الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                                                                      صفحة جزء
                                                                                                                                                                                                                                      (وأما الثالث) فجوابه أن المنعوت بأنه واحد بالذات تتعدد تعلقاته هو الكلام بمعنى صفة المتكلم، ووحدته مما لا شك لعاقل فيها، وأما الكلام النفسي بمعنى المتكلم به، فليس عنده واحدا بل نص في الإبانة على انقسامه إلى الخبر والأمر والنهي في الأزل، فلا اعتراض، وقال النجم سليمان الطوفي: إنما كان الكلام حقيقة في العبارة مجازا في مدلولها لوجهين: (أحدهما) أن المتبادر إلى فهم أهل اللغة من إطلاق الكلام إنما هو العبارة، والمبادرة دليل الحقيقة، (الثاني) أن الكلام مشتق من الكلم لتأثيره في نفس السامع، والمؤثر فيها إنما هو العبارات لا المعاني النفسية بالفعل، نعم هي مؤثرة للفائدة بالقوة، والعبارة مؤثرة بالفعل، فكانت أولى بأن تكون حقيقة، والأخرى مجازا، وقال المخالفون : استعمل لغة في النفسي والعبارة، (قلنا): نعم، لكن بالاشتراك أو بالحقيقة فيما ذكرناه، وبالمجاز فيما ذكرتموه، والأول ممنوع، قالوا: الأصل في الإطلاق الحقيقة، قلنا: والأصل عدم الاشتراك، ثم أن لفظ الكلام أكثر ما يستعمل في العبارات، والكثرة دليل الحقيقة، وأما قوله تعالى : " يقولون في أنفسهم " فمجاز دل على المعنى النفسي بقرينة (في أنفسهم)، ولو أطلق لما فهم إلا العبارة، وأما قوله تعالى : وأسروا قولكم الآية، فلا حجة فيه، لأن الإسرار خلاف الجهر، وكلاهما عبارة عن أن يكون أرفع صوتا من الآخر، وأما بيت الأخطل، فالمشهور أن البيان، وبتقدير أن يكون الكلام، فهو مجاز عن مادته، وهو التصورات المصححة له، إذ من لم يتصور ما يقول لا يوجد كلاما، ثم هو مبالغة من هذا الشاعر بترجيح الفؤاد على اللسان، انتهى، وفيه ما لا يخفى.

                                                                                                                                                                                                                                      (أما أولا) فلأن ما ادعاه من التبادر إنما هو لكثرة استعماله في اللفظي لمسيس الحاجة إليه، لا لكونه الموضوع له خاصة بدليل استعماله لغة وعرفا في النفسي، والأصل في الإطلاق الحقيقة، وقوله: والأصل عدم الاشتراك، قلنا : نعم، إن أردت به الاشتراك اللفظي، ونحن لا ندعيه، وإنما ندعي الاشتراك المعنوي، وذلك أن الكلام في اللغة بنقل النحويين ما يتكلم به قليلا كان أو كثيرا حقيقة أو حكما، (وأما ثانيا) فلأن ما ادعاه من أن المؤثر في نفس السامع إنما هو العبارات لا المعاني النفسية، الأمر فيه بالعكس، بدليل أن الإنسان إذا سمع كلاما لا يفهم معناه لا تؤثر ألفاظه في نفسه شيئا، وقد يتذكر الإنسان في حالة سروره كلاما يحزنه، وفي حالة حزنه كلاما يسره، فيتأثر بهما، ولا صوت، ولا حرف هناك، وإنما هي حروف وكلمات مخيلة نفسية، وهو الذي عناه الشيخ بالكلام النفسي، وعلى هذا فالسامع في قولهم: لتأثيره في نفس السامع، ليس بقيد، والتأثير في النفس مطلقا معتبر في وجه التسمية، (وأما ثالثا) فلأن ما قاله في قوله تعالى : " يقولون في أنفسهم " من أنه مجاز دل على المعنى النفسي فيه بقرينة " في أنفسهم " ولو أطلق لما فهم إلا العبارة، يرده قوله تعالى: يقولون بأفواههم وفي آية بألسنتهم ما ليس في قلوبهم إذ لو كان مجرد ذكر " في أنفسهم " قرينة على كون القول مجازا في النفسي لكان ذكر بأفواههم و بألسنتهم قرينة على كونه مجازا في العبارة، واللازم باطل فكذا الملزوم، نعم التقييد دليل على [ ص: 16 ] أن القول مشترك معنى بين النفسي واللفظي، وعين به المراد من فرديه فهو لنا لا علينا، (وأما رابعا) فلأن ما ذكره في قوله تعالى : " وأسروا " الآية تحكم بحت لأن السر كما قال الزمخشري : ما حدث به الرجل نفسه أو غيره في مكان خال، ويساعده الكتاب والأثر واللغة، كما لا يخفى على المتتبع، (وأما خامسا) فلأن ما ذكره في بيت الأخطل خطل من وجوه، (أما أولا) فعلى تقدير أن يكون المشهور البيان بدل الكلام يكفينا في البيان لأنه إما اسم مصدر بمعنى ما يبين به، أو مصدر بمعنى التبيين، وعلى الأول هو بمعنى الكلام، ولا فرق بينهما إلا في اللفظ، وعلى الثاني هو مستلزم للكلام النفسي بمعنى المتكلم به، إن كان المراد به التبيين القلبي، أعني ترتيب القلب للكلمات الذهنية على وجه إذا عبر عنها باللسان فهم غيره ما قصده منها، (وأما ثانيا) فلأن قوله - وبتقدير أن يكون إلخ - إقرار بالكلام النفسي من غير شعور.

                                                                                                                                                                                                                                      (وأما ثالثا) فلأن دعوى المجاز تحكم مع كون الأصل في الإطلاق الحقيقة، (وأما رابعا) فلأن دعوى أن ذلك مبالغة من هذا الشاعر خلاف الواقع، بل هو تحقيق من غير مبالغة كما يفهم مما سلف، فما ذكره هذا الشاعر كلمة حكمة سواء نطق بها على بينة من الأمر، أو كانت منه رمية من غير رام، فإن معناه موجود في حديث أبي سعيد: (العينان دليلان والأذنان قمعان، واللسان ترجمان) إلى أن قال: (والقلب ملك فإذا صلح)، الحديث، وفي حديث أبي هريرة : (القلب ملك وله جنود) إلى أن قال: (واللسان ترجمان) الحديث، فما قيل: إن هذا الشاعر نصراني عدو الله تعالى ورسوله فيجب إطراح كلام الله تعالى ورسوله تصحيحا لكلامه، أو حمله على المجاز صيانة لكلمة هذا الشاعر عنه، وأيضا يحتاجون إلى إثبات هذا الشعر، والشهرة غير كافية، فقد فتش ابن الخشاب دواوين الأخطل العتيقة فلم يجد فيها البيت انتهى كلام أوهن وأوهى من بيت العنكبوت، وأنه لأوهن البيوت، (أما أولا) فلأن كلام هذا العدو موافق لكلام الحبيب حتى لكلام المنكرين للكلام النفسي، حيث اعترفوا به في عين إنكارهم، (وأما ثانيا) فلأنا أغنانا الله تعالى ورسوله من فضله عن إثبات هذا الشعر، (وأما ثالثا) فلأن عدم وجدان ابن الخشاب لا يدل على انتفائه بالكلية كما لا يخفى، والحاصل أن الناس أكثروا القال والقيل في حق هذا الشيخ الجليل، وكل ذلك من باب:


                                                                                                                                                                                                                                      وكم من عائب قولا صحيحا وآفته من الفهم السقيم

                                                                                                                                                                                                                                      نعم، البحث دقيق لا يرشد إليه إلا توفيق، كم أسهر أناسا، وأكثر وسواسا وأثار فتنة، وأورث محنة، وسجن أقواما، وأم إماما:


                                                                                                                                                                                                                                      مرام شط مرمى العقل فيه     ودون مداه بيد لا تبيد

                                                                                                                                                                                                                                      ولكن بفضل الله تعالى قد أتينا فيه بلب اللباب، وخلاصة ما ذكره الأصحاب، وقد اندفع به كثير مما أشكل على الأقوام، وخفي على أفهام ذوي الأفهام، ولا حاجة معه إلى ما قاله المولى المرحوم غنى زاده في التخلص عن هاتيك الشبه مما نصه: ثم اعلم أني بعد ما حررت البحث بعثني فرط الإنصاف إلى أنه ينبغي لذي الفطرة السليمة أن يدعي قدم اللفظ لاحتياجه إلى هذه التكلفات، وكذا كون الكلام عبارة عن المعنى القديم لركاكة توصيف الذات به، كيف ومعنى قصة نوح مثلا ليس بشيء يمكن اتصاف الذات به إلا بتمحل بعيد، فالحق الذي لا محيد عنه هو أن المعاني كلها موجودة في العلم الأزلي بوجود علمي قديم، لكن لما كان في ماهية بعضها داعية البروز في الخارج بوجود لفظي حادث حسبما يستدعيه حدوث فيما لا يزال اقتضى الذات اقتضاء أزليا إبراز ذلك البعض في الخارج بذلك الوجود الحادث، فيما لا يزال، فهذا الاقتضاء صفة للذات هو بها في الأزل، مسماة بالكلام [ ص: 17 ] النفسي وأثره الذي هو ظهور المعنى القديم باللفظ الحادث، إنما يكون فيما لا يزال، والمغايرة بينه وبين صفة العلم ظاهرة، وهذا هو غاية الغايات في هذا الباب، والحمد لله على ما خصني بفهمه من بين أرباب الألباب انتهى.

                                                                                                                                                                                                                                      وفيه أنه غاية الغايات في الجسارة على رب الأرباب، وإحداث صفة قديمة ما أنزل الله تعالى بها من كتاب، إذ لم يرد في كتاب الله تعالى ولا في سنة نبيه صلى الله تعالى عليه وسلم، ولا روي عن صحابي ولا تابعي تسمية ذلك الاقتضاء كلاما، بل لا يقتضيه عقل، ولا نقل على أنه لا يحتاج إليه عند من أخذت العناية بيديه، هذا وإذا سمعت ما تلوناه ووعيت ما حققناه، فاسمع الآن تحقيق الحق في كيفية سماع موسى عليه السلام كلام الحق، (فأقول): الذي انتهى إليه كلام أئمة الدين كالماتريدي، والأشعري وغيرهما من المحققين أن موسى عليه السلام سمع كلام الله تعالى بحرف وصوت كما تدل عليه النصوص التي بلغت في الكثرة مبلغا لا ينبغي معه تأويل ولا يناسب في مقابلته قال وقيل، فقد قال تعالى : وناديناه من جانب الطور الأيمن ، وإذ نادى ربك موسى ، نودي من شاطئ الواد الأيمن ، إذ ناداه ربه بالواد المقدس طوى ، نودي أن بورك من في النار ومن حولها ، واللائق بمقتضى اللغة والأحاديث أن يفسر النداء بالصوت بل قد ورد إثبات الصوت لله تعالى شأنه في أحاديث لا تحصى وأخبار لا تستقصى.

                                                                                                                                                                                                                                      روى البخاري في الصحيح: (يحشر الله العباد فيناديهم بصوت يسمعه من بعد كما يسمعه من قرب، أنا الملك أنا الديان)، ومن علم أن لله تعالى الحكيم أن يتجلى بما شاء وكيف شاء، وأنه منزه في تجليه قريب في تعاليه، لا تقيده المظاهر عند أرباب الأذواق إذ له الإطلاق الحقيقي حتى عن قيد الإطلاق، زالت عنه إشكالات واتضحت لديه متشابهات.

                                                                                                                                                                                                                                      ومما يدل على ثبوت التجلي في المظهر لله تعالى قول ابن عباس ترجمان القرآن في قوله تعالى : أن بورك من في النار كما في الدر المنثور يعني تبارك وتعالى نفسه، كان نور رب العالمين في الشجرة، وفي رواية عنه: كان الله في النور، ونودي من النور، وفي صحيح مسلم: (حجابه النور)، وفي رواية له: (حجابه النار)، ودفع الله سبحانه توهم التقييد بما ينافي التنزيه بقوله : (وسبحان الله) أي عن التقييد بالصورة والمكان والجهة، وإن ناداك منها لكونه موصوفا بصفة رب العالمين، فلا يكون ظهوره مقيدا له بل هو المنزه عن التقييد حين الظهور يا موسى إنه أي المنادي المتجلي أنا الله العزيز فلا أتقيد لعزتي، ولكني الحكيم فاقتضت حكمتي الظهور والتجلي في صورة مطلوبك، فالمسموع على هذا صوت وحرف سمعهما موسى عليه السلام من الله تعالى المتجلي بنوره في مظهر النار، لما اقتضته الحكمة، فهو عليه السلام كليم الله تعالى بلا واسطة، لكن من وراء حجاب مظهر النار، وهو عين تجلي الحق تعالى له، وأما ما شاع عن الأشعري من القول بسماع الكلام النفسي القائم بذات الله تعالى، فهو من باب التجويز والإمكان لا أن موسى عليه السلام سمع ذلك بالفعل إذ هو خلاف البرهان، ومما يدل على جواز سماع الكلام النفسي بطريق خرق العادة قوله تعالى في الحديث القدسي: (ولا يزال عبدي يتقرب إلي بالنوافل حتى أحبه، فإذا أحببته كنت سمعه الذي يسمع به) الحديث، ومن الواضح أن الله تبارك وتعالى إذا كان بتجليه النوري المتعلق بالحروف غيبية كانت أو خيالية [ ص: 18 ] أو حسية سمع العبد على الوجه اللائق المجامع لـ ليس كمثله شيء عند من يتحقق معنى الإطلاق الحقيقي صح أن يتعلق سمع العبد بكلام ليس حروفه عارضة لصوت لأنه بالله يسمع إذ ذاك، والله سبحانه يسمع السر والنجوى.

                                                                                                                                                                                                                                      والإمام الماتريدي أيضا يجوز سماع ما ليس بصوت على وجه خرق العادة كما يدل عليه كلام صاحب التبصرة في كتاب التوحيد، فما نقله ابن الهمام عنه من القول بالاستحالة فمراده الاستحالة العادية فلا خلاف بين الشيخين عند التحقيق، ومعنى قول الأشعري أن كلام الله تعالى القائم بذاته يسمع عند تلاوة كل تال، وقراءة كل قارئ أن المسموع أولا وبالذات عند التلاوة إنما هو الكلام اللفظي الذي حروفه عارضة لصوت القارئ بلا شك، لكن الكلمات اللفظية صور الكلمات الغيبية القائمة بذات الحق، فالكلام النفسي مسموع بعين سماع الكلام اللفظي لأنه صورته لا من حيث الكلمات الغيبية، فإنها لا تسمع إلا على طريق خرق العادة، (وقول) الباقلاني: إنما تسمع التلاوة دون المتلو، والقراءة دون المقروء، يمكن حمله على أنه أراد إنما يسمع أولا، وبالذات التلاوة أي المتلو اللفظي الذي حروفه عارضة لصوت التالي لا النفسي الذي حروفه غيبية مجردة عن المواد الحسية والخيالية فلا نزاع في التحقيق أيضا.

                                                                                                                                                                                                                                      والفرق بين سماع موسى عليه السلام كلام الله تعالى، وسماعنا له على هذا أن موسى عليه السلام سمع من الله عز وجل بلا واسطة، لكن من وراء حجاب، ونحن إنما نسمعه من العبد التالي بعين سماع الكلام اللفظي المتلو بلسانه العارض حروفه لصوته، لا من الله تعالى من وراء حجاب العبد، فلا يكون سماعا من الله تعالى بلا واسطة، وهذا واضح عند من له قدم راسخة في العرفان، وظاهر عند من قال بالمظاهر مع تنزيه الملك الديان، وأنت إذا أمعنت النظر في قول أهل السنة : القرآن كلام الله عز وجل غير مخلوق، وهو مقروء بألسنتنا، مسموع بآذاننا، محفوظ في صدورنا، مكتوب في مصاحفنا، غير حال في شيء منها، رأيته قولا بالمظاهر، ودالا على أن تنزل القرآن القديم القائم بذات الله تعالى فيها غير قادح في قدمه لكونه غير حال في شيء منها، مع كون كل منها قرآنا حقيقة شرعية بلا شبهة، وهذا عين الدليل على أن تجلي القديم في مظهر حادث لا ينافي قدمه وتنزيهه، وليس من باب الحلول ولا التجسيم، ولا قيام الحوادث بالقديم، ولا ما يشاكل ذاك من شبهات تعرض لمن لا رسوخ له في هاتيك المسالك، وعنه يظهر معنى ظهور القرآن في صورة الرجل الشاحب يلقى صاحبه حين ينشق عنه القبر، وظهوره خصما لمن حمله فخالف أمره، وخصما دون من حمله فحفظ الأمر، بل من أحاط خبرا بأطراف ما ذكرناه، وطاف فكره المتجرد عن مخبط الهوى في كعبة حرم ما حققناه، اندفع عنه كل إشكال في هذا الباب، ورأى أن تشنيع ابن تيمية، وابن القيم، وابن قدامة، وابن قاضي الجبل، والطوفي، وأبي نصر وأمثالهم صرير باب، أو طنين ذباب، وهم وإن كانوا فضلاء محققين، وأجلاء مدققين [ ص: 19 ] لكنهم كثيرا ما انحرفت أفكارهم، واختلطت أنظارهم، فوقعوا في علماء الأمة، وأكابر الأئمة، وبالغوا في التعنيف، والتشنيع، وتجاوزوا في التسخيف، والتفظيع، ولولا الخروج عن الصدد لوفيتهم الكيل صاعا بصاع، ولتقدمت إليهم بما قدموا باعا بباع، ولعلمتهم كيف يكون الهجاء بحروف الهجاء، ولعرفتهم إلام ينتهي المراء بلا مراء.


                                                                                                                                                                                                                                      فلي فرس للحلم بالحلم ملجم     ولي فرس للجهل بالجهل مسرج
                                                                                                                                                                                                                                      فمن رام تقويمي فإني مقوم     ومن رام تعويجي فإني معوج

                                                                                                                                                                                                                                      على أن العفو أقرب للتقوى، والإغضاء مبنى الفتوة، وعليه الفتوى، والسادة الذين تكلم فيهم هؤلاء إذا مروا باللغو مروا كراما، وإذا خاطبهم الجاهلون قالوا سلاما، وحيث تحرر الكلام في الكلام على مذهب أهل السنة، واندفع عنه بفضل الله تعالى كل محنة ومهنة، فلا بأس بأن نحكي بعض الأقوال كما حكى الله تعالى كثيرا من أقوال ذوي الضلال، وبعد أن رسخ الحق في قلبك، وتغلغل في سويدائه كلام ربك لا أخشى عليك من سماع باطل لا يزيدك إلا حقا، وكاذب لا يورثك إلا صدقا، (فنقول): أما المعتزلة فاتفقوا كافة على أن معنى كونه تعالى متكلما أنه خالق الكلام على وجه لا يعود إليه منه صفة حقيقية كما لا يعود إليه من خلق الأجسام وغيرها صفة حقيقية، واتفقوا أيضا على أن كلام الرب تعالى مركب من الحروف والأصوات، وأنه محدث مخلوق، ثم اختلفوا، فذهب الجبائي وابنه أبو هاشم إلى أنه حادث في محل، ثم زعم الجبائي أن الله تعالى يحدث عند قراءة كل قارئ كلاما لنفسه في محل القراءة، وخالفه الباقون، وذهب أبو الهذيل بن العلاف وأصحابه إلى أن بعضه في محل وهو قوله: كن، وبعضه لا في محل كالأمر، والنهي، والخبر، والاستخبار، وذهب الحسن بن محمد النجار إلى أن كلام الباري إذا قرئ فهو عرض، وإذا كتب فهو جسم، وذهبت الإمامية، والخوارج والحشوية إلى أن كلام الرب تعالى مركب من الحروف والأصوات، ثم اختلف هؤلاء، فذهب الحشوية إلى أنه قديم، أزلي قائم بذات الرب تعالى، لكن منهم من زعم أنه من جنس كلام البشر، وبعضهم قال: لا بل الحرف حرفان، والصوت صوتان، قديم وحادث، والقديم منهما ليس من جنس الحادث، وأما الكرامية فقالوا: إن الكلام قد يطلق على القدرة على التكلم، وقد يطلق على الأقوال والعبارات، وعلى كلا التقديرين فهو قائم بذات الله تعالى، لكن إن كان بالاعتبار الأول فهو قديم متحد لا كثرة فيه، وإن كان بالاعتبار الثاني فهو حادث متكثر، وأما الواقفية فقد أجمعوا على أن كلام الرب تعالى كائن بعد أن لم يكن، لكن منهم من توقف في إطلاق اسم القديم والمخلوق عليه، ومنهم من توقف في إطلاق اسم المخلوق، وأطلق اسم الحادث، ومن القائلين بالحدوث من قال: ليس جوهرا، ولا عرضا، وذهب بعض المعترفين بالصانع إلى أنه لا يوصف بكونه متكلما لا بكلام، ولا بغير كلام، والذي أوقع الناس في حيص بيص أنهم رأوا قياسين متعارضي النتيجة، وهما كلام الله تعالى صفة له، وكل ما هو صفة له فهو قديم، فكلام الله تعالى قديم، وكلام الله تعالى مركب من حروف مرتبة متعاقبة في الوجود، وكل ما هو كذلك فهو حادث، فكلام الله تعالى حادث، فقوم ذهبوا إلى أن كلامه تعالى حروف وأصوات، وهي قديمة، ومنعوا أن كل ما هو مؤلف من حروف وأصوات فهو حادث، ونسب إليهم أشياء هم برآء منها، وآخرون قالوا بحدوث كلامه تعالى، وأنه مؤلف من أصوات وحروف، وهو قائم بغيره، ومعنى كونه متكلما عندهم أنه موجد لتلك الحروف والأصوات في جسم كاللوح، أو ملك كجبريل، أو غير ذلك فهم منعوا أن المؤلف من الحروف والأصوات صفة الله تعالى، وأناس لما رأوا مخالفة الأولين للضرورة الظاهرة [ ص: 20 ] التي هي أشنع من مخالفة الدليل، ومخالفة الآخرين فيما ذهبوا إليه للعرف واللغة، ذهبوا إلى أن كلامه تعالى صفة له، مؤلفة من الحروف والأصوات الحادثة القائمة بذاته تعالى، فهم منعوا أن كل ما هو صفة له تعالى فهو قديم، وجمع قالوا : كلامه تعالى معنى واحد بسيط قائم بذاته تعالى، فهم منعوا أن كلامه تعالى مؤلف من الحروف والأصوات، وكثر في حقهم القال والقيل والنزاع الطويل، وبعضهم تحير، فوقف وحبس ذهنه في مسجد الدهشة، واعتكف، وعندي القياسان صحيحان والنتيجتان صادقتان، ولكل مقام مقال، ولكل كلام أحوال، ولا أظنك تحوجني إلى التفصيل بعد ما وعاه فكرك الجميل، بل ولا تكلفني رد هذه الأقوال الشنيعة التي هي لديك، إذا أخذت العناية بيديك كسراب بقيعة، فليطر شحرور القلم إلى روضة أخرى، وليغرد بها بفائدة لعلها أولى من الإطالة وأحرى، والله سبحانه وتعالى الموفق للصواب، لا رب غيره.

                                                                                                                                                                                                                                      التالي السابق


                                                                                                                                                                                                                                      الخدمات العلمية