الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                      صفحة جزء
                                      قال المصنف رحمه الله تعالى : ( وإن كان الزرع لواحد والأرض لآخر وجب العشر على مالك الزرع عند الوجوب ; لأن الزكاة تجب في الزرع فوجبت على مالكه كزكاة التجارة تجب على مالك المال دون مالك الدكان ، وإن كان على الأرض خراج وجب الخراج في وقته ، ووجب العشر في وقته ، ولا يمنع وجوب أحدهما وجوب الآخر ; لأن الخراج يجب للأرض ، والعشر يجب للزرع فلا يمنع أحدهما الآخر كأجرة المتجر وزكاة التجارة ) .

                                      [ ص: 487 ]

                                      التالي السابق


                                      ( الشرح ) : المتجر بفتح الميم والجيم هو الدكان . ( أما الأحكام ) : فقال الشافعي والأصحاب رحمهم الله تعالى : يجب العشر في الثمر والحب المستخرج من أرض مستأجرة ، أو من أرض عليها خراج ، فيجب على المستأجر العشر مع الأجرة وكذا مع الخراج في أرض الخراج قال الرافعي والأصحاب : وتكون الأرض خراجية في صورتين : ( إحداهما ) : أن يفتح الإمام بلدة قهرا ويقسمها بين الغانمين ، ثم يعوضهم عنها ، ثم يقفها على المسلمين ويضرب عليها خراجا ، كما فعل عمر رضي الله عنه بسواد العراق على ما هو الصحيح فيه ( الثانية ) : أن يفتح بلدة صلحا على أن الأرض للمسلمين ويسكنها الكفار بخراج معلوم ، فالأرض تكون فيئا للمسلمين ، والخراج أجرة لا يسقط بإسلامهم ، وكذا إذا انجلى الكفار عن بلدة وقلنا : أن الأرض تصير وقفا على مصالح المسلمين يضرب عليها خراج يؤديه من سكنها ، مسلما كان أو ذميا ، فأما إذا فتحت صلحا ولم يشترط كون الأرض للمسلمين ولكن سكنوا فيها بخراج ، فهذا يسقط بالإسلام فإنه جزية . وأما البلاد التي فتحت قهرا وقسمت بين الغانمين وثبتت في أيديهم ، وكذا التي أسلم أهلها عليها ، والأرض التي أحياها المسلمون ، فكلها عشرية ، وأخذ الخراج منها ظلم .

                                      قال : وأما النواحي التي يؤخذ منها الخراج ولا يعرف كيف حالها في الأصل فحكى الشيخ أبو حامد عن نص الشافعي رضي الله عنه أنه يستدام [ ص: 479 ] الأخذ منها ، فإنه يجوز أن يكون الذي فتحها صنع بها كما صنع عمر رضي الله عنه بسواد العراق ، والظاهر أن ما جرى طول الدهر جرى بحق فإن قيل : هل يثبت حكم أرض السواد من امتناع البيع والرهن ؟ قيل : يجوز أن يقال : الظاهر في الأخذ كونه حقا وفي الأيدي الملك ، فلا يترك واحدا من الظاهرين إلا بيقين ، واتفق الأصحاب على أن الخراج المأخوذ ظلما لا يقوم مقام العشر ، فإن أخذه السلطان على أن يكون بدل العشر فهو كأخذ القيمة بالاجتهاد ، وفي سقوط الفرض به خلاف سبق في آخر باب الخلطة الصحيح السقوط ، وبه قطع المتولي وآخرون . فعلى هذا إن لم يبلغ قدر العشر أخرج الباقي ، والله أعلم .

                                      ( 6 فرع ) : في مذاهب العلماء في اجتماع العشر والخراج مذهبنا اجتماعهما ، ولا يمنع أحدهما وجوب الآخر . وبه قال جمهور العلماء . قال ابن المنذر : هو قول أكثر العلماء ، ممن قال به عمر بن عبد العزيز وربيعة والزهري ويحيى الأنصاري ومالك والأوزاعي والثوري والحسن بن صالح وابن أبي ليلى والليث وابن المبارك وأحمد وإسحاق وأبو عبيد وداود وقال أبو حنيفة : لا يجب العشر مع الخراج .

                                      واحتج بحديث يروى عن ابن مسعود مرفوع : " { لا يجتمع عشر وخراج في أرض مسلم } وبحديث أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال " { منعت العراق قفيزها ودرهمها } ، " ولما روي أن دهقان بهر الملك لما أسلم . قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه : سلموا إليه الأرض وخذوا منه الخراج ، فأمر بأخذ الخراج ولم يأمر بأخذ العشر ، ولو كان واجبا لأمر به ; ولأن الخراج يجب بالمعنى الذي يجب به العشر ، وهو منفعة الأرض ، ولهذا لو كانت الأرض سبخة لا منفعة لها لم يجب فيها خراج ولا عشر فلم يجز إيجابهما معا ، كما إذا ملك نصابا من السائمة للتجارة سنة ، فإنه لا يلزمه زكاتان ; ولأن الخراج يجب بسبب الشرك ، والعشر بسبب الإسلام فلم يجتمعا . واحتج أصحابنا بقوله صلى الله عليه وسلم { : فيما سقت السماء العشر } وهو صحيح كما سبق بيانه في باب زكاة الثمار ، وهو عام يتناول [ ص: 480 ] ما في أرض الخراج وغيره . واحتجوا بالقياس الذي ذكره المصنف وبالقياس على المعادن ; ولأنهما حقان يجبان بسببين مختلفين لمستحقين ، فلم يمنع أحدهما الآخر كما لو قتل المحرم صيدا مملوكا ; ولأن العشر وجب بالنص فلا يمنعه الخراج الواجب بالاجتهاد . وأما الجواب عن حديث : " { لا يجتمع عشر وخراج } " فهو أنه حديث باطل مجمع على ضعفه ، انفرد به يحيى بن عنبسة عن أبي حنيفة عن حماد عن إبراهيم النخعي عن علقمة عن ابن مسعود عن النبي صلى الله عليه وسلم قال البيهقي رحمه الله تعالى في معرفة السنن والآثار : هذا المذكور إنما يرويه أبو حنيفة عن حماد عن إبراهيم من قوله فرواه يحيى بن عنبسة هكذا مرفوعا . ويحيى بن عنبسة مكشوف الأمر في الضعف لروايته عن الثقات الموضوعات . قاله أبو أحمد بن عدي الحافظ فيما أخبرنا به أبو سعيد الماليني عنه . هذا كلام البيهقي وكلام الباقين بمعناه .

                                      وأما حديث أبي هريرة " منعت العراق " ففيه تأويلان مشهوران في كتب العلماء المتقدمين والمتأخرين ( أحدهما ) : معناه أنهم سيسلمون وتسقط عنهم الجزية ، ( والثاني ) : أنه إشارة إلى الفتن الكائنة في آخر الزمان حتى يمنعوا الحقوق الواجبة عليهم من زكاة وجزية وغيرهما ، ولو كان معنى الحديث ما زعموه للزم أن لا تجب زكاة الدراهم والدنانير والتجارة . وهذا لا يقول به أحد . وأما قصة الدهقان فمعناها خذوا منه الخراج ; لأنه أخره فلا يسقط بإسلامه ولا يلزم من ذلك سقوط العشر وإنما ذكر الخراج ; لأنهم ربما توهموا سقوطه بالإسلام كالجزية . وأما العشر ، فمعلوم لهم وجوبه على كل حر مسلم ، فلم يحتج إلى ذكره ، كما أنه لم يذكر أخذ زكاة الماشية منه ، وكذا زكاة النقد وغيرها ، وكذا لم يذكر إلزامه بالصلاة والصيام وغيرهما من أحكام الإسلام . وأجاب صاحب الحاوي أيضا بأنه يجوز أن يكون خطاب عمر لمتولي الخراج الذي لا ولاية له على الأعشار ، أو أنه لم يكن وقت أخذ العشر ، أو أنه لم يكن له ما يجب فيه عشر . وأما قولهم : يجب العشر بالمعنى الذي يجب به الخراج ، فليس كذلك ; لأن العشر يجب في نفس الزرع والخراج يجب عن الأرض ، سواء زرعها أم أهملها . وأما قولهم : الخراج يجب بسبب [ ص: 481 ] الشرك فليس كذلك وإنما تجب أجرة الأرض سواء كان في يد مسلم أو كافر ; ولأن هذا فاسد على مذهبهم فإن عندهم يجب العشر على الذمي ، والله تعالى أعلم .



                                      ( فرع ) : إذا كان لمسلم أرض لا خراج عليها وعليه العشر فباعها الذمي فمذهبنا أنه ليس على الذمي فيها خراج ولا عشر قال العبدري : وقال أبو حنيفة : عليه الخراج : وقال أبو يوسف : عليه عشران وقال محمد : عشر واحد . وقال مالك : لا يصح البيع حتى لا تخلو الأرض من عشر أو خراج . دليلنا أنها أرض لا خراج عليها ، فلا يتجدد عليها خراج ، كما لو باعها لمسلم ، وينتقض مذهب مالك بما إذا باع الماشية لذمي ، والله أعلم .



                                      ( فرع ) : وإذا أجر أرضه ، فمذهبنا أن عشر زرعها على المستأجر الزارع وبه قال مالك وأبو يوسف ومحمد وأحمد وداود ، وقال أبو حنيفة : يجب على صاحب الأرض ، ولو استعار أرضا فزرعها فعشر الزرع على المستعير عندنا ، وعند العلماء كافة ، وعند أبي حنيفة روايتان أشهرهما هكذا ، والثانية رواها عنه ابن المبارك أنه على المعير ، وهذا عجب .



                                      ( فرع ) : في مسائل تتعلق ببابي زكاة الثمار والزروع ، ( إحداها ) : لا يجب العشر عندنا في ثمار الذمي والمكاتب وزرعهما ، وأوجبه أبو حنيفة في زرع الذمي وثمره لعموم الحديث : " { فيما سقت السماء العشر } ; ولأنه حق يجب لمنفعة الأرض ، فاستوى المسلم والكافر فيه كالخراج ، واحتج أصحابنا أن العشر زكاة للحديث السابق في الكرم ، يخرص كما يخرص النخل ، ثم تؤدى زكاته زبيبا ، كما تؤدى زكاة النخل تمرا ، وإذا كان زكاة ، فلا يجب على الذمي كسائر الزكوات ، أو يقال حق يصرف إلى أهل الزكوات ، فلم يجب على الذمي كسائر الزكوات . وأما الحديث فمخصوص بما ذكرناه ، وأما القياس المذكور فليس كما قالوه . بل حق العشر متعلق بالزرع على سبيل الطهرة للمزكي .



                                      ( الثانية ) : قال أصحابنا : إذا وجب العشر في الزروع والثمار لم يجب فيها بعد ذلك شيء . وإن بقيت يد مالكها سنين . هذا مذهبنا . قال الماوردي وبه قال جميع الفقهاء إلا الحسن البصري ، فقال : على مالكها العشر [ ص: 482 ] في كل سنة كالماشية والدراهم والدنانير . قال الماوردي : وهذا خلاف الإجماع ; ولأن الله تعالى علق وجوب الزكاة بحصاده ، والحصاد لا يتكرر ، فلم يتكرر العشر ; ولأن الزكاة إنما تتكرر في الأموال النامية . وما ادخر من زرع وثمر ، فهو منقطع النماء متعرض للنفاد . فلم تجب فيه زكاة كالأثاث والماشية ، فإنها مرصدة للنماء والله تعالى أعلم .



                                      ( الثالثة ) : قال صاحب الحاوي : روي عن النبي صلى الله عليه وسلم { أنه نهى عن جذاذ الليل } " وهو صرام النخل ليلا . فيستحب أن يكون الصرام نهارا ليسأله الناس من ثمرها فيستحب ذلك فيما وجبت زكاته وفيما لا زكاة فيه أيضا ، قال : وحكي عن مجاهد والنخعي أيضا أن الصدقة من المال وقت الصرام والحصاد واجبة لقوله تعالى : { وآتوا حقه يوم حصاده } ومذهبنا ومذهب سائر العلماء أنه لا يجب ذلك ; لأن الأصل عدم الوجوب ، والآية المذكورة المراد بها الزكاة والله أعلم .

                                      ( فرع ) : روينا في سنن أبي داود في أواخر كتاب الزكاة عن جابر رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم " { أمر من كل جاذ عشرة أوسق من التمر بقنو يعلق في المسجد } " وفي إسناده محمد بن إسحاق وهو مدلس ، وقد قال : ( عن ) فيكون ضعيفا قال الخطابي : معنى جاذ عشرة أوسق أي ما يجذ منه عشرة أوسق ، والقنو الغصن بما عليه من الرطب أو البسر ليأكله المساكين ، قال : وهذا من صدقة التطوع وليس بواجب .



                                      ( الرابعة ) : قال الشافعي والأصحاب رحمهم الله تعالى : إذا أراد الساعي أخذ العشر كيل لرب المال تسعة ، ثم يأخذ الساعي العاشر ، فإن كان الواجب نصف العشر كيل لرب المال تسعة عشر ، ثم للساعي واحد ، فإن كان ثلاثة أرباع العشر كيل للمالك سبعة وثلاثين ، وللساعي ثلاثة ، وإنما بدأ للمالك ; لأن حقه أكثر وبه يعرف حق المساكين ، قال الشافعي في الأم ، والأصحاب : ولا يهز المكيال ولا يزلزل ولا توضع اليد فوقه ولا يمسح ; لأن ذلك يختلف ، بل يصب فيه ما يحتمله ، ثم يفرغ والله تعالى أعلم .



                                      ( الخامسة ) : ثمار البستان وغلة الأرض الموقوفين ، إن كانت على جهة عامة كالمساجد والقناطر والمدارس والربط والفقراء والمجاهدين والغرباء واليتامى [ ص: 483 ] والأرامل وغير ذلك ، فلا زكاة فيها . هذا هو الصحيح المشهور من نصوص الشافعي رضي الله عنه وبه قطع الأصحاب ، وقد سبقت هذه المسألة في جميع الطرق ، وحكى ابن المنذر عن الشافعي أنه قال : يجب فيها العشر . وهذا النقل غريب ، وقد سبقت هذه المسألة في أول باب صدقة المواشي ، وذكرنا هناك أن الشيخ أبا نصر قال : هذا النص غير معروف عند الأصحاب . وإن كانت موقوفة على إنسان معين أو جماعة معينين ، أو على أولاد زيد مثلا وجب العشر بلا خلاف ; لأنهم يملكون الثمار والغلة ملكا تاما ، ويتصرفون فيه جميع أنواع التصرف . قال أصحابنا : فإن بلغ نصيب كل إنسان نصابا وجب عشره بلا خلاف وإن نقص ، وبلغ نصيب جميعهم نصابا ، ووجدت شروط الخلطة بني على صحة الخلطة في الثمار والزروع ، ( الصحيح ) : صحتها وثبوت حكمها ، فيجب العشر ، ( والثاني ) : لا تصح ولا عشر ، والله تعالى أعلم .



                                      ( السادس ) : قد سبق في باب زكاة الثمار أن مؤنة الحصاد والحراثة والدياس والتصفية وجذاذ الثمار وتجفيفها وغير ذلك من مؤن الثمر والزرع يجب على رب المال في خالص ماله ، ولا يحسب من أصل المال الزكوي ، بل يجب عشر الجميع ، وسبقت هناك فروع فيه . قال الدارمي : فلو كان على الأرض خراج هو عشر زرعها أخذ من كل عشرة أوسق وسقان ، وسق للعشر يصرف إلى أهل الزكوات ، ووسق للخراج يصرف في مصارف الخراج ، قال : لأن ما أداه في الخراج حصل مالا له ، وقد صرفه في حق عليه فهو كما أوفاه في دين فوجب عشر الجميع .



                                      ( السابعة ) : إذا كان على الأرض خراج فأجرها فالمشهور أن الخراج على مالك الأرض ، ولا شيء على المستأجر ، هذا هو المذهب المعروف في كتب الأصحاب ، وذكر الدارمي في آخر هذا الباب فيه ثلاثة أوجه : ( أحدها ) : أنه على مالك الأرض ، فلو شرطه على الزارع فسد العقد ، ( والثاني ) : أنه على الزارع فلو شرطه على المؤجر بطل العقد ، ( والثالث ) : على ما يشترطان ، وهذا الذي نقله شاذ مردود .



                                      ( الثامنة ) : قد سبق في باب الخلطة خلاف في ثبوتها في الزرع والثمار ، وحاصله ثلاثة أقوال ( أصحها ) : تثبت خلطة الشيوع وخلطة الجوار جميعا [ ص: 484 ] والثاني ) لا تثبتان ، ( والثالث ) : تثبت خلطة الشيوع دون الجوار . قال أصحابنا : فإن قلنا : لا تثبتان ، لم يكمل ملك إنسان بملك غيره في إتمام النصاب ، وإن أثبتناهما كمل بملك الشريك والجار ، ولو مات إنسان وخلف نخيلا مثمرة أو غير مثمرة ، وبدا الصلاح في الحالين في ملك الورثة ، فإن قلنا لا تثبت الخلطة ، فحكم كل واحد معتبر على انفراده ، منقطع عن شركائه ، فمن بلغ نصيبه نصابا زكاه ومن لم يبلغ نصيبه نصابا ، فلا زكاة عليه ، وسواء اقتسموا أم لا ، وإن قلنا : تثبت الخلطة ، قال الشافعي رضي الله عنه في المختصر : إن اقتسموا قبل بدو الصلاح زكوا زكاة الانفراد ، فمن بلغ نصيبه نصابا زكاه ، ومن لم يبلغ نصيبه نصابا فلا زكاة ، قال أصحابنا : هذا إذا لم تثبت خلطة الجوار أو أثبتناها وكانت متباعدة أو فقد بعض شروطها ، فأما إذا كانت مجاورة ووجدت الشروط وأثبتنا خلطة الجوار فيزكون زكاة الخلطة كما قبل القسمة . قال الشافعي رضي الله عنه : وإن اقتسموا بعد بدو الصلاح زكوا زكاة الخلطة لاشتراكهم حالة الوجوب وعليه اعتراضان ( أحدهما ) : اعترض به المزني في المختصر فقال : القسمة بيع ، وبيع الربوي بعضه ببعض جزافا لا يجوز عند الشافعي بحال ، وأجاب الأصحاب عن اعتراضه ، فقالوا : قد احترز الشافعي رضي الله عنه عن هذا الاعتراض ، فقال في الأم وفي الجامع الكبير : ( إن اقتسموا قسمة صحيحة ) قال إمام الحرمين قال الأصحاب : نبه الشافعي بهذا النص على أن المراد أن يتفاضلا مفاضلة صحيحة .

                                      قال الأصحاب : ويتصور ذلك من وجوه ، ذكر إمام الحرمين منها وجهين . وذكر صاحب الحاوي والرافعي وآخرون ستة وبعضهم خمسة . وذكر الدارمي في الاستذكار عن الأصحاب أربعة عشر وجها لتصويرها ، ومختصر ما ذكره الدارمي في مجموع كلامهم مع تداخله أن يقال : يتصور من أربعة عشر وجها كما ذكره الدارمي ( أحدها ) : أن الشافعي رضي الله عنه فرعه على قوله : القسمة إفراز لا على أنها بيع وحينئذ لا حجر في القسمة . ( الثاني ) : إذا قلنا : القسمة بيع ، فصورته أن يكون بعض النخل مثمرا وبعضها غير مثمر ، فجعل هذا سهما وذاك سهما . ويقسمه قسمة تعديل ، فيكون بيع نخل ورطب بنخل متمحض ، وذلك جائز بالاتفاق . [ ص: 485 ] الثالث ) : أن تكون التركة نخلتين والورثة شخصين اشترى أحدهما نصيب صاحبه من إحدى النخلتين أصلها وثمرها بدينار وباع نصيبه من الأخرى لصاحبه بدينار وتقاصا قال الرافعي : قال الأصحاب : ولا يحتاج إلى شرط القطع ، وإن كان قبل بدو الصلاح ; لأن المبيع جزء شائع من الثمرة والشجرة معا ، فصار كما لو باعها كلها بثمرتها صفقة واحدة ، وإنما يحتاج إلى شرط القطع إذا أفرد الثمرة بالبيع .

                                      ( والرابع ) : أن يبيع كل واحد نصيبه من ثمرة إحدى النخلتين بنصيب صاحبه من جذعها ، فيجوز بعد الصلاح ، ولا يكون ربا ولا يجوز قبله إلا بشرط ; لأنه بيع ثمرة يكون للمشتري على جذع البائع .

                                      ( الخامس ) : أن يكون بعض التركة نخلا ، وبعضها عروضا ، فيبيع أحدهما حصته من النخل والثمر بحصة صاحبه من العروض ، فيصير لأحدهما جميع النخل وللآخر جميع العروض ، قال صاحب الحاوي : وهذه الأوجه الأربعة ليست مقنعة ; لأنها بيع جنس بغيره ، وليس قسمة جنس واحد ، ولكن ذكرها أصحابنا فذكرناها .

                                      ( السادس ) : جواب لبعض الأصحاب قال : قسمة الثمار بالخرص تجوز على أحد القولين ، ونص الشافعي رضي الله عنه مفرع عليه ، وهذا الجواب ذكره الدارمي وغيره ، قال الشافعي في الصرف : على جواز قسمة الرطب على النخل بالخرص . قال الرافعي رحمه الله تعالى : وهذا يدفع إشكال بيع الجزاف ، ولا يدفع إشكال بيع الرطب بالرطب . " قلت : " نصه على جوازه يدل على المسامحة بهذا النوع من البيع ، ولنا وجه معروف في جواز بيع الرطب بالرطب على رءوس النخل للأجانب ، فهو في حق المتقاسمين أولى بالجواز .

                                      ( السابع ) : ذكره الدارمي ، قال : حكى أبو حامد جواز قسمة النخل المثمر ، ولا حكم للثمر ; لأنه تابع ، ثم ذكر الدارمي بقية الأربعة عشر . وفي بعضها نظر وتداخل والله تعالى أعلم .

                                      ( الاعتراض الثاني ) : قال أصحابنا العراقيون : جواز القسمة قبل إخراج الزكاة هو بناء على وجوبها في الذمة ، [ ص: 486 ] فأما إن قلنا : إن الزكاة تتعلق ، فلا تصح القسمة . قال الرافعي ويمكن تصحيح القسمة مع التفريع على قول العين ، بأن يخرص الثمار عليهم ويضمنوا حق المساكين ، فلهم التصرف بعد ذلك . وأيضا فإنا قدمنا في صحة البيع قولين تفريعا على التعليق بالعين ، هكذا القسمة إن قلنا : إنها بيع . وإن قلنا : إفراز فلا منع . هذا كله إذا لم يكن على الميت دين ، فإن مات وعليه دين وله نخيل مثمرة ، فبدأ الصلاح فيها بعد موته وقبل بيعها ، فالمذهب وبه قطع الجمهور وجوب الزكاة على الورثة ; لأنها ملكهم ما لم تبع في الدين بناء على المذهب ، والمنصوص أن الدين لا يمنع انتقال الملك بالإرث ، وقيل في وجوب الزكاة قولان ( أصحهما ) : هذا ، ( والثاني ) : لا زكاة لعدم استقرار الملك في الحال . قال الرافعي : ويمكن بناء على الخلاف على أن الدين هل يمنع الإرث أم لا ؟ فعلى المذهب حكمهم في كونهم يزكون زكاة خلطة أم انفراد ؟ على ما سبق إذا لم يكن دين ، ثم إن كانوا موسرين أخذت الزكاة منهم وصرفت النخيل والثمار إلى ديون الغرماء . وإن كانوا معسرين فطريقان : ( أحدهما ) : أنه على الخلاف في أن الزكاة تتعلق بالعين أم بالذمة ؟ إن قلنا بالذمة ، والمال مرهون بها خرج على الأقوال الثلاثة في اجتماع حق الله تعالى وحق الآدمي . فإن سوينا وزعنا المال على الزكاة وحق الغرماء . وإن قدمنا قدمنا ما يقال بتقديمه . وإن قلنا : تتعلق بالعين أخذت سواء قلنا تتعلق تعلق الأرش أو تعلق الشركة .

                                      ( والطريق الثاني ) : وهو الأصح تؤخذ الزكاة بكل حال لشدة تعلقها بالمال ، ثم إذا أخذت من العين ولم يف الباقي بالدين غرم الورثة قدر الزكاة لغرماء الميت إذا أيسروا ; لأن الزكاة إنما وجبت عليهم ، وبسبب وجوبها خرج ذلك القدر عن الغرماء . قال البغوي : هذا إذا قلنا الزكاة تتعلق بالذمة ، فإن قلنا بالعين لم يغرموا كما قلنا في الرهن . أما إذا أطلعت النخل بعد موته فالثمرة متمحضة للورثة لا يصرف إلى دين الغرماء منها شيء إلا إذا قلنا بالضعيف ، وهو قول الإصطخري : إن الدين يمنع الإرث ، فحكمها كما لو حدثت قبل موته والله أعلم .



                                      [ ص: 487 ] المسألة التاسعة ) : قال القاضي حسين في الفتاوى في كتاب النذر : لو قال إن شفى الله تعالى مريضي فلله علي أن أتصدق بخمس ما يحصل لي من المعشرات ، فشفى الله تعالى المريضيجب التصدق بالخمس ، ثم بعد الخمس يجب عشر الباقي للزكاة إن كان نصابا ولا عشر في ذلك الخمس ; لأنه لفقراء غير معينين . قال فلو قال : لله علي أن أتصدق بخمس مالي يجب إخراج العشر زكاة أولا ، ثم ما بقي بعده يتصدق بخمسه والله تعالى أعلم .



                                      ( العاشرة ) : لا يجب في الزرع حق غير الزكاة . وهي المراد بقوله تعالى : { وآتوا حقه يوم حصاده } هذا مذهبنا وبه قال جماهير العلماء . وقال الشعبي والنخعي في رواية عنه يجب فيه حق سوى الزكاة . وهو أن يخرج شيئا إلى المساكين يوم حصاده ، ثم يزكيه يوم التصفية . وقال مجاهد إذا حصد الزرع ألقى لهم من السنابل وإذا جذ النخل ألقى لهم من الشماريخ ، ثم يزكيهما إذا كالهما . دليلنا قوله في الحديث الصحيح في الزكاة : " هل علي غيرها ؟ قال : لا إلا أن تطوع " .




                                      الخدمات العلمية