[ ص: 9 ] nindex.php?page=treesubj&link=29012_31825_32409nindex.php?page=tafseer&surano=41&ayano=49لا يسأم الإنسان من دعاء الخير وإن مسه الشر فيئوس قنوط nindex.php?page=tafseer&surano=41&ayano=50ولئن أذقناه رحمة منا من بعد ضراء مسته ليقولن هذا لي وما أظن الساعة قائمة ولئن رجعت إلى ربي إن لي عنده للحسنى .
اعتراض بين أجزاء الوعيد . والمعنى : وعلموا ما لهم من محيص . وقد كانوا إذا أصابتهم نعماء كذبوا بقيام الساعة . فجملة
nindex.php?page=tafseer&surano=41&ayano=49لا يسأم الإنسان من دعاء الخير إلى قوله : (
nindex.php?page=tafseer&surano=41&ayano=49قنوط ) تمهيد لجملة
nindex.php?page=tafseer&surano=41&ayano=50ولئن أذقناه رحمة منا إلخ . . .
وموقع هذه الآيات عقب قوله :
nindex.php?page=tafseer&surano=41&ayano=47ويوم يناديهم أين شركائي قالوا آذناك إلخ يقتضي مناسبة في النظم داعية إلى هذا الاعتراض فتلك قاضية بأن الإنسان المخبر عنه بأنه لا يسأم من دعاء الخير وما عطف عليه هو من صنف الناس الذين جرى ذكر قصصهم قبل هذه الآية وهم المشركون ، فإما أن يكون المراد فريقا من نوع الإنسان ، فيكون تعريف الإنسان تعريف الجنس العام لكن عمومه عرفي بالقرينة وهو الممثل له في علم المعاني بقولك : جمع الأمير الصاغة . وإما أن يكون المراد إنسانا معينا من هذا الصنف فيكون التعريف تعريف العهد . كما أن الإخبار عن الإنسان بأنه يقول :
nindex.php?page=tafseer&surano=41&ayano=50وما أظن الساعة قائمة ، صريح أن المخبر عنه من المشركين معينا كان أو عاما عموما عرفيا . فقيل المراد بالإنسان : المشركون كلهم ، وقيل أريد به مشرك معين ، قيل هو
الوليد بن المغيرة ، وقيل
عتبة بن ربيعة . وأيا ما كان فالإخبار عن إنسان كافر .
ومحمل الكلام البليغ يرشد إلى أن إناطة هذه الأخبار بصنف من المشركين أو بمشرك معين بعنوان إنسان يومئ بأن للجبلة الإنسانية أثرا قويا في الخلق الذي منه هذه العقيدة إلا من عصمه الله بوازع الإيمان . فأصل هذا الخلق أمر مرتكز في نفس الإنسان ، وهو التوجه إلى طلب الملائم والنافع ، ونسيان ما عسى أن يحل به من المؤلم والضار ، فبذلك يأنس بالخير إذا حصل له فيزداد من السعي لتحصيله ويحسبه كالملازم الذاتي فلا يتدبر في معطيه حتى يشكره ويسأله المزيد تخضعا ،
[ ص: 10 ] وينسى ما عسى أن يطرأ عليه من الضر فلا يستعد لدفعه عن نفسه بسؤال الفاعل المختار أن يدفعه عنه ويعيذه منه .
فأما أن الإنسان لا يسأم من دعاء الخير فمعناه : أنه لا يكتفي ، فأطلق على الاكتفاء والاقتناع السآمة . وهي الملل على وجه الاستعارة بتشبيه استرسال الإنسان في طلب الخير على الدوام بالعمل الدائم الذي شأنه أن يسأم منه عامله فنفي السآمة عنه رمز للاستعارة .
وفي الحديث :
nindex.php?page=hadith&LINKID=2002330لو أن لابن آدم واديين من ذهب لأحب لهما ثالثا ، ولو أن له ثلاثة لأحب لهما رابعا ، ولا يملأ عين ابن آدم إلا التراب ، وقال تعالى :
nindex.php?page=tafseer&surano=100&ayano=8وإنه لحب الخير لشديد .
والدعاء : أصله الطلب بالقول ، وهو هنا مجاز في الطلب مطلقا فتكون إضافته إلى الخير من إضافة المصدر إلى ما في معنى المفعول ، أي الدعاء بالخير أو طلب الخير .
ويجوز أن يكون الدعاء استعارة مكنية ، شبه الخير بعاقل يسأله الإنسان أن يقبل عليه ، فإضافة الدعاء من إضافة المصدر إلى مفعوله .
وأما أن الإنسان يئوس قنوط إن مسه الشر فذلك من خلق قلة صبر الإنسان على ما يتعبه ويشق عليه فيضجر إن لحقه شر ولا يوازي بين ما كان فيه من خير فيقول : لئن مسني الشر زمنا لقد حل بي الخير أزمانا ، فمن الحق أن أتحمل ما أصابني كما نعمت بما كان لي من خير ، ثم لا ينتظر إلى حين انفراج الشر عنه وينسى الإقبال على سؤال الله أن يكشف عنه الضر بل ييأس ويقنط غضبا وكبرا ولا ينتظر معاودة الخير ظاهرا عليه أثر اليأس بانكسار وحزن .
واليأس فعل قلبي هو : اعتقاد عدم حصول المأيوس منه .
والقنوط : انفعال يدني من أثر اليأس وهو انكسار وتضاؤل . ولم يذكر هنا أنه ذو دعاء لله كما ذكر في قوله الآتي :
nindex.php?page=tafseer&surano=41&ayano=51وإذا مسه الشر فذو دعاء عريض لأن المقصود أهل الشرك وهم إنما ينصرفون إلى أصنامهم .
[ ص: 11 ] وقد جاءت تربية الشريعة للأمة على ذم القنوط ؛ قال تعالى حكاية عن
إبراهيم nindex.php?page=tafseer&surano=15&ayano=56قال ومن يقنط من رحمة ربه إلا الضالون ، وفي الحديث :
nindex.php?page=hadith&LINKID=2002331انتظار الفرج بعد الشدة عبادة .
فالآية وصفت خلقين ذميمين : أحدهما خلق البطر بالنعمة والغفلة عن شكر الله عليها . وثانيهما اليأس من رجوع النعمة عند فقدها .
وفي نظم الآية لطائف من البلاغة :
الأولى : التعبير عن دوام طلب النعمة بعدم السآمة كما علمته .
الثانية : التعبير عن محبة الخير بدعاء الخير .
الثالثة : التعبير عن إضافة الضر بالمس الذي هو أضعف إحساس بالإصابة ؛ قال تعالى لا يمسهم السوء .
الرابعة : اقتران شرط مس الشر بـ ( إن ) التي من شأنها أن تدخل على النادر وقوعه فإن إصابة الشر الإنسان نادرة بالنسبة لما هو مغمور به من النعم .
الخامسة : صيغة المبالغة في ( يئوس ) .
السادسة : إتباع ( يئوس ) بـ ( قنوط ) الذي هو تجاوز إحساس اليأس إلى ظاهر البدن بالانكسار ، وهو من شدة يأسه ، فحصلت مبالغتان في التعبير عن يأسه بأنه اعتقاد في ضميره وانفعال في سحناته .
فالمشرك يتأصل فيه هذا الخلق ويتزايد باستمرار الزمان ، والمؤمن لا تزال تربية الإيمان تكفه عن هذا الخلق حتى يزول منه أو يكاد .
ثم بينت الآية خلقا آخر في الإنسان وهو أنه إذا زال عنه كربه وعادت إليه النعمة نسي ما كان فيه من الشدة ولم يتفكر في لطف الله به فبطر النعمة ، وقال : قد استرجعت خيراتي بحيلتي وتدبيري ، وهذا الخير حق لي حصلت عليه ، ثم إذا كان من أهل الشرك - وهم المتحدث عنهم - تراه إذا سمع إنذار النبيء صلى الله عليه وسلم بقيام الساعة أو هجس في نفسه هاجس عاقبة هذه الحياة قال لمن يدعوه إلى العمل ليوم
[ ص: 12 ] الحساب أو قال في نفسه
nindex.php?page=tafseer&surano=41&ayano=50وما أظن الساعة قائمة ولئن فرضت قيام الساعة على احتمال ضعيف فإني سأجد عند الله المعاملة بالحسنى لأني من أهل الثراء والرفاهية في الدنيا فكذلك سأكون يوم القيامة . وهذا من سوء اعتقادهم أن يحسبوا أحوال الدنيا مقارنة لهم في الآخرة ، كما حكى الله تعالى عن
العاصي بن وائل حين اقتضاه
nindex.php?page=showalam&ids=211خباب بن الأرت مالا له عنده من أجر صناعة سيف فقال له : حتى تكفر
بمحمد ؟ فقال
خباب : لا أكفر
بمحمد حتى يميتك الله ويبعثك ، فقال : أوإني لميت فمبعوث ؟ قال : نعم . فقال : لئن بعثني الله فسيكون لي مالي فأقضيك ، فأنزل الله تعالى :
nindex.php?page=tafseer&surano=19&ayano=77أفرأيت الذي كفر بآياتنا وقال لأوتين مالا وولدا الآيات في سورة مريم .
ولعل قوله :
nindex.php?page=tafseer&surano=41&ayano=50ولئن رجعت إلى ربي إن لي عنده للحسنى إنما هو على سبيل الاستهزاء كما في مقالة
العاصي بن وائل .
وذكر إنكار البعث هنا إدماج بذكر أحوال الإنسان المشرك في عموم أحوال الإنسان .
وجيء في حكاية قوله (
nindex.php?page=tafseer&surano=41&ayano=50ولئن رجعت ) بحرف ( إن ) الشرطية التي يغلب وقوعها في الشرط المشكوك وقوعه لأنه جعل رجوعه إلى الله أمرا مفروضا ضعيف الاحتمال .
وأما دخول اللام الموطئة للقسم عليه فمورد التحقيق بالقسم هو حصول الجواب لو حصل الشرط .
وكذلك التأكيد بـ ( إن ) ولام الابتداء مورده هو جواب الشرط ، وكذلك تقديم ( لي ) و ( عنده ) على اسم ( إن ) هو لتقوي ترتب الجواب على الشرط .
والحسنى : صفة لموصوف محذوف ، أي الحالة الحسنى ، أو المعاملة الحسنى . والأظهر أن الحسنى صارت اسما للإحسان الكثير أخذا من صيغة التفضيل .
واعلم أن الإنسان متفاوتة أفراده في هذا الخلق المعزو إليه هنا على تفاوت أفراده في الغرور ، ولما كان أكثر الناس يومئذ المشركين كان هذا الخلق فاشيا فيهم
[ ص: 13 ] يقتضيه دين الشرك . ولا نظر في الآية لمن كان يومئذ من المسلمين لأنهم النادر ، على أن المسلم قد يخامره بعض هذا الخلق وترتسم فيه شيات منه ولكن إيمانه يصرفه عنه انصرافا بقدر قوة إيمانه ، ومعلوم أنه لا يبلغ به إلى الحد الذي يقول
nindex.php?page=tafseer&surano=41&ayano=50وما أظن الساعة قائمة ولكنه قد تجري أعمال بعض المسلمين على صورة أعمال من لا يظن أن الساعة قائمة مثل أولئك الذين يأتون السيئات ثم يقولون : إن الله غفور رحيم والله غني عن عذابنا ، وإذا ذكر لهم يوم الجزاء قالوا : ما ثم إلا الخير ونحو ذلك ، فجعل الله في هذه الآية مذمة للمشركين وموعظة للمؤمنين كمدا للأولين وانتشالا للآخرين .
[ ص: 9 ] nindex.php?page=treesubj&link=29012_31825_32409nindex.php?page=tafseer&surano=41&ayano=49لَا يَسْأَمُ الْإِنْسَانُ مِنْ دُعَاءِ الْخَيْرِ وَإِنْ مَسَّهُ الشَّرُّ فَيَئُوسٌ قَنُوطٌ nindex.php?page=tafseer&surano=41&ayano=50وَلَئِنْ أَذَقْنَاهُ رَحْمَةً مِنَّا مِنْ بَعْدِ ضَرَّاءَ مَسَّتْهُ لَيَقُولَنَّ هَذَا لِي وَمَا أَظُنُّ السَّاعَةَ قَائِمَةً وَلَئِنْ رُجِعْتُ إِلَى رَبِّي إِنَّ لِي عِنْدَهُ لَلْحُسْنَى .
اعْتِرَاضٌ بَيْنَ أَجْزَاءِ الْوَعِيدِ . وَالْمَعْنَى : وَعَلِمُوا مَا لَهُمْ مِنْ مَحِيصٍ . وَقَدْ كَانُوا إِذَا أَصَابَتْهُمْ نَعْمَاءُ كَذَّبُوا بِقِيَامِ السَّاعَةِ . فَجُمْلَةُ
nindex.php?page=tafseer&surano=41&ayano=49لَا يَسْأَمُ الْإِنْسَانُ مِنْ دُعَاءِ الْخَيْرِ إِلَى قَوْلِهِ : (
nindex.php?page=tafseer&surano=41&ayano=49قَنُوطٌ ) تَمْهِيدٌ لِجُمْلَةِ
nindex.php?page=tafseer&surano=41&ayano=50وَلَئِنْ أَذَقْنَاهُ رَحْمَةً مِنَّا إِلَخْ . . .
وَمَوْقِعُ هَذِهِ الْآيَاتِ عَقِبَ قَوْلِهِ :
nindex.php?page=tafseer&surano=41&ayano=47وَيَوْمَ يُنَادِيهِمْ أَيْنَ شُرَكَائِي قَالُوا آذَنَّاكَ إِلَخْ يَقْتَضِي مُنَاسَبَةً فِي النَظْمِ دَاعِيَةً إِلَى هَذَا الِاعْتِرَاضِ فَتِلْكَ قَاضِيَةٌ بِأَنَّ الْإِنْسَانَ الْمُخْبَرَ عَنْهُ بِأَنَّهُ لَا يَسْأَمُ مِنْ دُعَاءِ الْخَيْرِ وَمَا عُطِفَ عَلَيْهِ هُوَ مِنْ صِنْفِ النَّاسِ الَّذِينَ جَرَى ذِكْرُ قَصَصِهِمْ قَبْلَ هَذِهِ الْآيَةِ وَهُمُ الْمُشْرِكُونَ ، فَإِمَّا أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ فَرِيقًا مِنْ نَوْعِ الْإِنْسَانِ ، فَيَكُونَ تَعْرِيفُ الْإِنْسَانِ تَعْرِيفَ الْجِنْسِ الْعَامِّ لَكِنَّ عُمُومَهُ عُرْفِيٌّ بِالْقَرِينَةِ وَهُوَ الْمُمَثَّلُ لَهُ فِي عِلْمِ الْمَعَانِي بِقَوْلِكَ : جَمَعَ الْأَمِيرُ الصَّاغَةَ . وَإِمَّا أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ إِنْسَانًا مُعَيَّنًا مِنْ هَذَا الصِّنْفِ فَيَكُونَ التَّعْرِيفُ تَعْرِيفَ الْعَهْدِ . كَمَا أَنَّ الْإِخْبَارَ عَنِ الْإِنْسَانِ بِأَنَّهُ يَقُولُ :
nindex.php?page=tafseer&surano=41&ayano=50وَمَا أَظُنُّ السَّاعَةَ قَائِمَةً ، صَرِيحٌ أَنَّ الْمُخْبَرَ عَنْهُ مِنَ الْمُشْرِكِينَ مُعَيَّنًا كَانَ أَوْ عَامًّا عُمُومًا عُرْفِيًّا . فَقِيلَ الْمُرَادُ بِالْإِنْسَانِ : الْمُشْرِكُونَ كُلُّهُمْ ، وَقِيلَ أُرِيدَ بِهِ مُشْرِكٌ مُعَيَّنٌ ، قِيلَ هُوَ
الْوَلِيدُ بْنُ الْمُغِيرَةِ ، وَقِيلَ
عُتْبَةُ بْنُ رَبِيعَةَ . وَأَيًّا مَا كَانَ فَالْإِخْبَارُ عَنِ إِنْسَانٍ كَافِرٍ .
وَمَحْمَلُ الْكَلَامِ الْبَلِيغِ يُرْشِدُ إِلَى أَنَّ إِنَاطَةَ هَذِهِ الْأَخْبَارِ بِصِنْفٍ مِنَ الْمُشْرِكِينَ أَوْ بِمُشْرِكٍ مُعَيَّنٍ بِعُنْوَانِ إِنْسَانٍ يُومِئُ بِأَنَّ لِلْجِبِلَّةِ الْإِنْسَانِيَّةِ أَثَرًا قَوِيًّا فِي الْخُلُقِ الَّذِي مِنْهُ هَذِهِ الْعَقِيدَةُ إِلَّا مَنْ عَصَمَهُ اللَّهُ بِوَازِعِ الْإِيمَانِ . فَأَصْلُ هَذَا الْخُلُقِ أَمْرٌ مُرْتَكِزٌ فِي نَفْسِ الْإِنْسَانِ ، وَهُوَ التَّوَجُّهُ إِلَى طَلَبِ الْمُلَائِمِ وَالنَّافِعِ ، وَنِسْيَانُ مَا عَسَى أَنْ يَحِلَّ بِهِ مِنَ الْمُؤْلِمِ وَالضَّارِّ ، فَبِذَلِكَ يَأْنَسُ بِالْخَيْرِ إِذَا حَصَلَ لَهُ فَيَزْدَادُ مِنَ السَّعْيِ لِتَحْصِيلِهِ وَيَحْسَبُهُ كَالْمُلَازِمِ الذَّاتِيِّ فَلَا يَتَدَبَّرُ فِي مُعْطِيهِ حَتَّى يَشْكُرَهُ وَيَسْأَلَهُ الْمَزِيدَ تَخَضُّعًا ،
[ ص: 10 ] وَيَنْسَى مَا عَسَى أَنْ يَطْرَأَ عَلَيْهِ مِنَ الضُّرِّ فَلَا يَسْتَعِدُّ لِدَفْعِهِ عَنْ نَفْسِهِ بِسُؤَالِ الْفَاعِلِ الْمُخْتَارِ أَنْ يَدْفَعَهُ عَنْهُ وَيُعِيذَهُ مِنْهُ .
فَأَمَّا أَنَّ الْإِنْسَانَ لَا يَسْأَمُ مِنْ دُعَاءِ الْخَيْرِ فَمَعْنَاهُ : أَنَّهُ لَا يَكْتَفِي ، فَأَطْلَقَ عَلَى الِاكْتِفَاءِ وَالِاقْتِنَاعِ السَّآمَةَ . وَهِيَ الْمَلَلُ عَلَى وَجْهِ الِاسْتِعَارَةِ بِتَشْبِيهِ اسْتِرْسَالِ الْإِنْسَانِ فِي طَلَبِ الْخَيْرِ عَلَى الدَّوَامِ بِالْعَمَلِ الدَّائِمِ الَّذِي شَأْنُهُ أَنْ يَسْأَمَ مِنْهُ عَامِلُهُ فَنَفْيُ السَّآمَةِ عَنْهُ رَمْزٌ لِلِاسْتِعَارَةِ .
وَفِي الْحَدِيثِ :
nindex.php?page=hadith&LINKID=2002330لَوْ أَنَّ لِابْنِ آدَمَ وَادِيَيْنِ مَنْ ذَهَبٍ لَأَحَبَّ لَهُمَا ثَالِثًا ، وَلَوْ أَنَّ لَهُ ثَلَاثَةً لَأَحَبَّ لَهُمَا رَابِعًا ، وَلَا يَمْلَأُ عَيْنَ ابْنِ آدَمَ إِلَّا التُّرَابُ ، وَقَالَ تَعَالَى :
nindex.php?page=tafseer&surano=100&ayano=8وَإِنَّهُ لِحُبِّ الْخَيْرِ لَشَدِيدٌ .
وَالدُّعَاءُ : أَصْلُهُ الطَّلَبُ بِالْقَوْلِ ، وَهُوَ هُنَا مَجَازٌ فِي الطَّلَبِ مُطْلَقًا فَتَكُونُ إِضَافَتُهُ إِلَى الْخَيْرِ مِنْ إِضَافَةِ الْمَصْدَرِ إِلَى مَا فِي مَعْنَى الْمَفْعُولِ ، أَيِ الدُّعَاءُ بِالْخَيْرِ أَوْ طَلَبُ الْخَيْرِ .
وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الدُّعَاءُ اسْتِعَارَةً مَكْنِيَّةً ، شَبَّهَ الْخَيْرَ بِعَاقِلٍ يَسْأَلُهُ الْإِنْسَانُ أَنْ يُقْبِلَ عَلَيْهِ ، فَإِضَافَةُ الدُّعَاءِ مِنْ إِضَافَةِ الْمَصْدَرِ إِلَى مَفْعُولِهِ .
وَأَمَّا أَنَّ الْإِنْسَانَ يَئُوسٌ قُنُوطٌ إِنْ مَسَّهُ الشَّرُّ فَذَلِكَ مِنْ خُلُقِ قِلَّةِ صَبْرِ الْإِنْسَانِ عَلَى مَا يُتْعِبُهُ وَيَشُقُّ عَلَيْهِ فَيَضْجَرُ إِنْ لَحِقَهُ شَرٌّ وَلَا يُوَازِي بَيْنَ مَا كَانَ فِيهِ مِنْ خَيْرٍ فَيَقُولُ : لَئِنْ مَسَّنِيَ الشَّرُّ زَمَنًا لَقَدْ حَلَّ بِيَ الْخَيْرُ أَزْمَانًا ، فَمِنَ الْحَقِّ أَنْ أَتَحَمَّلَ مَا أَصَابَنِي كَمَا نَعِمْتُ بِمَا كَانَ لِي مِنْ خَيْرٍ ، ثُمَّ لَا يَنْتَظِرُ إِلَى حِينِ انْفِرَاجِ الشَّرِّ عَنْهُ وَيَنْسَى الْإِقْبَالَ عَلَى سُؤَالِ اللَّهِ أَنْ يَكْشِفَ عَنْهُ الضُّرَّ بَلْ يَيْأَسُ وَيَقْنَطُ غَضَبًا وَكِبْرًا وَلَا يَنْتَظِرُ مُعَاوَدَةَ الْخَيْرِ ظَاهِرًا عَلَيْهِ أَثَرُ الْيَأْسِ بِانْكِسَارٍ وَحُزْنٍ .
وَالْيَأْسُ فِعْلٌ قَلْبِيٌّ هُوَ : اعْتِقَادُ عَدَمِ حُصُولِ الْمَأْيُوسِ مِنْهُ .
وَالْقُنُوطُ : انْفِعَالٌ يُدْنِي مِنْ أَثَرِ الْيَأْسِ وَهُوَ انْكِسَارٌ وَتَضَاؤُلٌ . وَلَمْ يَذْكُرْ هُنَا أَنَّهُ ذُو دُعَاءٍ لِلَّهِ كَمَا ذَكَرَ فِي قَوْلِهِ الْآتِي :
nindex.php?page=tafseer&surano=41&ayano=51وَإِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ فَذُو دُعَاءٍ عَرِيضٍ لِأَنَّ الْمَقْصُودَ أَهْلُ الشِّرْكِ وَهُمْ إِنَّمَا يَنْصَرِفُونَ إِلَى أَصْنَامِهِمْ .
[ ص: 11 ] وَقَدْ جَاءَتْ تَرْبِيَةُ الشَّرِيعَةِ لِلْأُمَّةِ عَلَى ذَمِّ الْقُنُوطِ ؛ قَالَ تَعَالَى حِكَايَةً عَنْ
إِبْرَاهِيمَ nindex.php?page=tafseer&surano=15&ayano=56قَالَ وَمَنْ يَقْنَطُ مِنْ رَحْمَةِ رَبِّهِ إِلَّا الضَّالُّونَ ، وَفِي الْحَدِيثِ :
nindex.php?page=hadith&LINKID=2002331انْتِظَارُ الْفَرَجِ بَعْدَ الشِّدَّةِ عِبَادَةٌ .
فَالْآيَةُ وَصَفَتْ خُلُقَيْنِ ذَمِيمَيْنِ : أَحَدُهُمَا خُلُقُ الْبَطَرِ بِالنِّعْمَةِ وَالْغَفْلَةِ عَنْ شُكْرِ اللَّهِ عَلَيْهَا . وَثَانِيهِمَا الْيَأْسُ مِنْ رُجُوعِ النِّعْمَةِ عِنْدَ فَقْدِهَا .
وَفِي نَظْمِ الْآيَةِ لَطَائِفُ مِنَ الْبَلَاغَةِ :
الْأُولَى : التَّعْبِيرُ عَنْ دَوَامِ طَلَبِ النِّعْمَةِ بِعَدَمِ السَّآمَةِ كَمَا عَلِمْتَهُ .
الثَّانِيَةُ : التَّعْبِيرُ عَنْ مَحَبَّةِ الْخَيْرِ بِدُعَاءِ الْخَيْرِ .
الثَّالِثَةُ : التَّعْبِيرُ عَنْ إِضَافَةِ الضُّرِّ بِالْمَسِّ الَّذِي هُوَ أَضْعَفُ إِحْسَاسٍ بِالْإِصَابَةِ ؛ قَالَ تَعَالَى لَا يَمَسُّهُمُ السُّوءُ .
الرَّابِعَةُ : اقْتِرَانُ شَرْطِ مَسِّ الشَّرِّ بِـ ( إِنْ ) الَّتِي مِنْ شَأْنِهَا أَنْ تَدْخُلَ عَلَى النَّادِرِ وُقُوعُهُ فَإِنَّ إِصَابَةَ الشَّرِّ الْإِنْسَانَ نَادِرَةٌ بِالنِّسْبَةِ لِمَا هُوَ مَغْمُورٌ بِهِ مِنَ النِّعَمِ .
الْخَامِسَةُ : صِيغَةُ الْمُبَالَغَةِ فِي ( يَئُوسٌ ) .
السَّادِسَةُ : إِتْبَاعُ ( يَئُوسٌ ) بِـ ( قَنُوطٌ ) الَّذِي هُوَ تَجَاوُزُ إِحْسَاسِ الْيَأْسِ إِلَى ظَاهِرِ الْبَدَنِ بِالِانْكِسَارِ ، وَهُوَ مِنْ شِدَّةِ يَأْسِهِ ، فَحَصَلَتْ مُبَالَغَتَانِ فِي التَّعْبِيرِ عَنْ يَأْسِهِ بِأَنَّهُ اعْتِقَادٌ فِي ضَمِيرِهِ وَانْفِعَالٌ فِي سَحَنَاتِهِ .
فَالْمُشْرِكُ يَتَأَصَّلُ فِيهِ هَذَا الْخُلُقُ وَيَتَزَايَدُ بِاسْتِمْرَارِ الزَّمَانِ ، وَالْمُؤْمِنُ لَا تَزَالُ تَرْبِيَةُ الْإِيمَانِ تَكُفُّهُ عَنْ هَذَا الْخُلُقِ حَتَّى يَزُولَ مِنْهُ أَوْ يَكَادَ .
ثُمَّ بَيَّنَتِ الْآيَةُ خُلُقًا آخَرَ فِي الْإِنْسَانِ وَهُوَ أَنَّهُ إِذَا زَالَ عَنْهُ كَرْبُهُ وَعَادَتْ إِلَيْهِ النِّعْمَةُ نَسِيَ مَا كَانَ فِيهِ مِنَ الشِّدَّةِ وَلَمْ يَتَفَكَّرْ فِي لُطْفِ اللَّهِ بِهِ فَبَطِرَ النِّعْمَةَ ، وَقَالَ : قَدِ اسْتَرْجَعْتُ خَيْرَاتِي بِحِيلَتِي وَتَدْبِيرِي ، وَهَذَا الْخَيْرُ حَقٌّ لِي حَصُلْتُ عَلَيْهِ ، ثُمَّ إِذَا كَانَ مِنْ أَهْلِ الشِّرْكِ - وَهُمُ الْمُتَحَدَّثُ عَنْهُمْ - تَرَاهُ إِذَا سَمِعَ إِنْذَارَ النَّبِيءِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِقِيَامِ السَّاعَةِ أَوْ هَجَسَ فِي نَفْسِهِ هَاجِسُ عَاقِبَةِ هَذِهِ الْحَيَاةِ قَالَ لِمَنْ يَدْعُوهُ إِلَى الْعَمَلِ لِيَوْمِ
[ ص: 12 ] الْحِسَابِ أَوْ قَالَ فِي نَفْسِهِ
nindex.php?page=tafseer&surano=41&ayano=50وَمَا أَظُنُّ السَّاعَةَ قَائِمَةً وَلَئِنْ فَرَضْتُ قِيَامَ السَّاعَةِ عَلَى احْتِمَالٍ ضَعِيفٍ فَإِنِّي سَأَجِدُ عِنْدَ اللَّهِ الْمُعَامَلَةَ بِالْحُسْنَى لِأَنِّي مِنْ أَهْلِ الثَّرَاءِ وَالرَّفَاهِيَةِ فِي الدُّنْيَا فَكَذَلِكَ سَأَكُونُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ . وَهَذَا مِنْ سُوءِ اعْتِقَادِهِمْ أَنْ يَحْسَبُوا أَحْوَالَ الدُّنْيَا مُقَارِنَةً لَهُمْ فِي الْآخِرَةِ ، كَمَا حَكَى اللَّهُ تَعَالَى عَنِ
الْعَاصِي بْنِ وَائِلٍ حِينَ اقْتَضَاهُ
nindex.php?page=showalam&ids=211خَبَّابُ بْنُ الْأَرَتِّ مَالًا لَهُ عِنْدَهُ مِنْ أَجْرِ صِنَاعَةِ سَيْفٍ فَقَالَ لَهُ : حَتَّى تَكْفُرَ
بِمُحَمَّدٍ ؟ فَقَالَ
خَبَّابٌ : لَا أَكْفُرُ
بِمُحَمَّدٍ حَتَّى يُمِيتَكَ اللَّهُ وَيَبْعَثَكَ ، فَقَالَ : أَوَإِنِّي لَمَيِّتٌ فَمَبْعُوثٌ ؟ قَالَ : نَعَمْ . فَقَالَ : لَئِنْ بَعَثَنِي اللَّهُ فَسَيَكُونُ لِي مَالِي فَأَقْضِيكَ ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى :
nindex.php?page=tafseer&surano=19&ayano=77أَفَرَأَيْتَ الَّذِي كَفَرَ بِآيَاتِنَا وَقَالَ لَأُوتَيَنَّ مَالًا وَوَلَدًا الْآيَاتِ فِي سُورَةِ مَرْيَمَ .
وَلَعَلَّ قَوْلَهُ :
nindex.php?page=tafseer&surano=41&ayano=50وَلَئِنْ رُجِعْتُ إِلَى رَبِّي إِنَّ لِي عِنْدَهُ لَلْحُسْنَى إِنَّمَا هُوَ عَلَى سَبِيلِ الِاسْتِهْزَاءِ كَمَا فِي مَقَالَةِ
الْعَاصِي بْنِ وَائِلٍ .
وَذِكْرُ إِنْكَارِ الْبَعْثِ هُنَا إِدْمَاجٌ بِذِكْرِ أَحْوَالِ الْإِنْسَانِ الْمُشْرِكِ فِي عُمُومِ أَحْوَالِ الْإِنْسَانِ .
وَجِيءَ فِي حِكَايَةِ قَوْلِهِ (
nindex.php?page=tafseer&surano=41&ayano=50وَلَئِنْ رُجِعْتُ ) بِحَرْفِ ( إِنْ ) الشَّرْطِيَّةِ الَّتِي يَغْلِبُ وُقُوعُهَا فِي الشَّرْطِ الْمَشْكُوكِ وُقُوعُهُ لِأَنَّهُ جَعَلَ رُجُوعَهُ إِلَى اللَّهِ أَمْرًا مَفْرُوضًا ضَعِيفَ الِاحْتِمَالِ .
وَأَمَّا دُخُولُ اللَّامِ الْمُوطِئَةِ لِلْقَسَمِ عَلَيْهِ فَمَوْرِدُ التَّحْقِيقِ بِالْقِسَمِ هُوَ حُصُولُ الْجَوَابِ لَوْ حَصَلَ الشَّرْطُ .
وَكَذَلِكَ التَّأْكِيدُ بِـ ( إِنَّ ) وَلَامِ الِابْتِدَاءِ مَوْرِدُهُ هُوَ جَوَابُ الشَّرْطِ ، وَكَذَلِكَ تَقْدِيمُ ( لِي ) وَ ( عِنْدَهُ ) عَلَى اسْمِ ( إِنَّ ) هُوَ لِتَقَوِّي تَرَتُّبِ الْجَوَابِ عَلَى الشَّرْطِ .
وَالْحُسْنَى : صِفَةٌ لِمَوْصُوفٍ مَحْذُوفٍ ، أَيِ الْحَالَةُ الْحُسْنَى ، أَوِ الْمُعَامَلَةُ الْحُسْنَى . وَالْأَظْهَرُ أَنَّ الْحُسْنَى صَارَتِ اسْمًا لِلْإِحْسَانِ الْكَثِيرِ أَخْذًا مِنْ صِيغَةِ التَّفْضِيلِ .
وَاعْلَمْ أَنَّ الْإِنْسَانَ مُتَفَاوِتَةٌ أَفْرَادُهُ فِي هَذَا الْخُلُقِ الْمَعْزُوِّ إِلَيْهِ هُنَا عَلَى تَفَاوُتِ أَفْرَادِهِ فِي الْغُرُورِ ، وَلَمَّا كَانَ أَكْثَرُ النَّاسِ يَوْمَئِذٍ الْمُشْرِكِينَ كَانَ هَذَا الْخُلُقُ فَاشِيًا فِيهِمْ
[ ص: 13 ] يَقْتَضِيهِ دِينُ الشِّرْكِ . وَلَا نَظَرَ فِي الْآيَةِ لِمَنْ كَانَ يَوْمَئِذٍ مِنَ الْمُسْلِمِينَ لِأَنَّهُمُ النَّادِرُ ، عَلَى أَنَّ الْمُسْلِمَ قَدْ يُخَامِرُهُ بَعْضُ هَذَا الْخُلُقِ وَتَرْتَسِمُ فِيهِ شِيَاتٌ مِنْهُ وَلَكِنَّ إِيمَانَهُ يَصْرِفُهُ عَنْهُ انْصِرَافًا بِقَدْرِ قُوَّةِ إِيمَانِهِ ، وَمَعْلُومٌ أَنَّهُ لَا يَبْلُغُ بِهِ إِلَى الْحَدِّ الَّذِي يَقُولُ
nindex.php?page=tafseer&surano=41&ayano=50وَمَا أَظُنُّ السَّاعَةَ قَائِمَةً وَلَكِنَّهُ قَدْ تَجْرِي أَعْمَالُ بَعْضِ الْمُسْلِمِينَ عَلَى صُورَةِ أَعْمَالِ مَنْ لَا يَظُنُّ أَنَّ السَّاعَةَ قَائِمَةٌ مِثْلَ أُولَئِكَ الَّذِينَ يَأْتُونَ السَّيِّئَاتِ ثُمَّ يَقُولُونَ : إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ وَاللَّهَ غَنِيٌّ عَنْ عَذَابِنَا ، وَإِذَا ذُكِرَ لَهُمْ يَوْمُ الْجَزَاءِ قَالُوا : مَا ثَمَّ إِلَّا الْخَيْرُ وَنَحْوَ ذَلِكَ ، فَجَعَلَ اللَّهُ فِي هَذِهِ الْآيَةِ مَذَمَّةً لِلْمُشْرِكِينَ وَمَوْعِظَةً لِلْمُؤْمِنِينَ كَمَدًا لِلْأَوَّلِينَ وَانْتِشَالًا لِلْآخِرِينَ .