الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                                                                            ( فوربك لنسألنهم أجمعين عما كانوا يعملون فاصدع بما تؤمر وأعرض عن المشركين إنا كفيناك المستهزئين الذين يجعلون مع الله إلها آخر فسوف يعلمون ) .

                                                                                                                                                                                                                                            قوله تعالى : ( فوربك لنسألنهم أجمعين عما كانوا يعملون فاصدع بما تؤمر وأعرض عن المشركين إنا كفيناك المستهزئين الذين يجعلون مع الله إلها آخر فسوف يعلمون ) .

                                                                                                                                                                                                                                            في الآية مسائل :

                                                                                                                                                                                                                                            المسألة الأولى : قوله : ( فوربك لنسألنهم أجمعين ) يحتمل أن يكون راجعا إلى المقتسمين الذين جعلوا القرآن عضين ; لأن عود الضمير إلى الأقرب أولى ، ويكون التقدير أنه تعالى أقسم بنفسه أن يسأل هؤلاء المقتسمين عما كانوا يقولونه من اقتسام القرآن ، وعن سائر المعاصي ، ويحتمل أن يكون راجعا إلى جميع المكلفين ; لأن ذكرهم قد تقدم في قوله : ( وقل إني أنا النذير المبين ) أي لجميع الخلق ، وقد تقدم ذكر المؤمنين وذكر الكافرين ، فيعود قوله : ( فوربك لنسألنهم أجمعين ) على الكل ، ولا معنى لقول من يقول : إن [ ص: 170 ] السؤال إنما يكون عن الكفر أو عن الإيمان ، بل السؤال واقع عنهما وعن جميع الأعمال ; لأن اللفظ عام فيتناول الكل .

                                                                                                                                                                                                                                            فإن قيل : كيف الجمع بين قوله : ( فوربك لنسألنهم ) وبين قوله : ( فيومئذ لا يسأل عن ذنبه إنس ولا جان ) [الرحمن : 39] أجابوا عنه من وجوه :

                                                                                                                                                                                                                                            الوجه الأول : قال ابن عباس رضي الله عنهما : لا يسألون سؤال الاستفهام ; لأنه تعالى عالم بكل أعمالهم ، وإنما يسألون سؤال التقريع يقال لهم : لم فعلتم كذا ؟

                                                                                                                                                                                                                                            ولقائل أن يقول : هذا الجواب ضعيف ; لأنه لو كان المراد من قوله : ( فيومئذ لا يسأل عن ذنبه إنس ولا جان ) سؤال الاستفهام لما كان في تخصيص هذا النفي بقوله يومئذ فائدة ; لأن مثل هذا السؤال على الله تعالى محال في كل الأوقات .

                                                                                                                                                                                                                                            والوجه الثاني : في الجواب أن يصرف النفي إلى بعض الأوقات ، والإثبات إلى وقت آخر ; لأن يوم القيامة يوم طويل .

                                                                                                                                                                                                                                            ولقائل أن يقول : قوله : ( فيومئذ لا يسأل عن ذنبه إنس ولا جان ) هذا تصريح بأنه لا يحصل السؤال في ذلك اليوم ، فلو حصل السؤال في جزء من أجزاء ذلك اليوم لحصل التناقض .

                                                                                                                                                                                                                                            والوجه الثالث : أن نقول : قوله : ( فيومئذ لا يسأل عن ذنبه إنس ولا جان ) [الرحمن : 39] يفيد عموم النفي وقوله : ( فوربك لنسألنهم أجمعين ) عائد إلى المقتسمين وهذا خاص ولا شك أن الخاص مقدم على العام . أما قوله : ( فاصدع بما تؤمر ) فاعلم أن معنى الصدع في اللغة الشق والفصل ، وأنشد ابن السكيت لجرير :


                                                                                                                                                                                                                                            هذا الخليفة فارضوا ما قضى لكم بالحق يصدع ما في قوله حيف



                                                                                                                                                                                                                                            فقال يصدع يفصل ، وتصدع القوم إذا تفرقوا ، ومنه قوله تعالى : ( يومئذ يصدعون ) قال الفراء : يتفرقون . والصدع في الزجاجة الإبانة ، أقول : ولعل ألم الرأس إنما سمي صداعا ; لأن قحف الرأس عند ذلك الألم كأنه ينشق . قال الأزهري : وسمي الصبح صديعا كما يسمى فلقا . وقد انصدع وانفلق الفجر وانفطر الصبح .

                                                                                                                                                                                                                                            إذا عرفت هذا فقول : ( فاصدع بما تؤمر ) أي : فرق بين الحق والباطل ، وقال الزجاج : فاصدع أظهر ما تؤمر به يقال : صدع بالحجة إذا تكلم بها جهارا كقولك صرح بها ، وهذا في الحقيقة يرجع أيضا إلى الشق والتفريق ، أما قوله : ( بما تؤمر ) ففيه قولان :

                                                                                                                                                                                                                                            الأول : أن يكون "ما" بمعنى الذي أي : بما تؤمر به من الشرائع ، فحذف الجار كقوله :


                                                                                                                                                                                                                                            أمرتك الخير فافعل ما أمرت به



                                                                                                                                                                                                                                            الثاني : أن تكون "ما" مصدرية أي : فاصدع بأمرك وشأنك . قالوا : وما زال النبي صلى الله عليه وسلم مستخفيا حتى نزلت هذه الآية .

                                                                                                                                                                                                                                            ثم قال تعالى : ( وأعرض عن المشركين ) أي : لا تبال بهم ، ولا تلتفت إلى لومهم إياك على إظهار [ ص: 171 ] الدعوة . قال بعضهم : هذا منسوخ بآية القتال وهو ضعيف ; لأن معنى هذا الإعراض ترك المبالاة بهم فلا يكون منسوخا .

                                                                                                                                                                                                                                            ثم قال : ( إنا كفيناك المستهزئين ) قيل : كانوا خمسة نفر من المشركين : الوليد بن المغيرة والعاص بن وائل وعدي بن قيس والأسود بن المطلب والأسود بن عبد يغوث ، قال جبريل لرسول الله صلى الله عليه وسلم : أمرت أن أكفيكهم ، فأومأ إلى عقب الوليد فمر بنبال ، فتعلق بثوبه سهم فلم ينعطف تعظما لأخذه ، فأصاب عرقا في عقبه فقطعه فمات ، وأومأ إلى أخمص العاص بن وائل فدخلت فيها شوكة فقال : لدغت لدغت ، وانتفخت رجله حتى صارت كالرحا ومات ، وأشار إلى عيني الأسود بن المطلب فعمي ، وأشار إلى أنف عدي بن قيس ، فامتخط قيحا فمات ، وأشار إلى الأسود بن عبد يغوث وهو قاعد في أصل شجرة فجعل ينطح رأسه بالشجرة ويضرب وجهه بالشوك حتى مات .

                                                                                                                                                                                                                                            واعلم أن المفسرين قد اختلفوا في عدد هؤلاء المستهزئين وفي أسمائهم وفي كيفية طريق استهزائهم ، ولا حاجة إلى شيء منها ، والقدر المعلوم أنهم طبقة لهم قوة وشوكة ورياسة ; لأن أمثالهم هم الذين يقدرون على إظهار مثل هذه السفاهة مع مثل رسول الله صلى الله عليه وسلم في علو قدره وعظم منصبه ، ودل القرآن على أن الله تعالى أفناهم وأبادهم وأزال كيدهم ، والله أعلم .

                                                                                                                                                                                                                                            التالي السابق


                                                                                                                                                                                                                                            الخدمات العلمية