الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
قوله تعالى: ومن يولهم يومئذ دبره إلا متحرفا لقتال أو متحيزا إلى فئة ، الآية: 16.

[ ص: 153 ] روى أبو نضرة عن أبي سعيد أن ذلك إنما كان يوم بدر، وقال أبو نضرة: لأنهم لو انحازوا يومئذ لانحازوا إلى المشركين، ولم يكن يومئذ مسلم غيرهم.

وهذا الذي قاله أبو نضرة فيه نظر، لأنه كان بالمدينة خلق كثير من الأنصار لم يأمرهم النبي عليه الصلاة والسلام بالخروج، ولم يكونوا يرون أنه يكون قتال، وإنما ظنوا أنها العير، فخرجوا لرسول الله صلى الله عليه وسلم فيمن خف معه. فقول أبي نضرة: إنه لم يكن هناك مسلم، وإنهم لو انحازوا انحازوا إلى المشركين، غلط لما بيناه.

وقد قيل: إنه لم يجز لهم الانحياز يومئذ لأنهم كانوا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلم يكن الانحياز جائزا لهم، قال الله تعالى: ما كان لأهل المدينة ومن حولهم من الأعراب أن يتخلفوا عن رسول الله ولا يرغبوا بأنفسهم عن نفسه . فلم يكن لهم أن يسلموا نبيهم وإن تكفل الله بنصرته وعصمته من الناس، كما قال تعالى: والله يعصمك من الناس . فكان ذلك فرضا عليهم، قل أعداؤه أو كثروا، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم فئة المسلمين يومئذ، ومن كان ينحاز عن القتال، فإنما كان ينحاز إلى فئة، وما كان للمسلمين فئة غير رسول الله صلى الله عليه وسلم. [ ص: 154 ] قال ابن عمر : كنت في جيش، فخاض الناس خيضة، ورجعنا إلى المدينة فقلنا: نحن الفرارون، فقال النبي عليه الصلاة والسلام: "إنا فئتكم" . فلم يكن للمسلمين إذ ذاك أن ينحازوا، قل عدد العدو أو كثر، وقال تعالى في آية أخرى: يا أيها النبي حرض المؤمنين على القتال ، ثم نسخ بقوله: الآن خفف الله عنكم ، وليس عند أصحاب الشافعي في ذلك تفصيل، فيجوز فرار الواحد من ثلاثة. وقال محمد: إذا بلغ الجيش اثني عشر ألفا، فليس لهم أن يفروا من عدوهم وإن كثر عددهم، ولم يذكر عن أصحاب أبي حنيفة خلافا فيه، واحتج بحديث الزهري عن عبد الله بن عبد الله عن ابن عباس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: خير الأصحاب أربعة، وخير السرايا أربعمائة، وخير الجيوش أربعة آلاف، ولن يؤتى اثنا عشر ألفا من قلة، وفي بعضها ما يغلب قوم يبلغون اثني عشر ألفا إذا اجتمعت كلمتهم. وهذا ليس بيان حكم شرعي وإنما هو بيان حكم العرف.

وذكر الطحاوي أن مالكا سئل فقيل له: أيسعنا التخلف عن قتال من خرج عن أحكام الله تعالى وحكم بغيرها؟ فقال مالك: إن كان معك اثنا عشر ألفا مثلك فلا يسعك التخلف، وإلا فأنت في سعة من التخلف.

التالي السابق


الخدمات العلمية