والجواب عما استدلوا به من قوله تعالى :
nindex.php?page=tafseer&surano=53&ayano=39وأن ليس للإنسان إلا ما سعى [ النجم : 39 ] قد أجاب العلماء بأجوبة : أصحها جوابان :
أحدهما : أن الإنسان بسعيه وحسن عشرته اكتسب الأصدقاء ، وأولد الأولاد ، ونكح الأزواج ، وأسدى الخير وتودد إلى الناس ، فترحموا عليه ، ودعوا له ، وأهدوا له ثواب الطاعات ، فكان ذلك أثر سعيه ، بل دخول المسلم مع جملة المسلمين في عقد الإسلام من أعظم الأسباب في وصول نفع كل من المسلمين إلى صاحبه ، في حياته وبعد مماته ، ودعوة المسلمين تحيط من ورائهم .
يوضحه : أن الله تعالى جعل الإيمان سببا لانتفاع صاحبه بدعاء إخوانه من المؤمنين وسعيهم ، فإذا أتى به فقد سعى في السبب الذي يوصل إليه ذلك .
[ ص: 670 ] الثاني : - وهو أقوى منه - : أن القرآن لم ينف انتفاع الرجل بسعي غيره وإنما نفى ملكه لغير سعيه ، وبين الأمرين من الفرق ما لا يخفى . فأخبر تعالى أنه لا يملك إلا سعيه ، وأما سعي غيره فهو ملك لساعيه ، فإن شاء أن يبذله لغيره ، وإن شاء أن يبقيه لنفسه .
وقوله سبحانه :
nindex.php?page=tafseer&surano=53&ayano=38nindex.php?page=treesubj&link=29024ألا تزر وازرة وزر أخرى وأن ليس للإنسان إلا ما سعى [ النجم : 38 - 39 ] . آيتان محكمتان ، مقتضيتان عدل الرب تعالى :
فالأولى تقتضي أنه لا يعاقب أحدا بجرم غيره ، ولا يؤاخذه بجريرة غيره ، كما يفعله ملوك الدنيا .
والثانية تقتضي أنه لا يفلح إلا بعمله ، ليقطع طمعه من نجاته بعمل آبائه وسلفه ومشايخه ، كما عليه أصحاب الطمع الكاذب ، وهو سبحانه لم يقل : لا ينتفع إلا بما سعى .
وكذلك قوله تعالى :
nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=286لها ما كسبت [ البقرة : 286 ] . وقوله :
nindex.php?page=tafseer&surano=36&ayano=54ولا تجزون إلا ما كنتم تعملون [ يس : 54 ] . على أن سياق هذه الآية يدل على أن المنفي عقوبة العبد بعمل غيره ، فإنه تعالى قال :
nindex.php?page=tafseer&surano=36&ayano=54فاليوم لا تظلم نفس شيئا ولا تجزون إلا ما كنتم تعملون [ يس : 54 ] .
وأما استدلالهم بقوله صلى الله عليه وسلم : "
nindex.php?page=hadith&LINKID=964519إذا مات ابن آدم انقطع عمله " فاستدلال ساقط ، فإنه لم يقل انقطع انتفاعه ، وإنما أخبر عن انقطاع عمله . وأما عمل غيره فهو لعامله ، فإن وهبه له وصل إليه ثواب عمل
[ ص: 671 ] العامل ، لا ثواب عمله هو ، وهذا كالدين يوفيه الإنسان عن غيره ، فتبرأ ذمته ، ولكن ليس له ما وفى به الدين .
وأما تفريق من فرق بين العبادات المالية والبدنية - فقد شرع النبي صلى الله عليه وسلم الصوم عن الميت ، كما تقدم ، مع أن الصوم لا تجزئ فيه النيابة ، وكذلك حديث
جابر رضي الله عنه ، قال :
nindex.php?page=hadith&LINKID=964520صليت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم عيد الأضحى ، فلما انصرف أتى بكبش فذبحه ، فقال : بسم الله والله أكبر ، اللهم هذا عني وعمن لم يضح من أمتي ، رواه
أحمد وأبو داود nindex.php?page=showalam&ids=13948والترمذي ، وحديث الكبشين اللذين قال في أحدهما :
اللهم هذا عن أمتي جميعا ، وفي الآخر :
اللهم هذا عن محمد وآل محمد ، رواه
أحمد . والقربة في الأضحية إراقة الدم ، وقد جعلها لغيره .
[ ص: 672 ] وكذلك
nindex.php?page=treesubj&link=3294_3308عبادة الحج بدنية ، وليس المال ركنا فيه ، وإنما هو وسيلة ، ألا ترى أن
nindex.php?page=treesubj&link=3353المكي يجب عليه الحج إذا قدر على المشي إلى عرفات ، من غير شرط المال . وهذا هو الأظهر ، أعني أن الحج غير مركب من مال وبدن ، بل بدني محض ، كما قد نص عليه جماعة من أصحاب
أبي حنيفة المتأخرين .
وانظر إلى فروض الكفايات : كيف قام فيها البعض عن الباقين ؟ ولأن هذا إهداء ثواب ، وليس من باب النيابة ، كما أن الأجير الخاص ليس له أن يستنيب عنه ، وله أن يعطي أجرته لمن شاء .
وَالْجَوَابُ عَمَّا اسْتَدَلُّوا بِهِ مِنْ قَوْلِهِ تَعَالَى :
nindex.php?page=tafseer&surano=53&ayano=39وَأَنْ لَيْسَ لِلْإِنْسَانِ إِلَّا مَا سَعَى [ النَّجْمِ : 39 ] قَدْ أَجَابَ الْعُلَمَاءُ بِأَجْوِبَةٍ : أَصَحُّهَا جَوَابَانِ :
أَحَدُهُمَا : أَنَّ الْإِنْسَانَ بِسَعْيِهِ وَحُسْنِ عِشْرَتِهِ اكْتَسَبَ الْأَصْدِقَاءَ ، وَأَوْلَدَ الْأَوْلَادَ ، وَنَكَحَ الْأَزْوَاجَ ، وَأَسْدَى الْخَيْرَ وَتَوَدَّدَ إِلَى النَّاسِ ، فَتَرَحَّمُوا عَلَيْهِ ، وَدَعَوْا لَهُ ، وَأَهْدَوْا لَهُ ثَوَابَ الطَّاعَاتِ ، فَكَانَ ذَلِكَ أَثَرَ سَعْيِهِ ، بَلْ دُخُولُ الْمُسْلِمِ مَعَ جُمْلَةِ الْمُسْلِمِينَ فِي عَقْدِ الْإِسْلَامِ مِنْ أَعْظَمِ الْأَسْبَابِ فِي وُصُولِ نَفْعِ كُلٍّ مِنَ الْمُسْلِمِينَ إِلَى صَاحِبِهِ ، فِي حَيَاتِهِ وَبَعْدَ مَمَاتِهِ ، وَدَعْوَةُ الْمُسْلِمِينَ تُحِيطُ مِنْ وَرَائِهِمْ .
يُوَضِّحُهُ : أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى جَعَلَ الْإِيمَانَ سَبَبًا لِانْتِفَاعِ صَاحِبِهِ بِدُعَاءِ إِخْوَانِهِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ وَسَعْيِهِمْ ، فَإِذَا أَتَى بِهِ فَقَدْ سَعَى فِي السَّبَبِ الَّذِي يُوصِلُ إِلَيْهِ ذَلِكَ .
[ ص: 670 ] الثَّانِي : - وَهُوَ أَقْوَى مِنْهُ - : أَنَّ الْقُرْآنَ لَمْ يَنْفِ انْتِفَاعَ الرَّجُلِ بِسَعْيِ غَيْرِهِ وَإِنَّمَا نَفَى مِلْكَهُ لِغَيْرِ سَعْيِهِ ، وَبَيْنَ الْأَمْرَيْنِ مِنَ الْفَرْقِ مَا لَا يَخْفَى . فَأَخْبَرَ تَعَالَى أَنَّهُ لَا يَمْلِكُ إِلَّا سَعْيَهُ ، وَأَمَّا سَعْيُ غَيْرِهِ فَهُوَ مِلْكٌ لِسَاعِيهِ ، فَإِنْ شَاءَ أَنْ يَبْذُلَهُ لِغَيْرِهِ ، وَإِنْ شَاءَ أَنْ يُبْقِيَهُ لِنَفْسِهِ .
وَقَوْلُهُ سُبْحَانَهُ :
nindex.php?page=tafseer&surano=53&ayano=38nindex.php?page=treesubj&link=29024أَلَّا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى وَأَنْ لَيْسَ لِلْإِنْسَانِ إِلَّا مَا سَعَى [ النَّجْمِ : 38 - 39 ] . آيَتَانِ مُحْكَمَتَانِ ، مُقْتَضِيَتَانِ عَدْلَ الرَّبِّ تَعَالَى :
فَالْأُولَى تَقْتَضِي أَنَّهُ لَا يُعَاقِبُ أَحَدًا بِجُرْمِ غَيْرِهِ ، وَلَا يُؤَاخِذُهُ بِجَرِيرَةِ غَيْرِهِ ، كَمَا يَفْعَلُهُ مُلُوكُ الدُّنْيَا .
وَالثَّانِيَةُ تَقْتَضِي أَنَّهُ لَا يُفْلِحُ إِلَّا بِعَمَلِهِ ، لِيَقْطَعَ طَمَعَهُ مِنْ نَجَاتِهِ بِعَمَلِ آبَائِهِ وَسَلَفِهِ وَمَشَايِخِهِ ، كَمَا عَلَيْهِ أَصْحَابُ الطَّمَعِ الْكَاذِبِ ، وَهُوَ سُبْحَانَهُ لَمْ يَقُلْ : لَا يَنْتَفِعُ إِلَّا بِمَا سَعَى .
وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ تَعَالَى :
nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=286لَهَا مَا كَسَبَتْ [ الْبَقَرَةِ : 286 ] . وَقَوْلُهُ :
nindex.php?page=tafseer&surano=36&ayano=54وَلَا تُجْزَوْنَ إِلَّا مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ [ يس : 54 ] . عَلَى أَنَّ سِيَاقَ هَذِهِ الْآيَةِ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْمَنْفِيَّ عُقُوبَةُ الْعَبْدِ بِعَمَلِ غَيْرِهِ ، فَإِنَّهُ تَعَالَى قَالَ :
nindex.php?page=tafseer&surano=36&ayano=54فَالْيَوْمَ لَا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئًا وَلَا تُجْزَوْنَ إِلَّا مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ [ يس : 54 ] .
وَأَمَّا اسْتِدْلَالُهُمْ بِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : "
nindex.php?page=hadith&LINKID=964519إِذَا مَاتَ ابْنُ آدَمَ انْقَطَعَ عَمَلُهُ " فَاسْتِدْلَالٌ سَاقِطٌ ، فَإِنَّهُ لَمْ يَقُلِ انْقَطَعَ انْتِفَاعُهُ ، وَإِنَّمَا أَخْبَرَ عَنِ انْقِطَاعِ عَمَلِهِ . وَأَمَّا عَمَلُ غَيْرِهِ فَهُوَ لِعَامِلِهِ ، فَإِنْ وَهَبَهُ لَهُ وَصَلَ إِلَيْهِ ثَوَابُ عَمَلِ
[ ص: 671 ] الْعَامِلِ ، لَا ثَوَابَ عَمَلِهِ هُوَ ، وَهَذَا كَالدَّيْنِ يُوَفِّيهِ الْإِنْسَانُ عَنْ غَيْرِهِ ، فَتَبْرَأُ ذِمَّتُهُ ، وَلَكِنْ لَيْسَ لَهُ مَا وَفَّى بِهِ الدَّيْنَ .
وَأَمَّا تَفْرِيقُ مَنْ فَرَّقَ بَيْنَ الْعِبَادَاتِ الْمَالِيَّةِ وَالْبَدَنِيَّةِ - فَقَدْ شَرَعَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الصَّوْمَ عَنِ الْمَيِّتِ ، كَمَا تَقَدَّمَ ، مَعَ أَنَّ الصَّوْمَ لَا تُجْزِئُ فِيهِ النِّيَابَةُ ، وَكَذَلِكَ حَدِيثُ
جَابِرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ ، قَالَ :
nindex.php?page=hadith&LINKID=964520صَلَّيْتُ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عِيدَ الْأَضْحَى ، فَلَمَّا انْصَرَفَ أَتَى بِكَبْشٍ فَذَبَحَهُ ، فَقَالَ : بِسْمِ اللَّهِ وَاللَّهُ أَكْبَرُ ، اللَّهُمَّ هَذَا عَنِّي وَعَمَّنْ لَمْ يُضَحِّ مِنْ أُمَّتِي ، رَوَاهُ
أَحْمَدُ وَأَبُو دَاوُدَ nindex.php?page=showalam&ids=13948وَالتِّرْمِذِيُّ ، وَحَدِيثُ الْكَبْشَيْنِ اللَّذَيْنِ قَالَ فِي أَحَدِهِمَا :
اللَّهُمَّ هَذَا عَنْ أُمَّتِي جَمِيعًا ، وَفِي الْآخَرِ :
اللَّهُمَّ هَذَا عَنْ مُحَمَّدٍ وَآلِ مُحَمَّدٍ ، رَوَاهُ
أَحْمَدُ . وَالْقُرْبَةُ فِي الْأُضْحِيَّةِ إِرَاقَةُ الدَّمِ ، وَقَدْ جَعَلَهَا لِغَيْرِهِ .
[ ص: 672 ] وَكَذَلِكَ
nindex.php?page=treesubj&link=3294_3308عِبَادَةُ الْحَجِّ بَدَنِيَّةٌ ، وَلَيْسَ الْمَالُ رُكْنًا فِيهِ ، وَإِنَّمَا هُوَ وَسِيلَةٌ ، أَلَا تَرَى أَنَّ
nindex.php?page=treesubj&link=3353الْمَكِّيَّ يَجِبُ عَلَيْهِ الْحَجُّ إِذَا قَدَرَ عَلَى الْمَشْيِ إِلَى عَرَفَاتٍ ، مِنْ غَيْرِ شَرْطِ الْمَالِ . وَهَذَا هُوَ الْأَظْهَرُ ، أَعْنِي أَنَّ الْحَجَّ غَيْرَ مُرَكَّبٍ مِنْ مَالٍ وَبَدَنٍ ، بَلْ بَدَنِيٌّ مَحْضٌ ، كَمَا قَدْ نَصَّ عَلَيْهِ جَمَاعَةٌ مِنْ أَصْحَابِ
أَبِي حَنِيفَةَ الْمُتَأَخِّرِينَ .
وَانْظُرْ إِلَى فُرُوضِ الْكِفَايَاتِ : كَيْفَ قَامَ فِيهَا الْبَعْضُ عَنِ الْبَاقِينَ ؟ وَلِأَنَّ هَذَا إِهْدَاءُ ثَوَابٍ ، وَلَيْسَ مِنْ بَابِ النِّيَابَةِ ، كَمَا أَنَّ الْأَجِيرَ الْخَاصَّ لَيْسَ لَهُ أَنْ يَسْتَنِيبَ عَنْهُ ، وَلَهُ أَنْ يُعْطِيَ أُجْرَتَهُ لِمَنْ شَاءَ .