الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
باب دفع المال إلى اليتيم

قال الله (تعالى): وابتلوا اليتامى حتى إذا بلغوا النكاح فإن آنستم منهم رشدا فادفعوا إليهم أموالهم ؛ قال الحسن؛ ومجاهد ؛ وقتادة ؛ والسدي : "يعني: اختبروهم في عقولهم؛ ودينهم"؛ قال أبو بكر : أمرنا باختبارهم قبل البلوغ; لأنه قال: وابتلوا اليتامى حتى إذا بلغوا النكاح ؛ فأمر بابتلائهم في حال كونهم يتامى؛ ثم قال: حتى إذا بلغوا النكاح ؛ فأخبر أن بلوغ النكاح بعد الابتلاء; لأن "حتى" غاية مذكورة بعد الابتلاء؛ فدلت الآية من وجهين على أن هذا الابتلاء قبل البلوغ؛ وفي ذلك دليل على جواز الإذن للصغير الذي يعقل في التجارة ; لأن ابتلاءه لا يكون إلا باستبراء حاله في العلم بالتصرف؛ وحفظ المال؛ ومتى أمر بذلك كان مأذونا في التجارة.

وقد اختلف الفقهاء في إذن الصبي في التجارة؛ فقال أبو حنيفة ؛ وأبو يوسف؛ ومحمد؛ وزفر؛ والحسن بن زياد ؛ والحسن بن صالح : "جائز للأب أن يأذن لابنه الصغير في التجارة؛ إذا كان يعقل الشراء والبيع؛ وكذلك وصي الأب؛ أو الجد إذا لم يكن وصي أب؛ ويكون بمنزلة العبد المأذون له؛ وقال ابن القاسم ؛ عن مالك : "لا أرى إذن الأب والوصي للصبي في التجارة جائزا؛ وإن لحقه في ذلك دين لم يلزم الصبي منه شيء"؛ وقال الربيع ؛ عن الشافعي - في كتابه "في الإقرار" -: "وما أقر به الصبي من حق الله (تعالى)؛ أو الآدمي؛ أو حق في مال؛ أو غيره؛ فإقراره ساقط عنه؛ سواء كان الصبي مأذونا له في التجارة؛ أذن له أبوه؛ أو وليه؛ من كان؛ أو حاكم؛ ولا يجوز للحاكم أن يأذن له؛ فإن فعل فإقراره ساقط عنه؛ وكذلك شراؤه وبيعه مفسوخ".

قال أبو بكر : ظاهر الآية يدل على جواز الإذن له في التجارة؛ لقوله (تعالى): وابتلوا اليتامى ؛ والابتلاء هو اختبارهم في عقولهم؛ ومذاهبهم؛ وحزمهم فيما يتصرفون فيه؛ فهو عام في سائر هذه الوجوه؛ وليس لأحد أن يقتصر بالاختبار على وجه دون وجه فيما يحتمله اللفظ؛ والاختبار في استبراء حاله في المعرفة بالبيع والشراء؛ وضبط أموره؛ وحفظ ماله؛ ولا يكون إلا بإذن له في التجارة؛ ومن قصر الابتلاء على اختبار عقله بالكلام؛ دون التصرف في التجارة؛ وحفظ المال؛ فقد خص عموم اللفظ بغير دلالة.

فإن قيل: [ ص: 357 ] الذي يدل على أنه لم يرد الإذن له في التصرف في حال الصغر؛ قوله (تعالى) - في نسق التلاوة -: فإن آنستم منهم رشدا فادفعوا إليهم أموالهم ؛ وإنما أمر بدفع المال إليهم بعد البلوغ؛ وإيناس الرشد؛ ولو جاز الإذن له في التجارة في صغره؛ لجاز دفع المال إليه في حال الصغر؛ والله (تعالى) إنما أمر بدفع المال إليه بعد البلوغ؛ وإيناس الرشد؛ قيل له: ليس الإذن له في التجارة من دفع المال إليه في شيء; لأن الإذن هو أن يأمره بالبيع والشراء؛ وذلك ممكن بغير مال في يده؛ كما يأذن للعبد في التجارة من غير مال يدفعه إليه؛ فنقول: إن الآية اقتضت الأمر بابتلائه؛ ومن الابتلاء الإذن له في التجارة؛ وإن لم يدفع إليه مالا؛ ثم إذا بلغ؛ وقد أونس منه رشده؛ دفع المال إليه؛ ولو كان الابتلاء لا يقتضي اختباره بالإذن له في التصرف في الشراء والبيع؛ وإنما هو اختبار عقله من غير استبراء حاله في ضبطه؛ وعلمه بالتصرف؛ لما كان للابتلاء وجه قبل البلوغ؛ فلما أمر بذلك قبل البلوغ علمنا أن المراد اختبار أمره بالتصرف؛ ولأن اختبار صحة عقله لا ينبئ عن ضبطه لأموره؛ وحفظه لماله؛ وعلمه بالبيع والشراء؛ ومعلوم أن الله (تعالى) أمر بالاحتياط له في استبراء أمره في حفظ المال؛ والعلم بالتصرف؛ فوجب أن يكون الابتلاء المأمور به قبل البلوغ مأمورا بذلك لا لاختبار صحة عقله فحسب؛ وأيضا فإن لم يجز الإذن له في التجارة قبل البلوغ; لأنه محجور عليه؛ فالابتلاء إذا ساقط من هذا الوجه؛ فلا يخلو بعد البلوغ؛ متى أردنا التوصل إلى إيناس رشده؛ من أن نختبره بالإذن له في التجارة؛ أو لا نختبره بذلك؛ فإن وجب اختباره فقد أجزت له التصرف؛ وهو عندك محجور عليه بعد البلوغ؛ إلى إيناس الرشد؛ فإن جاز الإذن له في التجارة وهو محجور عليه بعد البلوغ؛ فقد أخرجته من الحجر؛ وإن لم يخرج من الحجر؛ وهو ممنوع من ماله بعد البلوغ؛ وهو مأذون له؛ فهلا أذنت له قبل البلوغ في التجارة؛ لاستبراء حاله؛ كما يستبرأ بها بالإذن بعد البلوغ؛ مع بقاء الحجر إلى إيناس الرشد؛ وإن لم يستبرأ حاله بعد البلوغ بالإذن؟ فكيف يعلم إيناس الرشد منه؟ فقول المخالف لا يخلو من ترك الابتلاء؛ أو دفع المال قبل إيناس الرشد؛ ويدل على جواز الإذن للصغير في التجارة؛ ما روي أن النبي - صلى الله عليه وسلم - أمر عمر بن أبي سلمة ؛ وهو صغير؛ بتزويج أم سلمة إياه ؛ وروى عبد الله بن شداد أنه أمر سلمة بن أبي سلمة بذلك وهو صغير ؛ وفي ذلك دليل على جواز الإذن له في التصرف الذي يملكه عليه غيره؛ من بيع أو شراء؛ ألا ترى أنه يقتضي جواز توكيل [ ص: 358 ] الأب إياه بشراء عبد للصغير؛ أو بيع عبد له؟ هذا هو معنى الإذن له في التجارة؛ وأما تأويل من تأول قوله (تعالى): وابتلوا اليتامى ؛ على اختبارهم في عقولهم ودينهم؛ فإن اعتبار الدين في دفع المال غير واجب ؛ باتفاق الفقهاء; لأنه لو كان رجلا فاسقا؛ ضابطا لأموره؛ عالما بالتصرف في وجوه التجارات؛ لم يجز أن يمنع ماله لأجل فسقه؛ فعلمنا أن اعتبار الدين في ذلك غير واجب؛ وإن كان رجلا ذا دين وصلاح؛ إلا أنه غير ضابط لماله؛ يغبن في تصرفه؛ كان ممنوعا من ماله عند القائلين بالحجر؛ لقلة الضبط؛ وضعف العقل؛ فعلمنا أن اعتبار الدين في ذلك لا معنى له.

وأما قوله (تعالى): حتى إذا بلغوا النكاح ؛ فإن ابن عباس ؛ ومجاهدا؛ والسدي قالوا: "هو الحلم؛ وهو بلوغ حال النكاح من الاحتلام"؛ وأما قوله (تعالى): فإن آنستم منهم رشدا ؛ فإن ابن عباس قال: "فإن علمتم منهم ذلك"؛ وقيل: "إن أصل الإيناس هو الإحساس"؛ حكي عن الخليل؛ وقال الله (تعالى): إني آنست نارا ؛ يعني أحسستها؛ وأبصرتها؛ وقد اختلف في معنى الرشد ههنا؛ فقال ابن عباس ؛ والسدي : "الصلاح في العقل؛ وحفظ المال"؛ وقال الحسن؛ وقتادة : "الصلاح في العقل والدين"؛ وقال إبراهيم النخعي ؛ ومجاهد : "العقل"؛ وروى سماك عن عكرمة ؛ عن ابن عباس ؛ في قوله (تعالى): فإن آنستم منهم رشدا ؛ قال: "إذا أدرك بحلم؛ وعقل؛ ووقار".

قال أبو بكر : إذا كان اسم الرشد يقع على العقل لتأويل من تأوله عليه؛ ومعلوم أن الله (تعالى) شرط رشدا منكورا؛ ولم يشرط سائر ضروب الرشد؛ اقتضى ظاهر ذلك أن حصول هذه الصفة له؛ بوجود العقل؛ موجب لدفع المال إليه؛ ومانع من الحجر عليه؛ فهذا يحتج به من هذا الوجه في إبطال الحجر على الحر العاقل البالغ ؛ وهو مذهب إبراهيم؛ ومحمد بن سيرين ؛ وأبي حنيفة ؛ وقد بينا هذه المسألة في سورة البقرة.

وقوله (تعالى): فادفعوا إليهم أموالهم ؛ يقتضي وجوب دفع المال إليهم بعد البلوغ وإيناس الرشد ؛ على ما بينا؛ وهو نظير قوله (تعالى): وآتوا اليتامى أموالهم ؛ وهذه الشريطة معتبرة فيها أيضا؛ وتقديره: "وآتوا اليتامى أموالهم إذا بلغوا؛ وآنستم منهم رشدا"؛ وأما قوله (تعالى): ولا تأكلوها إسرافا وبدارا أن يكبروا ؛ فإن السرف مجاوزة حد المباح إلى المحظور؛ فتارة يكون السرف في التقصير؛ وتارة في الإفراط؛ لمجاوزة حد الجائز في الحالين؛ وقوله (تعالى): وبدارا ؛ قال ابن عباس ؛ وقتادة ؛ والحسن ؛ والسدي : "مبادرة"؛ والمبادرة الإسراع في الشيء؛ فتقديره النهي عن أكل أموالهم مبادرة أن يكبروا؛ فيطالبوا بأموالهم ؛ وفيها دلالة على أنه إذا صار في [ ص: 359 ] حد الكبر استحق المال إذا كان عاقلا؛ من غير شرط إيناس الرشد; لأنه إنما شرط إيناس الرشد بعد البلوغ؛ وأفاد بقوله (تعالى): ولا تأكلوها إسرافا وبدارا أن يكبروا ؛ أنه لا يجوز له إمساك ماله بعدما يصير في حد الكبر؛ ولولا ذلك لما كان لذكر الكبر ههنا معنى؛ إذ كان الوالي عليه هو المستحق لماله قبل الكبر؛ وبعده؛ فهذا يدل على أنه إذا صار في حد الكبر استحق دفع المال إليه؛ وجعل أبو حنيفة حد الكبر في ذلك خمسا وعشرين سنة; لأن مثله يكون جدا؛ ومحال أن يكون جدا ولا يكون في حد الكبر؛ والله أعلم.

التالي السابق


الخدمات العلمية