أما قوله : (
nindex.php?page=tafseer&surano=14&ayano=22إن الله وعدكم وعد الحق ووعدتكم فأخلفتكم ) ففيه مباحث :
البحث الأول : المراد أن
nindex.php?page=treesubj&link=30336_29468الله تعالى وعدكم وعد الحق وهو البعث والجزاء على الأعمال فوفى لكم بما وعدكم ، ووعدتكم خلاف ذلك فأخلفتكم . وتقرير الكلام أن النفس تدعو إلى هذه الأحوال الدنيوية ولا تتصور كيفية السعادات الأخروية والكمالات النفسانية ، والله يدعو إليها ويرغب فيها كما قال : (
nindex.php?page=tafseer&surano=87&ayano=17والآخرة خير وأبقى ) [ الأعلى : 17 ] .
البحث الثاني : قوله : (
nindex.php?page=tafseer&surano=14&ayano=22وعد الحق ) من باب إضافة الشيء إلى نفسه كقوله : (
nindex.php?page=tafseer&surano=50&ayano=9وحب الحصيد ) ، ومسجد الجامع على قول
الكوفيين ، والمعنى : وعدكم الوعد الحق ، وعلى مذهب
البصريين يكون التقدير : وعد اليوم الحق أو الأمر الحق أو يكون التقدير : وعدكم الحق . ثم ذكر المصدر تأكيدا .
البحث الثالث : في الآية إضمار من وجهين :
الأول : أن التقدير : إن الله وعدكم وعد الحق فصدقكم ووعدتكم فأخلفتكم وحذف ذلك لدلالة تلك الحالة على صدق ذلك الوعد ؛ لأنهم كانوا يشاهدونها وليس وراء العيان بيان ولأنه ذكر في وعد الشيطان الإخلاف فدل ذلك على الصدق في وعد الله تعالى .
الثاني : أن في قوله : (
nindex.php?page=tafseer&surano=14&ayano=22ووعدتكم فأخلفتكم ) الوعد يقتضي مفعولا ثانيا وحذف ههنا للعلم به ، والتقدير : ووعدتكم أن لا جنة ولا نار ولا حشر ولا حساب .
[ ص: 88 ] أما قوله : (
nindex.php?page=tafseer&surano=14&ayano=22وما كان لي عليكم من سلطان ) أي قدرة ومكنة وتسلط وقهر فأقهركم على الكفر والمعاصي وألجئكم إليها (
nindex.php?page=tafseer&surano=14&ayano=22إلا أن دعوتكم ) أي إلا دعائي إياكم إلى الضلالة بوسوستي وتزييني ، قال النحويون : ليس الدعاء من جنس السلطان فقوله : (
nindex.php?page=tafseer&surano=14&ayano=22إلا أن دعوتكم ) من جنس قولهم : ما تحيتهم إلا الضرب ، وقال
الواحدي : إنه استثناء منقطع أي لكن دعوتكم . وعندي أنه يمكن أن يقال : كلمة " إلا " ههنا استثناء حقيقي ؛ لأن قدرة الإنسان على حمل الغير على عمل من الأعمال تارة يكون بالقهر والقسر ، وتارة يكون بتقوية الداعية في قلبه بإلقاء الوساوس إليه ، فهذا نوع من أنواع التسلط ، ثم إن ظاهر هذه الآية يدل على أن
nindex.php?page=treesubj&link=30464_28798الشيطان لا قدرة له على تصريع الإنسان وعلى تعويج أعضائه وجوارحه ، وعلى إزالة العقل عنه كما يقوله العوام والحشوية ، ثم قال : (
nindex.php?page=tafseer&surano=14&ayano=22فلا تلوموني ولوموا أنفسكم ) يعني ما كان مني إلا الدعاء والوسوسة ، وكنتم سمعتم دلائل الله وشاهدتم مجيء أنبياء الله تعالى ، فكان من الواجب عليكم أن لا تغتروا بقولي ولا تلتفتوا إلي ، فلما رجحتم قولي على الدلائل الظاهرة ، كان اللوم عليكم لا علي في هذا الباب . وفي الآية مسألتان :
المسألة الأولى : قالت
المعتزلة : هذه الآية تدل على أشياء :
الأول : أنه لو كان الكفر والمعصية من الله لوجب أن يقال : فلا تلوموني ولا أنفسكم فإن الله قضى عليكم الكفر وأجبركم عليه .
الثاني : ظاهر هذه الآية يدل على أن الشيطان لا قدرة له على تصريع الإنسان وعلى تعويج أعضائه وعلى إزالة العقل عنه كما تقول
الحشوية والعوام .
الثالث : أن هذه الآية تدل على أن
nindex.php?page=treesubj&link=18894الإنسان لا يجوز ذمه ولومه وعقابه بسبب فعل الغير ، وعند هذا يظهر أنه لا يجوز عقاب أولاد الكفار بسبب كفر آبائهم .
أجاب بعض الأصحاب عن هذه الوجوه : بأن هذا قول الشيطان فلا يجوز التمسك به .
وأجاب الخصم عنه : بأنه لو كان هذا القول منه باطلا لبين الله بطلانه وأظهر إنكاره ، وأيضا فلا فائدة في ذلك اليوم في ذكر هذا الكلام الباطل والقول الفاسد ، ألا ترى أن قوله : (
nindex.php?page=tafseer&surano=14&ayano=22إن الله وعدكم وعد الحق ووعدتكم فأخلفتكم ) كلام حق ، وقوله : (
nindex.php?page=tafseer&surano=14&ayano=22وما كان لي عليكم من سلطان ) قول حق بدليل قوله تعالى : (
nindex.php?page=tafseer&surano=15&ayano=42إن عبادي ليس لك عليهم سلطان إلا من اتبعك من الغاوين ) [ الحجر : 42 ] .
أما قوله : (
nindex.php?page=tafseer&surano=14&ayano=22إِنَّ اللَّهَ وَعَدَكُمْ وَعْدَ الْحَقِّ وَوَعَدْتُكُمْ فَأَخْلَفْتُكُمْ ) فَفِيهِ مَبَاحِثُ :
البحث الْأَوَّلُ : الْمُرَادُ أَنَّ
nindex.php?page=treesubj&link=30336_29468اللَّهَ تَعَالَى وَعَدَكُمْ وَعْدَ الْحَقِّ وَهُوَ الْبَعْثُ وَالْجَزَاءُ عَلَى الْأَعْمَالِ فَوَفَى لَكُمْ بِمَا وَعَدَكُمْ ، وَوَعَدْتُكُمْ خِلَافَ ذَلِكَ فَأَخْلَفْتُكُمْ . وَتَقْرِيرُ الْكَلَامِ أَنَّ النَّفْسَ تَدْعُو إِلَى هَذِهِ الْأَحْوَالِ الدُّنْيَوِيَّةِ وَلَا تَتَصَوَّرُ كَيْفِيَّةَ السَّعَادَاتِ الْأُخْرَوِيَّةِ وَالْكَمَالَاتِ النَّفْسَانِيَّةِ ، وَاللَّهُ يَدْعُو إِلَيْهَا وَيُرَغِّبُ فِيهَا كَمَا قَالَ : (
nindex.php?page=tafseer&surano=87&ayano=17وَالْآخِرَةُ خَيْرٌ وَأَبْقَى ) [ الْأَعْلَى : 17 ] .
البحث الثَّانِي : قَوْلُهُ : (
nindex.php?page=tafseer&surano=14&ayano=22وَعْدَ الْحَقِّ ) مِنْ بَابِ إِضَافَةِ الشَّيْءِ إِلَى نَفْسِهِ كَقَوْلِهِ : (
nindex.php?page=tafseer&surano=50&ayano=9وَحَبَّ الْحَصِيدِ ) ، وَمَسْجِدِ الْجَامِعِ عَلَى قَوْلِ
الْكُوفِيِّينَ ، وَالْمَعْنَى : وَعَدَكُمُ الْوَعْدَ الْحَقَّ ، وَعَلَى مَذْهَبِ
الْبَصْرِيِّينَ يَكُونُ التَّقْدِيرُ : وَعْدَ الْيَوْمِ الْحَقِّ أَوِ الْأَمْرِ الْحَقِّ أَوْ يَكُونُ التَّقْدِيرُ : وَعَدَكُمُ الْحَقَّ . ثُمَّ ذَكَرَ الْمَصْدَرَ تَأْكِيدًا .
البحث الثَّالِثُ : فِي الْآيَةِ إِضْمَارٌ مِنْ وَجْهَيْنِ :
الْأَوَّلُ : أَنَّ التَّقْدِيرَ : إِنَّ اللَّهَ وَعَدَكُمْ وَعْدَ الْحَقِّ فَصَدَقَكُمْ وَوَعَدْتُكُمْ فَأَخْلَفْتُكُمْ وَحَذَفَ ذَلِكَ لِدَلَالَةِ تِلْكَ الْحَالَةِ عَلَى صِدْقِ ذَلِكَ الْوَعْدِ ؛ لِأَنَّهُمْ كَانُوا يُشَاهِدُونَهَا وَلَيْسَ وَرَاءَ الْعِيَانِ بَيَانٌ وَلِأَنَّهُ ذَكَرَ فِي وَعْدِ الشَّيْطَانِ الْإِخْلَافَ فَدَلَّ ذَلِكَ عَلَى الصِّدْقِ فِي وَعْدِ اللَّهِ تَعَالَى .
الثَّانِي : أَنَّ فِي قَوْلِهِ : (
nindex.php?page=tafseer&surano=14&ayano=22وَوَعَدْتُكُمْ فَأَخْلَفْتُكُمْ ) الْوَعْدُ يَقْتَضِي مَفْعُولًا ثَانِيًا وَحُذِفَ هَهُنَا لِلْعِلْمِ بِهِ ، وَالتَّقْدِيرُ : وَوَعَدْتُكُمْ أَنْ لَا جَنَّةَ وَلَا نَارَ وَلَا حَشْرَ وَلَا حِسَابَ .
[ ص: 88 ] أما قوله : (
nindex.php?page=tafseer&surano=14&ayano=22وَمَا كَانَ لِي عَلَيْكُمْ مِنْ سُلْطَانٍ ) أَيْ قُدْرَةٍ وَمَكِنَةٍ وَتَسَلُّطٍ وَقَهْرٍ فَأَقْهَرَكُمْ عَلَى الْكُفْرِ وَالْمَعَاصِي وَأُلْجِئَكُمْ إِلَيْهَا (
nindex.php?page=tafseer&surano=14&ayano=22إِلَّا أَنْ دَعَوْتُكُمْ ) أَيْ إِلَّا دُعَائِي إِيَّاكُمْ إِلَى الضَّلَالَةِ بِوَسْوَسَتِي وَتَزْيِينِي ، قَالَ النَّحْوِيُّونَ : لَيْسَ الدُّعَاءُ مِنْ جِنْسِ السُّلْطَانِ فَقَوْلُهُ : (
nindex.php?page=tafseer&surano=14&ayano=22إِلَّا أَنْ دَعَوْتُكُمْ ) مِنْ جِنْسِ قَوْلِهِمْ : مَا تَحِيَّتُهُمْ إِلَّا الضَّرْبُ ، وَقَالَ
الْوَاحِدِيُّ : إِنَّهُ اسْتِثْنَاءٌ مُنْقَطِعٌ أَيْ لَكِنْ دَعَوْتُكُمْ . وَعِنْدِي أَنَّهُ يُمْكِنُ أَنْ يُقَالَ : كَلِمَةُ " إِلَّا " هَهُنَا اسْتِثْنَاءٌ حَقِيقِيٌّ ؛ لِأَنَّ قُدْرَةَ الْإِنْسَانِ عَلَى حَمْلِ الْغَيْرِ عَلَى عَمَلٍ مِنَ الْأَعْمَالِ تَارَةً يَكُونُ بِالْقَهْرِ وَالْقَسْرِ ، وَتَارَةً يَكُونُ بِتَقْوِيَةِ الدَّاعِيَةِ فِي قَلْبِهِ بِإِلْقَاءِ الْوَسَاوِسِ إِلَيْهِ ، فَهَذَا نَوْعٌ مِنْ أَنْوَاعِ التَّسَلُّطِ ، ثُمَّ إِنَّ ظَاهِرَ هَذِهِ الْآيَةِ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ
nindex.php?page=treesubj&link=30464_28798الشَّيْطَانَ لَا قُدْرَةَ لَهُ عَلَى تَصْرِيعِ الْإِنْسَانِ وَعَلَى تَعْوِيجِ أَعْضَائِهِ وَجَوَارِحِهِ ، وَعَلَى إِزَالَةِ الْعَقْلِ عَنْهُ كَمَا يَقُولُهُ الْعَوَامُّ وَالْحَشْوِيَّةُ ، ثم قال : (
nindex.php?page=tafseer&surano=14&ayano=22فَلَا تَلُومُونِي وَلُومُوا أَنْفُسَكُمْ ) يَعْنِي مَا كَانَ مِنِّي إِلَّا الدُّعَاءُ وَالْوَسْوَسَةُ ، وَكُنْتُمْ سَمِعْتُمْ دَلَائِلَ اللَّهِ وَشَاهَدْتُمْ مَجِيءَ أَنْبِيَاءِ اللَّهِ تَعَالَى ، فَكَانَ مِنَ الْوَاجِبِ عَلَيْكُمْ أَنْ لَا تَغْتَرُّوا بِقَوْلِي وَلَا تَلْتَفِتُوا إِلَيَّ ، فَلَمَّا رَجَّحْتُمْ قَوْلِي عَلَى الدَّلَائِلِ الظَّاهِرَةِ ، كَانَ اللَّوْمُ عَلَيْكُمْ لَا عَلَيَّ فِي هَذَا الْبَابِ . وَفِي الْآيَةِ مَسْأَلَتَانِ :
المسألة الْأُولَى : قَالَتِ
الْمُعْتَزِلَةُ : هَذِهِ الْآيَةُ تَدُلُّ عَلَى أَشْيَاءَ :
الْأَوَّلُ : أَنَّهُ لَوْ كَانَ الْكُفْرُ وَالْمَعْصِيَةُ مِنَ اللَّهِ لَوَجَبَ أَنْ يُقَالَ : فَلَا تَلُومُونِي وَلَا أَنْفُسَكُمْ فَإِنَّ اللَّهَ قَضَى عَلَيْكُمُ الْكُفْرَ وَأَجْبَرَكُمْ عَلَيْهِ .
الثَّانِي : ظَاهِرُ هَذِهِ الْآيَةِ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الشَّيْطَانَ لَا قُدْرَةَ لَهُ عَلَى تَصْرِيعِ الْإِنْسَانِ وَعَلَى تَعْوِيجِ أَعْضَائِهِ وَعَلَى إِزَالَةِ الْعَقْلِ عَنْهُ كَمَا تَقُولُ
الْحَشْوِيَّةُ وَالْعَوَامُّ .
الثَّالِثُ : أَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ تَدُلُّ عَلَى أَنَّ
nindex.php?page=treesubj&link=18894الْإِنْسَانَ لَا يَجُوزُ ذَمُّهُ وَلَوْمُهُ وَعِقَابُهُ بِسَبَبِ فِعْلِ الْغَيْرِ ، وَعِنْدَ هَذَا يَظْهَرُ أَنَّهُ لَا يَجُوزُ عِقَابُ أَوْلَادِ الْكُفَّارِ بِسَبَبِ كُفْرِ آبَائِهِمْ .
أَجَابَ بَعْضُ الْأَصْحَابِ عَنْ هَذِهِ الْوُجُوهِ : بِأَنَّ هَذَا قَوْلُ الشَّيْطَانِ فَلَا يَجُوزُ التَّمَسُّكُ بِهِ .
وَأَجَابَ الْخَصْمُ عَنْهُ : بِأَنَّهُ لَوْ كَانَ هَذَا الْقَوْلُ مِنْهُ بَاطِلًا لَبَيَّنَ اللَّهُ بُطْلَانَهُ وَأَظْهَرَ إِنْكَارَهُ ، وَأَيْضًا فَلَا فَائِدَةَ فِي ذَلِكَ الْيَوْمِ فِي ذِكْرِ هَذَا الْكَلَامِ الْبَاطِلِ وَالْقَوْلِ الْفَاسِدِ ، أَلَا تَرَى أَنَّ قَوْلَهُ : (
nindex.php?page=tafseer&surano=14&ayano=22إِنَّ اللَّهَ وَعَدَكُمْ وَعْدَ الْحَقِّ وَوَعَدْتُكُمْ فَأَخْلَفْتُكُمْ ) كَلَامٌ حَقٌّ ، وَقَوْلَهُ : (
nindex.php?page=tafseer&surano=14&ayano=22وَمَا كَانَ لِي عَلَيْكُمْ مِنْ سُلْطَانٍ ) قَوْلٌ حَقٌّ بِدَلِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى : (
nindex.php?page=tafseer&surano=15&ayano=42إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ إِلَّا مَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْغَاوِينَ ) [ الْحِجْرِ : 42 ] .