الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                                                              صفحة جزء
                                                                                                                                                                                                                              1776 1875 - حدثنا عبد الله بن يوسف ، أخبرنا مالك، عن هشام بن عروة ، عن أبيه، عن عبد الله بن الزبير ، عن سفيان بن أبي زهير - رضي الله عنه - أنه قال: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: " تفتح اليمن فيأتي قوم يبسون، فيتحملون بأهليهم ومن أطاعهم، والمدينة خير لهم لو كانوا يعلمون، وتفتح الشأم، فيأتي قوم يبسون فيتحملون بأهليهم ومن أطاعهم، والمدينة خير لهم لو كانوا يعلمون، وتفتح العراق، فيأتي قوم يبسون فيتحملون بأهليهم ومن أطاعهم، والمدينة خير لهم لو كانوا يعلمون". [ مسلم: 1388 - فتح: 4 \ 90]

                                                                                                                                                                                                                              التالي السابق


                                                                                                                                                                                                                              ذكر فيه حديث أبي هريرة : سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "يتركون المدينة على خير ما كانت، لا يغشاها إلا العواف -يريد عوافي السباع والطير- وآخر من يحشر راعيان من مزينة، يريدان المدينة، ينعقان بغنمهما، فيجدانها وحشا، حتى إذا بلغا ثنية الوداع خرا على وجوههما".

                                                                                                                                                                                                                              وحديث سفيان بن أبي زهير أنه قال: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: "تفتح اليمن فيأتي قوم يبسون، فيتحملون بأهليهم ومن أطاعهم، والمدينة خير لهم لو كانوا يعلمون، وتفتح الشأم، فيأتي قوم يبسون فيتحملون بأهليهم ومن أطاعهم، والمدينة خير لهم لو كانوا يعلمون، وتفتح العراق، فيأتي قوم يبسون فيتحملون بأهليهم ومن أطاعهم، والمدينة [ ص: 543 ] خير لهم لو كانوا يعلمون".

                                                                                                                                                                                                                              الشرح:

                                                                                                                                                                                                                              الحديثان أخرجهما مسلم أيضا، والكلام عليهما من أوجه، وسفيان هذا فرد في الصحابة أزدي من أزد شنوءة.

                                                                                                                                                                                                                              أحدها: العافية والعفاة والعفا: الأضياف وطلاب المعروف، قاله ابن سيده وقيل: هم الذين يعتفونك، أي: يأتونك يطلبون مما عندك. والعافي أيضا الرائد والوارد; لأن ذلك كله طلب.

                                                                                                                                                                                                                              والعافية: طلاب الرزق من الدواب والطير، وعن الأخفش: واحدها: عافية، والمذكر: عاف. وقال ابن الجوزي: اجتمع في العوافي شيئان: طلبها لأقواتها، وطلبها العفا، وهو المكان الخالي الذي لا أنيس به ولا ملك عليه.

                                                                                                                                                                                                                              ثانيها: في مسلم: "يتركون المدينة على خير ما كانت" روي بتاء الخطاب، ومراده غير المخاطبين، لكن نوعهم من أهل المدينة ونسلهم، [ ص: 544 ] وبياء الغيبة، ذكرهما القرطبي.

                                                                                                                                                                                                                              ومعنى "على خير ما كانت" أي على أحسن حال كانت بعده من الرخاء، وكثرة الثمرة والخيرات، وفي معدن الخلافة وموضعها، ومقصد الناس، ومعقلهم وحين تنافسوا فيها وتوسعوا في خططها، وغرسوا وسكنوا فيها ما لم يسكن قبل، وبنوا وشيدوا، وحملت إليها الخيرات، فلما انتهت حالها انتقلت الخلافة منها إلى الشام فغلبت عليها الأعراب، وتعاورتها الفتن، خاف أهلها فارتحلوا عنها.

                                                                                                                                                                                                                              وذكر أهل الأخبار أنها خلت من أهلها، وبقيت ثمارها للعوافي كما أخبر الصادق، ثم تراجع الناس إليها، وفي حال خلوها عدت الكلاب على سواري المسجد. وعن مالك في هذا الحديث: "لتتركن المدينة خير ما كانت، حتى يدخل الكلب أو الذئب فيعوي على بعض سواري المسجد".

                                                                                                                                                                                                                              وقال: الظاهر أن هذا الترك يكون في آخر الزمان.

                                                                                                                                                                                                                              وقال عياض: هذا ما جرى في العصر الأول وانقضى، وهذا من معجزاته.

                                                                                                                                                                                                                              ثالثها: فيه دلالة كما قال المهلب أنها تسكن إلى يوم القيامة وإن خلت في بعض الأوقات لقصد هذين الراعيين بعنزهما إلى المدينة، وهذا يكون قريب قيام الساعة، وأن آية قيام الساعة عند موت هذين الراعيين أحرى أن يصير غنمهما وحوشا.

                                                                                                                                                                                                                              [ ص: 545 ] وأما قوله: ("آخر من يحشر راعيان من مزينة") ولم يذكر حشرهما، وإنما ذكر أنهما يخران على وجوههما أمواتا، فلا شك أنه لا حشر إلا بعد الموت، فهما آخر من يموت بالمدينة، وآخر من يحشر بعد ذلك كما قال - عليه السلام - وقال الداودي: يكونان في إثر من يبعث منها، ليس أن بعض الناس يخرج بعد بعض من الأجداث إلا بالشيء المتقارب. قال تعالى: فإذا هم جميع لدينا محضرون [يس: 53].

                                                                                                                                                                                                                              وفي "أخبار المدينة" لابن شبة من حديث أبي هريرة قال: "آخر من يحشر رجلان: رجل من مزينة، وآخر من جهينة، فيقولان: أين الناس؟ فيأتيان المدينة، فلا يريان إلا الثعالب، فينزل إليهما ملكان فيسحبانهما على وجوههما حتى يلحقاهما بالناس".

                                                                                                                                                                                                                              رابعها: "ينعقان" قال صاحب "العين": نعق بالغنم ينعق نعاقا ونعيقا إذا صاح بها. قال الأزهري عن الفراء وغيره: وهو دعاء الراعي الشاء، يقال: انعق بضأنك أي: ادعها، وقد نعق الراعي بها نعيقا.

                                                                                                                                                                                                                              وعن الفراء في قوله تعالى: كمثل الذي ينعق [البقرة: 171] قال: أضاف المثل إلى الذين كفروا، ثم شبههم بالراعي، ولم يقل: كالغنم. والمعنى -والله أعلم- إن مثلهم كمثل البهائم التي لا تفقه ما يقول الراعي أكثر من الصوت.

                                                                                                                                                                                                                              وفي "الموعب": نعيقا ونعاقا: إذا صاح بها الراعي زجرا، ونعقا، [ ص: 546 ] ونعقانا، وقد نعق ينعق، ونعق الغراب -بالمهملة والمعجمة أيضا- صاح. وقال الداودي معناه: يطلبان الكلام.

                                                                                                                                                                                                                              خامسها: "وحوشا" ولمسلم "وحشا" أي: خالية ليس فيها أحد.

                                                                                                                                                                                                                              وقال الحربي: الوحش من الأرض: الخلاء، والصحيح أن معناه: يجدانها ذات وحوش. وأصل الوحش: كل شيء توحش من الحيوان، وقد يعبر بواحده عن جمعه. وعن ابن المرابط معناه: أن غنمهما تصير وحوشا، وإما تتقلب ذواتها أو تنفر وتتوحش من (أصواتها) وأنكره عياض.

                                                                                                                                                                                                                              سادسها: "يبسون" بفتح أوله، وبضم الباء الموحدة بعدها وبكسرها، ثلاثية ورباعية، فالحاصل ثلاثة أوجه. وعبارة ابن التين: وقيل في "يبسون" ثلاث لغات: فتح الباء، وكسر الباء، وضمها من [ ص: 547 ] بسست. وقيل: هو رباعي من أبسست، إلا أن الذي يقتضيه الإعراب إذا كان ثلاثيا أن يكون بفتح الياء وكسر الباء; لأنه ثلاثي مضاعف على ما ذكره ابن فارس، ومعناه: يتحملون بأهليهم، أو يدعون الناس إلى بلاد الخصب، أو يسوقون. والبس: سوق الإبل، أقوال.

                                                                                                                                                                                                                              وقال ابن وهب : يزينون لهم البلاد يحببونها إليهم، ونحوه حديث مسلم "هلم إلى الرخاء".

                                                                                                                                                                                                                              وقال الداودي: يزجرون الدواب إلى المدينة فيبسون ما يطئون من الأرض فيفتونه فيصير ترابا من قوله تعالى: وبست الجبال بسا [الواقعة: 5] ويفتنون نيات من في المدينة بما يصفون لهم من رغد العيش في غيرها. وقال مالك: البس: السير، قال صاحب: "المطالع" عن أبي مروان بس بس بفتح الباء وكسرها، يقال في زجر الإبل: بس بكسر السين، منونا وغير منون، وبإسكانها. وقال النووي: الصواب والذي عليه المحققون أن معناه: الإخبار عمن خرج من المدينة متحملا بأهله باسا في سيره، مسرعا إلى الرخاء في الأمصار التي أخبر بفتحها، وهو من أعلام نبوته. وقال الخطابي: البس: السير الرفيق. وفي "الواعي": وبس: زجر للحمار. وقال أبو عبيد: يقال في الزجر إذا سقت حمارا أو غيره: بس بس، وهو من كلام أهل اليمن، وفيه لغتان: بسست وأبسست، فيكون على هذا يبسون بفتح الياء وضمها، كما سلف.

                                                                                                                                                                                                                              [ ص: 548 ] وقال الخليل: بس: زجر للبغل والحمار بضم الباء وفتح السين، تقول: بس بس.

                                                                                                                                                                                                                              قال أبو عمرو الشيباني: يقال بس فلان كلابه: أي: أرسلها. وقال: ابن فارس: بسست الإبل إذا زجرتها عند السوق.

                                                                                                                                                                                                                              سابعها: قوله: ("والمدينة خير لهم") أي: في الآخرة لمن صبر عليها ابتغاء وجهه تعالى، قاله الداودي، وقال ابن بطال: يعني: لفضل الصلاة في مسجده، ولما في سكنى المدينة، والصبر على لأوائها وشدتها، فهو خير لهم مما يصيبون من الدنيا في غيرها.

                                                                                                                                                                                                                              والمراد بالحديث: الخارجون عن المدينة رغبة عنها وكرها، فهؤلاء المدينة خير لهم، وهم الذين جاء فيهم الحديث أنها تنفي خبثها، وأما من خرج منها لحاجة أو طلب معيشة أو ضرورة ونيته الرجوع إليها، فليس بداخل في معناه.

                                                                                                                                                                                                                              ثم فيه برهان جليل بصدق الشارع بإخباره بما يكون قبل وقته، فأنجز الله تعالى لرسوله ما وعد به أمته، فتحت اليمن، ثم الشام، ثم العراق، وكمل ذلك كله.

                                                                                                                                                                                                                              ثامنها: ثنية الوداع موضع قريب من المدينة مما يلي مكة.




                                                                                                                                                                                                                              الخدمات العلمية