فإذن لا يستغني قط عن الصبر .
النوع الأول : ما يوافق الهوى ، وهو الصحة والسلامة والمال والجاه وكثرة العشيرة واتساع الأسباب وكثرة الأتباع والأنصار وجميع ملاذ الدنيا ، وما أحوج العبد إلى الصبر على هذه الأمور ، فإنه إن لم يضبط نفسه عن الاسترسال والركون إليها والانهماك في ملاذها المباحة ، أخرجه ذلك إلى البطر والطغيان ، ولذلك حذر الله عباده من فتنة المال والزوج والولد فقال - تعالى - : (
nindex.php?page=tafseer&surano=63&ayano=9ياأيها الذين آمنوا لا تلهكم أموالكم ولا أولادكم عن ذكر الله ) [ المنافقون : 9 ] وقال عز وجل : (
nindex.php?page=tafseer&surano=64&ayano=14إن من أزواجكم وأولادكم عدوا لكم فاحذروهم ) [ التغابن : 14 ] . فالرجل كل الرجل من يصبر على العافية ، ومعنى الصبر عليها أن لا يركن إليها ، وأن لا يرسل نفسه في الفرح بها ، وأن يرعى حقوق الله في ماله بالإنفاق ، وفي بدنه ببذل المعونة للخلق ، وفي لسانه ببذل الصدق ، وكذلك في سائر ما أنعم الله به عليه .
وهذا الصبر متصل بالشكر ، وإنما كان الصبر على السراء أشد ؛ لأنه مقرون بالقدرة ، والجائع عند غيبة الطعام أقدر على الصبر منه إذا حضرته الأطعمة اللذيذة وقدر عليها ، فلهذا عظمت فتنة السراء .
النوع الثاني : ما لا يوافق الهوى والطبع ، وذلك إما أن يرتبط باختيار العبد كالطاعات والمعاصي ، أو لا يرتبط باختياره كالمصائب ، أو لا يرتبط باختياره ولكن له اختيار في إزالته كالتشفي من المؤذي بالانتقام منه ، فهذه ثلاثة أقسام :
القسم الأول : ما يرتبط باختياره ، وهما ضربان :
الضرب الأول : الطاعة ، والعبد يحتاج إلى الصبر عليها ؛ لأن منها ما تنفر عنه النفس
[ ص: 283 ] بسبب الكسل كالصلاة ، أو بسبب البخل كالزكاة أو بسببهما جميعا كالحج والجهاد ، وكل ذلك يحتاج إلى صبر .
الضرب الثاني : المعاصي ، وقد جمع الله - تعالى - أنواع المعاصي في قوله - تعالى - : (
nindex.php?page=tafseer&surano=16&ayano=90وينهى عن الفحشاء والمنكر والبغي ) [ النحل : 90 ] فما أحوج العبد إلى الصبر عنها سيما ما لا يثقل منها على النفس كالغيبة والكذب والمراء والثناء على النفس تعريضا وتصريحا وأنواع المزح المؤذي للقلوب وضروب الكلمات التي يقصد بها الإزراء والاستحقار والقدح في الموتى ، ولمصير ذلك معتادا في المحاورات بطل استقباحها من القلوب لعموم الأنس بها ، وهي من أكبر الموبقات .
القسم الثاني : ما لا يرتبط هجومه باختياره وله اختيار في دفعه ، كما لو أوذي بفعل أو قول وجني عليه في نفسه أو ماله ، فالصبر على ذلك بترك المكافأة ، تارة يكون واجبا وتارة يكون فضيلة ، قال - تعالى - : (
nindex.php?page=tafseer&surano=73&ayano=10واصبر على ما يقولون واهجرهم هجرا جميلا ) [ المزمل : 10 ] وقال - تعالى - : (
nindex.php?page=tafseer&surano=3&ayano=186ولتسمعن من الذين أوتوا الكتاب من قبلكم ومن الذين أشركوا أذى كثيرا وإن تصبروا وتتقوا فإن ذلك من عزم الأمور ) [ آل عمران : 186 ] أي تصبروا على المكافأة ، ولذلك مدح الله - تعالى - العافين عن حقوقهم في القصاص وغيره فقال - تعالى - : (
nindex.php?page=tafseer&surano=16&ayano=126وإن عاقبتم فعاقبوا بمثل ما عوقبتم به ولئن صبرتم لهو خير للصابرين ) [ النحل : 126 ] وقال - صلى الله عليه وسلم - : "
nindex.php?page=hadith&LINKID=16004662صل من قطعك وأعط من حرمك واعف عمن ظلمك " .
القسم الثالث : ما لا يدخل تحت حصر الاختيار كالمصائب ، مثل موت الأعزة وهلاك الأموال وزوال الصحة بالمرض وعمى العين وفساد الأعضاء ، وسائر أنواع البلاء ، فالصبر على ذلك من أعلى مقامات الصبر ، وإنما ينال درجة
nindex.php?page=treesubj&link=19585الصبر في المصائب بترك الجزع وشق الجيوب وضرب الخدود والمبالغة في الشكوى وإظهار الكآبة وتغيير العادة في الملبس والمفرش والمطعم ، لأن هذه الأمور داخلة تحت اختياره ، فينبغي أن يجتنب جميعها ويظهر الرضاء بقضاء الله - تعالى - ويبقى مستمرا على عادته ، ويعتقد أن ذلك كان وديعة فاسترجعت ، كما روي عن "
nindex.php?page=showalam&ids=11088أم سليم " - رحمها الله - قالت : "
nindex.php?page=hadith&LINKID=16004663توفي ابن لي ، وزوجي أبو طلحة غائب فقمت فسجيته في ناحية البيت ، فهيأت له إفطاره ، فجعل يأكل ، فقال : كيف الصبي ؟ فقلت : بحمد الله لم يكن منذ اشتكى بأسكن منه الليلة ، ثم تصنعت له أحسن ما كنت أتصنع له قبل ذلك حتى أصاب مني حاجته ، ثم قلت : ألا تعجب من جيراننا ؟ قال : ما لهم ؟ قلت : أعيروا عارية فلما طلبت منهم واسترجعت جزعوا ، فقال : بئس ما صنعوا ، فقلت : هذا ابنك كان عارية من الله - تعالى - [ ص: 284 ] وإن الله قبضه إليه ، فحمد الله واسترجع ، ثم غدا على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فأخبره فقال : "اللهم بارك لهما في ليلتهما " قال الراوي : "فلقد رأيت لهم بعد ذلك في المسجد سبعة كلهم قد قرؤوا القرآن " .
ولا يخرجه عن حد الصابرين توجع القلب ولا فيضان العين بالدمع ؛ لأن ذلك مقتضى البشرية ، ولذلك
nindex.php?page=hadith&LINKID=16004664لما مات " إبراهيم " ولد النبي - صلى الله عليه وسلم - فاضت عيناه فقيل له في ذلك فقال : "هذه رحمة ، وإنما يرحم الله من عباده الرحماء " بل ذلك لا يخرج أيضا عن مقام الرضاء .
وقد ظهر لك بهذه التقسيمات أن وجوب الصبر عام في جميع الأحوال والأفعال ، حتى من اعتزل وحده لا يستغني عن الصبر على وساوس الشيطان باطنا ، فإن اختلاج الخواطر لا يسكن ، ولا يزال في شغل دائم بسببها يضيع به الزمان ، وقد يتفكر في وجوه الحيل لقضاء الشهوات .
ولا تظنن أن الشيطان يخلو عنه قلب فارغ بل هو سيال يجري من ابن
آدم مجرى الدم ، وسيلانه مثل الهواء في القدح فإنك إن أردت أن يخلو القدح عن الهواء من غير أن تشغله بالماء أو بغيره فقد طمعت في غير مطمع ، بل بقدر ما يخلو من الماء يدخل فيه الهواء لا محالة ، فكذلك القلب المشغول بفكر مهم في الدين يخلو عن جولان الشيطان ، وإلا فمن غفل ولو في لحظة فليس له في تلك اللحظة قرين إلا الشيطان ، ولذلك قال - تعالى - : (
nindex.php?page=tafseer&surano=43&ayano=36ومن يعش عن ذكر الرحمن نقيض له شيطانا فهو له قرين ) [ الزخرف : 36 ] وفي خبر : "
إن الله - تعالى - يبغض الشاب الفارغ " وهذا لأن الشاب إذا تعطل عن عمل يشغل باطنه بمباح يستعين به على دينه كان ظاهره فارغا ، ولم يبق قلبه فارغا بل يعشش فيه الشيطان ويبيض ويفرخ ثم تزدوج أفراخه أيضا وهكذا ، ولذا قال "
الحلاج " لما سئل عن التصوف : "هي نفسك إن لم تشغلها شغلتك " فإذن
nindex.php?page=treesubj&link=19571حقيقة الصبر وكماله ، الصبر عن كل حركة مذمومة ، وحركة الباطن أولى بالصبر عن ذلك ، وهذا صبر دائم لا يقطعه إلا الموت ، نسأل الله حسن التوفيق بمنه وكرمه .
بَيَانُ
nindex.php?page=treesubj&link=19574_19597مَظَانِّ الْحَاجَةِ إِلَى الصَّبْرِ
وَأَنَّ الْعَبْدَ لَا يَسْتَغْنِي عَنْهُ فِي حَالٍ مِنَ الْأَحْوَالِ :
اعْلَمْ أَنَّ جَمِيعَ مَا يَلْقَى الْعَبْدُ فِي هَذِهِ الْحَيَاةِ لَا يَخْلُو مِنْ نَوْعَيْنِ : مَا يُوَافِقُ هَوَاهُ ، وَمَا لَا يُوَافِقُهُ بَلْ يَكْرَهُهُ ، وَهُوَ مُحْتَاجٌ إِلَى الصَّبْرِ فِي كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا ، وَهُوَ فِي جَمِيعِ الْأَحْوَالِ لَا يَخْلُو عَنْ هَذَيْنِ النَّوْعَيْنِ ، فَإِذَنْ لَا يَسْتَغْنِي قَطُّ عَنِ الصَّبْرِ .
النَّوْعُ الْأَوَّلُ : مَا يُوَافِقُ الْهَوَى ، وَهُوَ الصِّحَّةُ وَالسَّلَامَةُ وَالْمَالُ وَالْجَاهُ وَكَثْرَةُ الْعَشِيرَةِ وَاتِّسَاعُ الْأَسْبَابِ وَكَثْرَةُ الْأَتْبَاعِ وَالْأَنْصَارِ وَجَمِيعُ مَلَاذِّ الدُّنْيَا ، وَمَا أَحْوَجَ الْعَبْدَ إِلَى الصَّبْرِ عَلَى هَذِهِ الْأُمُورِ ، فَإِنَّهُ إِنْ لَمْ يَضْبِطْ نَفْسَهُ عَنِ الِاسْتِرْسَالِ وَالرُّكُونِ إِلَيْهَا وَالِانْهِمَاكِ فِي مَلَاذِّهَا الْمُبَاحَةِ ، أَخْرَجَهُ ذَلِكَ إِلَى الْبَطَرِ وَالطُّغْيَانِ ، وَلِذَلِكَ حَذَّرَ اللَّهُ عِبَادَهُ مِنْ فِتْنَةِ الْمَالِ وَالزَّوْجِ وَالْوَلَدِ فَقَالَ - تَعَالَى - : (
nindex.php?page=tafseer&surano=63&ayano=9يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُلْهِكُمْ أَمْوَالُكُمْ وَلَا أَوْلَادُكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ ) [ الْمُنَافِقُونَ : 9 ] وَقَالَ عَزَّ وَجَلَّ : (
nindex.php?page=tafseer&surano=64&ayano=14إِنَّ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ وَأَوْلَادِكُمْ عَدُوًّا لَكُمْ فَاحْذَرُوهُمْ ) [ التَّغَابُنِ : 14 ] . فَالرَّجُلُ كُلُّ الرَّجُلِ مَنْ يَصْبِرُ عَلَى الْعَافِيَةِ ، وَمَعْنَى الصَّبْرِ عَلَيْهَا أَنْ لَا يَرْكَنَ إِلَيْهَا ، وَأَنْ لَا يُرْسِلَ نَفْسَهُ فِي الْفَرَحِ بِهَا ، وَأَنْ يَرْعَى حُقُوقَ اللَّهِ فِي مَالِهِ بِالْإِنْفَاقِ ، وَفِي بَدَنِهِ بِبَذْلِ الْمَعُونَةِ لِلْخَلْقِ ، وَفِي لِسَانِهِ بِبَذْلِ الصِّدْقِ ، وَكَذَلِكَ فِي سَائِرِ مَا أَنْعَمَ اللَّهُ بِهِ عَلَيْهِ .
وَهَذَا الصَّبْرُ مُتَّصِلٌ بِالشُّكْرِ ، وَإِنَّمَا كَانَ الصَّبْرُ عَلَى السَّرَّاءِ أَشَدَّ ؛ لِأَنَّهُ مَقْرُونٌ بِالْقُدْرَةِ ، وَالْجَائِعُ عِنْدَ غَيْبَةِ الطَّعَامِ أَقْدَرُ عَلَى الصَّبْرِ مِنْهُ إِذَا حَضَرَتْهُ الْأَطْعِمَةُ اللَّذِيذَةُ وَقَدَرَ عَلَيْهَا ، فَلِهَذَا عَظُمَتْ فِتْنَةُ السَّرَّاءِ .
النَّوْعُ الثَّانِي : مَا لَا يُوَافِقُ الْهَوَى وَالطَّبْعَ ، وَذَلِكَ إِمَّا أَنْ يَرْتَبِطَ بِاخْتِيَارِ الْعَبْدِ كَالطَّاعَاتِ وَالْمَعَاصِي ، أَوْ لَا يَرْتَبِطُ بِاخْتِيَارِهِ كَالْمَصَائِبِ ، أَوْ لَا يَرْتَبِطُ بِاخْتِيَارِهِ وَلَكِنْ لَهُ اخْتِيَارٌ فِي إِزَالَتِهِ كَالتَّشَفِّي مِنَ الْمُؤْذِي بِالِانْتِقَامِ مِنْهُ ، فَهَذِهِ ثَلَاثَةُ أَقْسَامٍ :
الْقِسْمُ الْأَوَّلُ : مَا يَرْتَبِطُ بِاخْتِيَارِهِ ، وَهُمَا ضَرْبَانِ :
الضَّرْبُ الْأَوَّلُ : الطَّاعَةُ ، وَالْعَبْدُ يَحْتَاجُ إِلَى الصَّبْرِ عَلَيْهَا ؛ لِأَنَّ مِنْهَا مَا تَنْفِرُ عَنْهُ النَّفْسُ
[ ص: 283 ] بِسَبَبِ الْكَسَلِ كَالصَّلَاةِ ، أَوْ بِسَبَبِ الْبُخْلِ كَالزَّكَاةِ أَوْ بِسَبَبِهِمَا جَمِيعًا كَالْحَجِّ وَالْجِهَادِ ، وَكُلُّ ذَلِكَ يَحْتَاجُ إِلَى صَبْرٍ .
الضَّرْبُ الثَّانِي : الْمَعَاصِي ، وَقَدْ جَمَعَ اللَّهُ - تَعَالَى - أَنْوَاعَ الْمَعَاصِي فِي قَوْلِهِ - تَعَالَى - : (
nindex.php?page=tafseer&surano=16&ayano=90وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ ) [ النَّحْلِ : 90 ] فَمَا أَحْوَجَ الْعَبْدَ إِلَى الصَّبْرِ عَنْهَا سِيَّمَا مَا لَا يَثْقُلُ مِنْهَا عَلَى النَّفْسِ كَالْغِيبَةِ وَالْكَذِبِ وَالْمِرَاءِ وَالثَّنَاءِ عَلَى النَّفْسِ تَعْرِيضًا وَتَصْرِيحًا وَأَنْوَاعِ الْمَزْحِ الْمُؤْذِي لِلْقُلُوبِ وَضُرُوبِ الْكَلِمَاتِ الَّتِي يُقْصَدُ بِهَا الْإِزْرَاءُ وَالِاسْتِحْقَارُ وَالْقَدْحُ فِي الْمَوْتَى ، وَلِمَصِيرِ ذَلِكَ مُعْتَادًا فِي الْمُحَاوَرَاتِ بَطَلَ اسْتِقْبَاحُهَا مِنَ الْقُلُوبِ لِعُمُومِ الْأُنْسِ بِهَا ، وَهِيَ مِنْ أَكْبَرِ الْمُوبِقَاتِ .
الْقِسْمُ الثَّانِي : مَا لَا يَرْتَبِطُ هُجُومُهُ بِاخْتِيَارِهِ وَلَهُ اخْتِيَارٌ فِي دَفْعِهِ ، كَمَا لَوْ أُوذِيَ بِفِعْلٍ أَوْ قَوْلٍ وَجُنِيَ عَلَيْهِ فِي نَفْسِهِ أَوْ مَالِهِ ، فَالصَّبْرُ عَلَى ذَلِكَ بِتَرْكِ الْمُكَافَأَةِ ، تَارَةً يَكُونُ وَاجِبًا وَتَارَةً يَكُونُ فَضِيلَةً ، قَالَ - تَعَالَى - : (
nindex.php?page=tafseer&surano=73&ayano=10وَاصْبِرْ عَلَى مَا يَقُولُونَ وَاهْجُرْهُمْ هَجْرًا جَمِيلًا ) [ الْمُزَّمِّلِ : 10 ] وَقَالَ - تَعَالَى - : (
nindex.php?page=tafseer&surano=3&ayano=186وَلَتَسْمَعُنَّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا أَذًى كَثِيرًا وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا فَإِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ ) [ آلِ عِمْرَانَ : 186 ] أَيْ تَصْبِرُوا عَلَى الْمُكَافَأَةِ ، وَلِذَلِكَ مَدَحَ اللَّهُ - تَعَالَى - الْعَافِينَ عَنْ حُقُوقِهِمْ فِي الْقِصَاصِ وَغَيْرِهِ فَقَالَ - تَعَالَى - : (
nindex.php?page=tafseer&surano=16&ayano=126وَإِنْ عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُوا بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُمْ بِهِ وَلَئِنْ صَبَرْتُمْ لَهُوَ خَيْرٌ لِلصَّابِرِينَ ) [ النَّحْلِ : 126 ] وَقَالَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - : "
nindex.php?page=hadith&LINKID=16004662صِلْ مَنْ قَطَعَكَ وَأَعْطِ مَنْ حَرَمَكَ وَاعْفُ عَمَّنْ ظَلَمَكَ " .
الْقِسْمُ الثَّالِثُ : مَا لَا يَدْخُلُ تَحْتَ حَصْرِ الِاخْتِيَارِ كَالْمَصَائِبِ ، مِثْلُ مَوْتِ الْأَعِزَّةِ وَهَلَاكِ الْأَمْوَالِ وَزَوَالِ الصِّحَّةِ بِالْمَرَضِ وَعَمَى الْعَيْنِ وَفَسَادِ الْأَعْضَاءِ ، وَسَائِرِ أَنْوَاعِ الْبَلَاءِ ، فَالصَّبْرُ عَلَى ذَلِكَ مِنْ أَعْلَى مَقَامَاتِ الصَّبْرِ ، وَإِنَّمَا يَنَالُ دَرَجَةَ
nindex.php?page=treesubj&link=19585الصَّبْرِ فِي الْمَصَائِبِ بِتَرْكِ الْجَزَعِ وَشَقِّ الْجُيُوبِ وَضَرْبِ الْخُدُودِ وَالْمُبَالَغَةِ فِي الشَّكْوَى وَإِظْهَارِ الْكَآبَةِ وَتَغْيِيرِ الْعَادَةِ فِي الْمَلْبَسِ وَالْمَفْرَشِ وَالْمَطْعَمِ ، لِأَنَّ هَذِهِ الْأُمُورَ دَاخِلَةٌ تَحْتَ اخْتِيَارِهِ ، فَيَنْبَغِي أَنْ يَجْتَنِبَ جَمِيعَهَا وَيُظْهِرَ الرِّضَاءَ بِقَضَاءِ اللَّهِ - تَعَالَى - وَيَبْقَى مُسْتَمِرًّا عَلَى عَادَتِهِ ، وَيَعْتَقِدُ أَنَّ ذَلِكَ كَانَ وَدِيعَةً فَاسْتُرْجِعَتْ ، كَمَا رُوِيَ عَنْ "
nindex.php?page=showalam&ids=11088أم سليم " - رَحِمَهَا اللَّهُ - قَالَتْ : "
nindex.php?page=hadith&LINKID=16004663تُوُفِّيَ ابْنٌ لِي ، وَزَوْجِي أبو طلحة غَائِبٌ فَقُمْتُ فَسَجَّيْتُهُ فِي نَاحِيَةِ الْبَيْتِ ، فَهَيَّأْتُ لَهُ إِفْطَارَهُ ، فَجَعَلَ يَأْكُلُ ، فَقَالَ : كَيْفَ الصَّبِيُّ ؟ فَقُلْتُ : بِحَمْدِ اللَّهِ لَمْ يَكُنْ مُنْذُ اشْتَكَى بِأَسْكَنَ مِنْهُ اللَّيْلَةَ ، ثُمَّ تَصَنَّعْتُ لَهُ أَحْسَنَ مَا كُنْتُ أَتَصَنَّعُ لَهُ قَبْلَ ذَلِكَ حَتَّى أَصَابَ مِنِّي حَاجَتَهُ ، ثُمَّ قُلْتُ : أَلَا تَعْجَبُ مِنْ جِيرَانِنَا ؟ قَالَ : مَا لَهُمْ ؟ قُلْتُ : أُعِيرُوا عَارِيَةً فَلَمَّا طُلِبَتْ مِنْهُمْ وَاسْتُرْجِعَتْ جَزِعُوا ، فَقَالَ : بِئْسَ مَا صَنَعُوا ، فَقُلْتُ : هَذَا ابْنُكَ كَانَ عَارِيَةً مِنَ اللَّهِ - تَعَالَى - [ ص: 284 ] وَإِنَّ اللَّهَ قَبَضَهُ إِلَيْهِ ، فَحَمِدَ اللَّهَ وَاسْتَرْجَعَ ، ثُمَّ غَدَا عَلَى رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَأَخْبَرَهُ فَقَالَ : "اللَّهُمَّ بَارِكْ لَهُمَا فِي لَيْلَتِهِمَا " قَالَ الرَّاوِي : "فَلَقَدْ رَأَيْتُ لَهُمْ بَعْدَ ذَلِكَ فِي الْمَسْجِدِ سَبْعَةً كُلُّهُمْ قَدْ قَرَؤُوا الْقُرْآنَ " .
وَلَا يُخْرِجُهُ عَنْ حَدِّ الصَّابِرِينَ تَوَجُّعُ الْقَلْبِ وَلَا فَيَضَانُ الْعَيْنِ بِالدَّمْعِ ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ مُقْتَضَى الْبَشَرِيَّةِ ، وَلِذَلِكَ
nindex.php?page=hadith&LINKID=16004664لَمَّا مَاتَ " إبراهيم " وَلَدُ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَاضَتْ عَيْنَاهُ فَقِيلَ لَهُ فِي ذَلِكَ فَقَالَ : "هَذِهِ رَحْمَةٌ ، وَإِنَّمَا يَرْحَمُ اللَّهُ مِنْ عِبَادِهِ الرُّحَمَاءَ " بَلْ ذَلِكَ لَا يُخْرِجُ أَيْضًا عَنْ مَقَامِ الرِّضَاءِ .
وَقَدْ ظَهَرَ لَكَ بِهَذِهِ التَّقْسِيمَاتِ أَنَّ وُجُوبَ الصَّبْرِ عَامٌّ فِي جَمِيعِ الْأَحْوَالِ وَالْأَفْعَالِ ، حَتَّى مَنِ اعْتَزَلَ وَحْدَهُ لَا يَسْتَغْنِي عَنِ الصَّبْرِ عَلَى وَسَاوِسِ الشَّيْطَانِ بَاطِنًا ، فَإِنَّ اخْتِلَاجَ الْخَوَاطِرِ لَا يَسْكُنُ ، وَلَا يَزَالُ فِي شُغُلٍ دَائِمٍ بِسَبَبِهَا يَضِيعُ بِهِ الزَّمَانُ ، وَقَدْ يَتَفَكَّرُ فِي وُجُوهِ الْحِيَلِ لِقَضَاءِ الشَّهَوَاتِ .
وَلَا تَظُنَّنَّ أَنَّ الشَّيْطَانَ يَخْلُو عَنْهُ قَلْبٌ فَارِغٌ بَلْ هُوَ سَيَّالٌ يَجْرِي مِنِ ابْنِ
آدَمَ مَجْرَى الدَّمِ ، وَسَيَلَانُهُ مِثْلُ الْهَوَاءِ فِي الْقَدَحِ فَإِنَّكَ إِنْ أَرَدْتَ أَنْ يَخْلُوَ الْقَدَحُ عَنِ الْهَوَاءِ مِنْ غَيْرِ أَنْ تَشْغَلَهُ بِالْمَاءِ أَوْ بِغَيْرِهِ فَقَدْ طَمِعْتَ فِي غَيْرِ مَطْمَعٍ ، بَلْ بِقَدْرِ مَا يَخْلُو مِنَ الْمَاءِ يَدْخُلُ فِيهِ الْهَوَاءُ لَا مَحَالَةَ ، فَكَذَلِكَ الْقَلْبُ الْمَشْغُولُ بِفِكْرٍ مُهِمٍّ فِي الدِّينِ يَخْلُو عَنْ جَوَلَانِ الشَّيْطَانِ ، وَإِلَّا فَمَنْ غَفَلَ وَلَوْ فِي لَحْظَةٍ فَلَيْسَ لَهُ فِي تِلْكَ اللَّحْظَةِ قَرِينٌ إِلَّا الشَّيْطَانُ ، وَلِذَلِكَ قَالَ - تَعَالَى - : (
nindex.php?page=tafseer&surano=43&ayano=36وَمَنْ يَعْشُ عَنْ ذِكْرِ الرَّحْمَنِ نُقَيِّضْ لَهُ شَيْطَانًا فَهُوَ لَهُ قَرِينٌ ) [ الزُّخْرُفِ : 36 ] وَفِي خَبَرٍ : "
إِنَّ اللَّهَ - تَعَالَى - يُبْغِضُ الشَّابَّ الْفَارِغَ " وَهَذَا لِأَنَّ الشَّابَّ إِذَا تَعَطَّلَ عَنْ عَمَلٍ يَشْغَلُ بَاطِنَهُ بِمُبَاحٍ يَسْتَعِينُ بِهِ عَلَى دِينِهِ كَانَ ظَاهِرُهُ فَارِغًا ، وَلَمْ يَبْقَ قَلْبُهُ فَارِغًا بَلْ يُعَشِّشُ فِيهِ الشَّيْطَانُ وَيَبِيضُ وَيُفَرِّخُ ثُمَّ تَزْدَوِجُ أَفْرَاخُهُ أَيْضًا وَهَكَذَا ، وَلِذَا قَالَ "
الحلاج " لَمَّا سُئِلَ عَنِ التَّصَوُّفِ : "هِيَ نَفْسُكَ إِنْ لَمْ تَشْغَلْهَا شَغَلَتْكَ " فَإِذَنْ
nindex.php?page=treesubj&link=19571حَقِيقَةُ الصَّبْرِ وَكَمَالُهُ ، الصَّبْرُ عَنْ كُلِّ حَرَكَةٍ مَذْمُومَةٍ ، وَحَرَكَةُ الْبَاطِنِ أَوْلَى بِالصَّبْرِ عَنْ ذَلِكَ ، وَهَذَا صَبْرٌ دَائِمٌ لَا يَقْطَعُهُ إِلَّا الْمَوْتُ ، نَسْأَلُ اللَّهَ حُسْنَ التَّوْفِيقِ بِمَنِّهِ وَكَرَمِهِ .