الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
ثم إن أنواع الافتراق والاختلاف في الأصل قسمان : اختلاف تنوع ، واختلاف تضاد :

واختلاف التنوع على وجوه :

منه ما يكون كل واحد من القولين أو الفعلين حقا مشروعا ، كما في القراءات التي اختلف فيها الصحابة رضي الله عنهم ، حتى زجرهم النبي صلى الله عليه وسلم ، وقال : كلاكما محسن .

ومثله اختلاف الأنواع في صفة الأذان ، والإقامة ، والاستفتاح ، ومحل سجود السهو ، والتشهد ، وصلاة الخوف ، وتكبيرات العيد ، ونحو ذلك ، مما قد شرع جميعه ، وإن كان بعض أنواعه أرجح أو أفضل .

ثم تجد لكثير من الأمة في ذلك من الاختلاف ما أوجب اقتتال طوائف منهم على شفع الإقامة وإيتارها ونحو ذلك ! وهذا عين المحرم . وكذا تجد كثيرا منهم في قلبه من الهوى لأحد هذه الأنواع ، والإعراض عن الآخر والنهي عنه - : ما دخل به فيما نهى عنه النبي صلى الله عليه وسلم .

[ ص: 779 ] ومنه ما يكون كل من القولين هو في المعنى القول الآخر ، لكن العبارتان مختلفتان ، كما قد يختلف كثير من الناس في ألفاظ الحدود ، وصيغ الأدلة ، والتعبير عن المسميات ، ونحو ذلك . ثم الجهل أو الظلم يحمل على حمد إحدى المقالتين وذم الأخرى والاعتداء على قائلها ! ونحو ذلك .

وأما اختلاف التضاد ، فهو القولان المتنافيان ، إما في الأصول ، وإما في الفروع ، عند الجمهور الذين يقولون : المصيب واحد . والخطب في هذا أشد ، لأن القولين يتنافيان ، لكن نجد كثيرا من هؤلاء قد يكون القول الباطل الذي مع منازعه فيه حق ما ، أو معه دليل يقتضي حقا ما ، فيرد الحق مع الباطل ، حتى يبقى هذا مبطلا في البعض ، كما كان الأول مبطلا في الأصل ، وهذا يجري كثيرا لأهل السنة .

وأما أهل البدعة ، فالأمر فيهم ظاهر . ومن جعل الله له هداية ونورا رأى من هذا ما يبين له منفعة ما جاء في الكتاب والسنة من النهي عن هذا وأشباهه ، وإن كانت القلوب الصحيحة تنكر هذا ، لكن نور على نور .

والاختلاف الأول ، الذي هو اختلاف التنوع ، الذم فيه واقع على من بغى على الآخر فيه . وقد دل القرآن على حمد كل واحدة من الطائفتين في مثل ذلك ، إذا لم يحصل بغي ، كما في قوله تعالى : [ ص: 780 ] ما قطعتم من لينة أو تركتموها قائمة على أصولها فبإذن الله [ الحشر : 5 ] . وقد كانوا اختلفوا في قطع الأشجار ، فقطع قوم ، وترك آخرون .

وكما في قوله تعالى : وداود وسليمان إذ يحكمان في الحرث إذ نفشت فيه غنم القوم وكنا لحكمهم شاهدين ففهمناها سليمان وكلا آتينا حكما وعلما [ الأنبياء : 78 - 79 ] فخص سليمان بالفهم وأثنى عليهما بالحكم والعلم .

وكما في إقرار النبي صلى الله عليه وسلم يوم بني قريظة لمن صلى العصر في وقتها ، ولمن أخرها إلى أن وصل إلى بني قريظة .

[ ص: 781 ] وكما في قوله : إذا اجتهد الحاكم فأصاب فله أجران ، وإذا اجتهد فأخطأ فله أجر ونظائر ذلك .

والاختلاف الثاني ، هو ما حمد فيه إحدى الطائفتين ، وذمت الأخرى ، كما في قوله تعالى : ولو شاء الله ما اقتتل الذين من بعدهم من بعد ما جاءتهم البينات ولكن اختلفوا فمنهم من آمن ومنهم من كفر [ البقرة : 253 ] .

وقوله تعالى : هذان خصمان اختصموا في ربهم فالذين كفروا قطعت لهم ثياب من نار [ الحج : 19 ] الآيات . [ ص: 782 ] وأكثر الاختلاف الذي يئول إلى الأهواء بين الأمة - من القسم الأول ، وكذلك إلى سفك الدماء واستباحة الأموال والعداوة والبغضاء . لأن إحدى الطائفتين لا تعترف للأخرى بما معها من الحق ، ولا تنصفها ، بل تزيد على ما مع نفسها من الحق زيادات من الباطل ، والأخرى كذلك . ولذلك جعل الله مصدره البغي في قوله : وما اختلف فيه إلا الذين أوتوه من بعد ما جاءتهم البينات بغيا بينهم [ البقرة : 213 ] . لأن البغي مجاوزة الحد ، وذكر هذا في غير موضع من القرآن ليكون عبرة لهذه الأمة .

[ ص: 783 ] وقريب من هذا الباب ما خرجاه في الصحيحين ، عن أبي الزناد ، عن الأعرج ، عن أبي هريرة رضي الله عنه ، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم ، قال : ذروني ما تركتكم ، فإنما هلك من كان قبلكم بكثرة سؤالهم واختلافهم على أنبيائهم ، فإذا نهيتكم عن شيء فاجتنبوه ، وإذا أمرتكم بأمر فأتوا منه ما استطعتم .

فأمرهم بالإمساك عما لم يؤمروا به ، معللا بأن سبب هلاك الأولين إنما كان كثرة السؤال ثم الاختلاف على الرسل بالمعصية .

التالي السابق


الخدمات العلمية