الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                                                                      صفحة جزء
                                                                                                                                                                                                                                      القول في تأويل قوله تعالى:

                                                                                                                                                                                                                                      [6] يا أيها الذين آمنوا إن جاءكم فاسق بنبإ فتبينوا أن تصيبوا قوما بجهالة فتصبحوا على ما فعلتم نادمين .

                                                                                                                                                                                                                                      يا أيها الذين آمنوا إن جاءكم فاسق بنبإ فتبينوا أي: فاستظهروا صدقه من كذبه، بطريق آخر كراهة: أن تصيبوا قوما بجهالة أي: قوما براء مما قذفوا به بغية أذيتهم بجهالة لاستحقاقهم إياها، ثم يظهر لكم عدم استحقاقهم: فتصبحوا على ما فعلتم نادمين أي: فتندموا على إصابتكم إياها بالجناية التي تصيبونهم بها، وحق المؤمن أن يحترز مما يخاف منه الندم في العواقب.

                                                                                                                                                                                                                                      تنبيهات:

                                                                                                                                                                                                                                      الأول:- قال ابن كثير : ذكر كثير من المفسرين أن هذه الآية نزلت في الوليد بن عقبة بن أبي معيط، حين بعثه رسول الله صلى الله عليه وسلم على صدقات بني المصطلق. وقد روي ذلك من طرق. ومن أحسنها ما رواه الإمام أحمد في مسنده من رواية مالك عن ابن المصطلق، وهو الحارث بن ضرار والد جويرية أم المؤمنين رضي الله عنها. قال الإمام أحمد: حدثنا محمد بن سابق، حدثنا عيسى بن دينار، حدثني أبي أنه سمع الحارث بن ضرار الخزاعي رضي الله عنه يقول: قدمت على رسول الله صلى الله عليه وسلم، فدعاني إلى الإسلام، فدخلت فيه، وأقررت به، ودعاني إلى الزكاة، فأقررت بها وقلت: يا رسول الله! أرجع إلى قومي فأدعوهم إلى الإسلام، وأداء الزكاة، فمن استجاب لي جمعت زكاته، وأرسل إلي يا رسول الله رسولا إبان كذا وكذا ليأتيك بما جمعت من الزكاة.

                                                                                                                                                                                                                                      فلما جمع الحارث الزكاة ممن استجاب له، وبلغ الإبان الذي أراد رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يبعث إليه، احتبس عليه الرسول، فلم يأته، وظن الحارث أنه قد [ ص: 5448 ] حدث فيه سخطة من الله تعالى ورسوله، فدعا بسروات قومه، فقال لهم: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان وقت لي وقتا يرسل إلي رسوله ليقبض ما كان عندي من الزكاة، وليس من رسول الله الخلف، ولا أرى حبس رسوله إلا من سخطة، فانطلقوا فنأتي رسول الله صلى الله عليه وسلم.

                                                                                                                                                                                                                                      وبعث رسول الله صلى الله عليه وسلم الوليد بن عقبة إلى الحارث ليقبض ما كان عنده مما جمع من الزكاة. فلما أن سار الوليد حتى بلغ بعض الطريق فرق، فرجع حتى أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله! إن الحارث منعني الزكاة، وأراد قتلي. فضرب رسول الله صلى الله عليه وسلم البعث إلى الحارث.

                                                                                                                                                                                                                                      فأقبل الحارث بأصحابه، حتى إذا استقبل البعث، وفصل من المدينة، لقيهم الحارث، فقالوا: هذا الحارث! فلما غشيهم قال لهم: إلى من بعثتم؟ قالوا: إليك. قال: ولم؟ قالوا: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان بعث إليك الوليد بن عقبة، فزعم أنك منعته الزكاة، وأردت قتله! قال: لا، والذي بعث محمدا بالحق، ما رأيته بتة، ولا أتاني. فلما دخل الحارث على رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: « منعت الزكاة، وأردت قتل رسولي؟! » قال: لا، والذي بعثك بالحق! ما رأيته بتة! ولا أتاني! وما أقبلت إلا حين احتبس علي رسول رسول الله صلى الله عليه وسلم! خشيت أن تكون كانت سخطة من الله تعالى ورسوله. فنزلت الحجرات: يا أيها الذين آمنوا إن جاءكم فاسق بنبإ إلى قوله: حكيم


                                                                                                                                                                                                                                      وقال مجاهد وقتادة : أرسل رسول الله صلى الله عليه وسلم الوليد بن عقبة إلى بني المصطلق يتصدقهم، فتلقوه بالصدقة، فرجع فقال: إن بني المصطلق قد جمعت لك لتقاتلك -(زاد قتادة -: وإنهم قد ارتدوا عن الإسلام)، فبعث رسول الله صلى الله عليه وسلم خالد بن الوليد رضي الله عنه إليهم، وأمره أن يتثبت ولا يعجل، فانطلق حتى أتاهم ليلا، فبعث عيونه، فلما جاءوا أخبروا خالدا رضي الله عنه أنهم مستمسكون بالإسلام، وسمعوا أذانهم وصلاتهم. فلما أصبحوا أتاهم خالد رضي الله عنه فرأى الذي يعجبه. فرجع إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخبره الخبر، فأنزل الله تعالى هذه الآية. قال قتادة فكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: « التثبت من الله، والعجلة من الشيطان » . وكذا ذكر غير واحد من السلف، منهم ابن أبي ليلى، ويزيد بن رومان، والضحاك، ومقاتل، [ ص: 5449 ] وغيرهم في هذه الآية، أنها نزلت في الوليد بن عقبة -والله أعلم- انتهى.

                                                                                                                                                                                                                                      قال ابن قتيبة في (المعارف): الوليد بن عقبة بن أبي معيط بن أبي عمرو بن أمية بن عبد شمس، وهو أخو عثمان لأمه أروى بنت كريز . أسلم يوم فتح مكة، وبعثه رسول الله صلى الله عليه وسلم مصدقا إلى بني المصطلق ، فأتاه فقال: منعوني الصدقة! وكان كاذبا. فأنزل الله هذه الآية. وولاه عمر على صدقات بني تغلب ، وولاه عثمان الكوفة بعد سعد بن أبي وقاص، فصلى بأهلها صلاة الفجر، وهو سكران، أربعا، وقال: أزيدكم؟! فشهدوا عليه بشرب الخمر عند عثمان، فعزله وحده. ولم يزل بالمدينة حتى بويع علي، فخرج إلى الرقة فنزلها، واعتزل عليا ومعاوية. ومات بناحية الرقة.

                                                                                                                                                                                                                                      الثاني:- في (الإكليل): في الآية رد خبر الفاسق، واشتراط العدالة في المخبر، راويا كان، أو شاهدا، أو مفتيا. ويستدل بالآية على قبول خبر الواحد العدل . قال ابن كثير : ومن هنا امتنع طوائف من العلماء من قبول رواية مجهول الحال، لاحتمال فسقه في نفس الأمر، وقبلها آخرون، لأنا إنما أمرنا بالتثبت عند خبر الفاسق، وهذا ليس بمحقق الفسق لأنه مجهول الحال.

                                                                                                                                                                                                                                      الثالث:- في قوله تعالى: فتصبحوا على ما فعلتم نادمين فائدتان:

                                                                                                                                                                                                                                      إحداهما- تقرير التحذير وتأكيده. ووجهه هو أنه تعالى لما قال: أن تصيبوا قوما بجهالة قال بعده: وليس ذلك مما لا يلتفت إليه، ولا يجوز للعاقل أن يقول: هب أني أصبت قوما، فماذا علي؟ بل عليكم منه الهم الدائم، والحزن المقيم. ومثل هذا الشيء واجب الاحتراز منه.

                                                                                                                                                                                                                                      والثانية -مدح المؤمنين: أي: لستم، قال المهايمي : إذا فعلوا سيئة لا يلتفتون إليها، بل تصبحون نادمين عليها -أفاده الرازي-.

                                                                                                                                                                                                                                      [ ص: 5450 ]

                                                                                                                                                                                                                                      التالي السابق


                                                                                                                                                                                                                                      الخدمات العلمية