الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                          صفحة جزء
                          ولما بين - سبحانه - أن دينه واحد وأن رسله متفقون فيه قال في منكري نبوة محمد أفغير دين الله يبغون قرأ حفص عن عاصم يبغون بالياء على الغيبة وقرأ الباقون بالتاء على الخطاب . وهمزة الاستفهام الإنكاري داخلة على فعل محذوف والفاء الداخلة على " غير " عاطفة للجملة بعده على ذلك المحذوف الذي دل عليه العطف وعينه الكلام السابق . والمعنى : أيتولون عن الإيمان بعد هذا البيان فيبغون غير دين الله الذي هو الإسلام وله أسلم من في السماوات والأرض طوعا وكرها أي والحال أن جميع من في السماوات والأرض من العقلاء قد خضعوا له - تعالى - وانقادوا لأمره طائعين وكارهين . وقد اختلفوا في بيان إسلام الطوع والكره ، فذهب بعضهم إلى أن الإسلام هنا متعلق بالتكوين والإيجاد والإعدام لا بالتكليف ، أي إنه - تعالى - هو المتصرف فيهم وهم الخاضعون المنقادون لتصرفه وقال الرازي : إن هذا هو الأصح عنده ولم يذكر فيه معنى الطوع والكره وكأنه يعني أن ما يحل بالعقلاء من تصاريف الأقدار ، منه ما يصحبه اختيارهم عن رضا واغتباط فيكونون خاضعين له طوعا ، ومنه ما ليس كذلك فيحل بهم وهم له كارهون : وإن من شيء إلا يسبح بحمده [ 17 : 44 ] .

                          ويقابل هذا : أن الإسلام متعلق بالتكليف والدين فقط . وصاحب هذا القول يفسر إسلام الكره بما يكون عند الشدائد الملجئة إليه . كما قال - تعالى - : وإذا غشيهم موج كالظلل دعوا الله مخلصين له الدين فلما نجاهم إلى البر فمنهم مقتصد وما يجحد بآياتنا إلا كل ختار كفور [ 31 : 32 ] [ ص: 292 ] وقال : فإذا ركبوا في الفلك دعوا الله مخلصين له الدين فلما نجاهم إلى البر إذا هم يشركون [ 29 : 65 ] ومنهم من قال إن إسلام الكره ما يكون عند رؤية الآيات كما وقع لقوم موسى ، وقيل ما يكون عند الخوف من السيف ، وقيل ما يكون عند الموت إذ يشرف الكافر على الآخرة ، ولكنه إسلام لا ينفعه .

                          وهناك مذهب ثالث : وهو أن هذا الإسلام أعم من إسلام التكليف وإسلام التكوين فهو يشمل ما يكون بالفطرة وما يكون بالاختيار . وفي هذا المذهب وجوه قال الحسن : الطوع لأهل السماوات خاصة ، وأما أهل الأرض فبعضهم بالطوع وبعضهم بالكره . وقيل : إن كل الخلق منقادون لإلهيته طوعا بدليل قوله : ولئن سألتهم من خلق السماوات والأرض ليقولن الله [ 31 : 25 ] ومنقادون لتكاليفه وإيجاده للآلام كرها . وقيل : المسلمون الصالحون ينقادون لله طوعا فيما يتعلق بالدين وينقادون له كرها فيما يخالف طباعهم من المرض والفقر والموت وأشباه ذلك ، وأما الكافرون فهم ينقادون لله كرها على كل حال في التكليف والتكوين . وهذه وجوه ضعيفة كما ترى .

                          وقال الأستاذ الإمام : إن الذين أسلموا طوعا لهم اختيار في الإسلام وأما الذين أسلموا كرها فهم الذين فطروا على معرفة الله - تعالى - كالأنبياء والملائكة وإن كان لفظ الكره يطلق في الغالب على ما يخالف الاختيار ويقهره ; فإن الله - تعالى - قد استعمله في غير ذلك ، كقوله بعد ذكر خلق السماء في الكلام على التكوين : فقال لها وللأرض ائتيا طوعا أو كرها [ 41 : 11 ] فأطلق الكره وأراد به لازمه وهو عدم الاختيار . أقول : وهذا سهو فيما يظهر لي وكنت - في أيام حياته - أراجعه في مثله قبل الكتابة أو الطبع ، وبيانه أن تتمة الآية قالتا أتينا طائعين فالظاهر أن ما يكون منهم من الانقياد لله - تعالى - بمقتضى الفطرة من قسم إسلام الطوع . وأما ما يقع منهم من التكليف بالاختيار فمنه ما يفعل طوعا وما يفعل كرها . وكذا ما يقع بهم منه ما يكونون كارهين له ، ومنه ما يكونون راضين به . فإذا كان مرادا في الآية فالطوع فيه بمعنى الرضا . وصفوة الكلام أن الدين الحق هو إسلام الوجه لله - تعالى - والإخلاص في الخضوع له ، وأن الأنبياء كلهم كانوا على ذلك وقد أخذ ميثاقهم بذلك على أممهم ولكنهم نقضوه ، فجاءهم النبي الموعود به يدعوهم إليه فكذبوه ، فهم بذلك قد ابتغوا غير دينه الذي زعموه وإليه يرجعون فيجزيهم بما كانوا يعملون ، قرأ حفص يرجعون بالياء كما قرأ يبغون وكذلك أبو عمرو على أنه قرأ " تبغون " بالتاء كالجمهور فهو قد جعل الخطاب أولا لليهود وجعل الكلام في المرجع عاما وقرأ الباقون " ترجعون " وفاقا لقراءتهم " تبغون " .

                          التالي السابق


                          الخدمات العلمية