الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                      صفحة جزء
                                                                                      وفي سنة إحدى وثلاثمائة أدخل الحلاج بغداد مشهورا على جمل ، قبض عليه بالسوس ، وحمل إلى الرائشي ، فبعث به إلى بغداد ، فصلب حيا ، ونودي عليه : هذا أحد دعاة القرامطة فاعرفوه .

                                                                                      وقال الفقيه أبو علي بن البناء : كان الحلاج قد ادعى أنه إله ، وأنه يقول بحلول اللاهوت في الناسوت ، فأحضره الوزير علي بن عيسى فلم يجده -إذ سأله- يحسن القرآن والفقه ولا الحديث ، فقال : تعلمك الفرض والطهور أجدى عليك من رسائل لا تدري ما تقول فيها ، كم تكتب -ويلك- إلى الناس : تبارك ذو النور الشعشعاني ! ما أحوجك إلى أدب ! وأمر به فصلب في الجانب الشرقي ، ثم في الغربي . ووجد في كتبه : إني مغرق قوم نوح ، ومهلك عاد وثمود .

                                                                                      وكان يقول للواحد من أصحابه : أنت نوح . ولآخر : أنت موسى . ولآخر : أنت محمد .

                                                                                      وقال : من رست قدمه في مكان المناجاة ، وكوشف بالمباشرة ، ولوطف بالمجاورة ، وتلذذ بالقرب ، وتزين بالأنس ، وترشح بمرأى الملكوت ، وتوشح بمحاسن الجبروت ، وترقى بعد أن توقى ، وتحقق بعد أن تمزق ، وتمزق بعد أن تزندق ، وتصرف بعد أن تعرف ، وخاطب وما راقب ، وتدلل بعد أن تذلل ، ودخل وما استأذن ، وقرب لما خرب ، وكلم لما كرم ما قتلوه وما صلبوه .

                                                                                      [ ص: 328 ] ابن باكويه : سمعت الحسين بن محمد المذاري يقول : سمعت أبا يعقوب النهرجوري يقول : دخل الحسين بن منصور مكة ، فجلس في صحن المسجد لا يبرح من موضعه إلا للطهارة أو الطواف ، لا يبالي بالشمس ولا بالمطر ، فكان يحمل إليه كل عشية كوز وقرص ، فيعض من جوانبه أربع عضات ويشرب .

                                                                                      أخبرنا المسلم بن محمد القيسي كتابة ، أخبرنا الكندي ، أخبرنا ابن زريق ، أخبرنا أبو بكر الخطيب ، حدثني محمد بن أبي الحسن الساحلي ، عن أحمد بن محمد النسوي ، سمعت محمد بن الحسين الحافظ ، سمعت إبراهيم بن محمد الواعظ يقول : قال أبو القاسم الرازي : قال أبو بكر بن ممشاذ : حضر عندنا بالدينور رجل معه مخلاة ، ففتشوها ، فوجدوا فيها كتابا للحلاج عنوانه : من الرحمن الرحيم إلى فلان بن فلان . فوجه إلى بغداد ، فأحضر ، وعرض عليه ، فقال : هذا خطي ، وأنا كتبته . فقالوا : كنت تدعي النبوة ، صرت تدعي الربوبية ؟ ! قال : لا ، ولكن هذا عين الجمع عندنا ، هل الكاتب إلا الله وأنا ؟ فاليد فيه آلة . فقيل : هل معك أحد ، قال : نعم ، ابن عطاء ، وأبو محمد الحريري ، والشبلي ، فأحضر الجريري ، وسئل ، فقال : هذا كافر ، يقتل من يقول هذا . وسئل الشبلي ، فقال : من يقول هذا يمنع . وسئل ابن عطاء ، فوافق الحلاج ، فكان سبب قتله .

                                                                                      قلت : أما أبو العباس بن عطاء فلم يقتل ، وكلم الوزير بكلام غليظ لما سأله ، وقال : ما أنت وهذا ؟ اشتغلت بظلم الناس . فعزره . وقال السلمي : حدثنا محمد بن عبد الله بن شاذان قال : كان الوزير حين أحضر الحلاج للقتل حامد بن العباس ، فأمره أن يكتب اعتقاده ، فكتب اعتقاده ، فعرضه الوزير على الفقهاء ببغداد ، فأنكروه ، فقيل لحامد : إن ابن عطاء يصوب قوله . فأمر [ ص: 329 ] به . فعرض على ابن عطاء ، فقال : هذا اعتقاد صحيح ، ومن لم يعتقد هذا فهو بلا اعتقاد . فأحضر إلى الوزير ، فجاء ، وتصدر في المجلس ، فغاظ الوزير ذلك ، ثم أخرج ذلك الخط ، فقال : أتصوب هذا ؟ قال : نعم ، ما لك ولهذا ؟ عليك بما نصبت له من المصادرة والظلم ، ما لك وللكلام في هؤلاء السادة ؟ فقال الوزير : فكيه . فضرب فكاه ، فقال أبو العباس : اللهم إنك سلطت هذا علي عقوبة لدخولي عليه . فقال الوزير : خفه يا غلام . فنزع خفه . فقال : دماغه . فما زال يضرب دماغه حتى سال الدم من منخريه . ثم قال : الحبس . فقيل : أيها الوزير ، يتشوش العامة . فحمل إلى منزله .

                                                                                      وروى أبو إسحاق البرمكي ، عن أبيه ، عن جده قال : حضرت بين يدي أبي الحسن بن بشار ، وعنده أبو العباس الأصبهاني ، فذاكره بقصة الحلاج ، وأنه لما قتل كتب ابن عطاء إلى ابن الحلاج كتابا يعزيه عن أبيه ، وقال : رحم الله أباك ، ونسخ روحه في أطيب الأجساد . فدل هذا على أنه يقول بالتناسخ ، فوقع الكتاب في يد حامد ، فأحضر أبا العباس بن عطاء وقال : هذا خطك ؟ قال : نعم . قال : فإقرارك أعظم . قال : فشيخ يكذب ؟ ! فأمر به ، فصفع ، فقال أبو الحسن بن بشار : إني لأرجو أن يدخل الله حامد بن العباس الجنة بذلك الصفع .

                                                                                      قال السلمي أكثر المشايخ ردوا الحلاج ونفوه ، وأبوا أن يكون له قدم في التصوف ، وقبله ابن عطاء ، وابن خفيف ، والنصرآباذي .

                                                                                      قلت : قد مر أن ابن خفيف عرض عليه شيء من كلام الحلاج ، فتبرأ منه .

                                                                                      [ ص: 330 ] وقال محمد بن يحيى الرازي : سمعت عمرو بن عثمان يلعن الحلاج ويقول : لو قدرت عليه لقتلته بيدي . فقلت : أيش وجد الشيخ عليه ؟ قال : قرأت آية من كتاب الله فقال : يمكنني أن أؤلف مثله .

                                                                                      وقال أبو يعقوب الأقطع : زوجت ابنتي من الحسين بن منصور لما رأيت من حسن طريقته واجتهاده ، فبان لي بعد مدة يسيرة أنه ساحر ، محتال ، كافر .

                                                                                      وقال أبو يعقوب النعماني : سمعت أبا بكر محمد بن داود الفقيه يقول : إن كان ما أنزل الله على نبيه حقا ، فما يقول الحلاج باطل . وكان شديدا عليه .

                                                                                      السلمي : سمعت علي بن سعيد الواسطي بالكوفة يقول : ما تجرد أحد على الحلاج وحمل السلطان على قتله كما تجرد له ابن داود . وبلغني أنه لما أخرج إلى القتل تغير وجه حامد بن العباس ، فقال له بعض الفقهاء : لا تشكن أيها الوزير ، إن كان ما جاء به محمد حقا ، فما يقول هذا باطل .

                                                                                      السلمي : سمعت الحسين بن يحيى ، سمعت جعفرا الخلدي وسئل عن الحلاج ، فقال : أعرفه وهو حدث ، كان هو والفوطي يصحبان عمرا المكي وهو يحلج .

                                                                                      السلمي : سمعت جعفر بن أحمد يقول : سمعت أبا بكر بن أبي سعدان يقول : الحلاج مموه ممخرق .

                                                                                      قال السلمي : وبلغني أنه وقف على الجنيد ، فقال : أنا الحق . قال : بل أنت بالحق ، أي خشبة تفسد .

                                                                                      السلمي : سمعت أبا بكر بن غالب يقول : سمعت بعض أصحابنا [ ص: 331 ] يقول : لما أرادوا قتل الحلاج ، أحضر لذلك الفقهاء ، فسألوه : ما البرهان؟ قال : شواهد يلبسها الحق لأهل الإخلاص ، يجذب في النفوس إليها جاذب القبول . فقالوا بأجمعهم : هذا كلام أهل الزندقة .

                                                                                      فنقول : بل من وزن نفسه وزمها بالكتاب والسنة ، فهو صاحب برهان وحجة ، فما أخيب سهم من فاته ذلك !

                                                                                      التالي السابق


                                                                                      الخدمات العلمية