الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                                                                      معلومات الكتاب

                                                                                                                                                                                                                                      فتح القدير الجامع بين فني الرواية والدراية

                                                                                                                                                                                                                                      الشوكاني - محمد بن علي بن محمد الشوكاني

                                                                                                                                                                                                                                      صفحة جزء
                                                                                                                                                                                                                                      إنما مثل الحياة الدنيا كماء أنزلناه من السماء فاختلط به نبات الأرض مما يأكل الناس والأنعام حتى إذا أخذت الأرض زخرفها وازينت وظن أهلها أنهم قادرون عليها أتاها أمرنا ليلا أو نهارا فجعلناها حصيدا كأن لم تغن بالأمس كذلك نفصل الآيات لقوم يتفكرون والله يدعو إلى دار السلام ويهدي من يشاء إلى صراط مستقيم للذين أحسنوا الحسنى وزيادة ولا يرهق وجوههم قتر ولا ذلة أولئك أصحاب الجنة هم فيها خالدون والذين كسبوا السيئات جزاء سيئة بمثلها وترهقهم ذلة ما لهم من الله من عاصم كأنما أغشيت وجوههم قطعا من الليل مظلما أولئك أصحاب النار هم فيها خالدون ويوم نحشرهم جميعا ثم نقول للذين أشركوا مكانكم أنتم وشركاؤكم فزيلنا بينهم وقال شركاؤهم ما كنتم إيانا تعبدون فكفى بالله شهيدا بيننا وبينكم إن كنا عن عبادتكم لغافلين هنالك تبلو كل نفس ما أسلفت وردوا إلى الله مولاهم الحق وضل عنهم ما كانوا يفترون لما ذكر الله سبحانه ما تقدم من متاع الدنيا جاء بكلام مستأنف يضمن بيان حالها وسرعة تقضيها ، وأنها تعود بعد أن تملأ الأعين برونقها ، وتجتلب النفوس ببهجتها ، وتحمل أهلها على أن يسفكوا دماء بعضهم بعضا ، ويهتكوا حرمهم حبا لها وعشقا لجمالها الظاهري ، وتكالبا على التمتع بها ، وتهافتا على نيل ما تشتهي الأنفس منها بضرب من التشبيه المركب ، فقال : إنما مثل الحياة الدنيا كماء أنزلناه من السماء إلى آخر الآية .

                                                                                                                                                                                                                                      والمعنى : أن مثلها في سرعة الذهاب والاتصاف بوصف يضاد ما كانت عليه ويباينه ، مثل ما على الأرض من أنواع النبات في زوال رونقه ، وذهاب بهجته ، وسرعة تقضيه ، بعد أن كان غضا مخضرا طريا ، قد تعانقت أغصانه المتمايلة ، وزهت أوراقه المتصافحة ، وتلألأت أنوار نوره ، وحاكت الزهر أنواع زهره ، وليس المشبه به هو ما دخله الكاف في قوله : كماء أنزلناه من السماء بل ما يفهم من الكلام ، والباء في فاختلط به نبات الأرض للسببية : أي فاختلط بسببه نبات الأرض بأن اشتبك بعضه ببعض حتى بلغ إلى حد الكمال ، ويحتمل أن يراد أن النبات كان في أول بروزه ، ومبدأ حدوثه ، غير مهتز ولا مترعرع ، فإذا نزل الماء عليه اهتز وربا حتى اختلط بعض الأنواع ببعض مما يأكل الناس والأنعام من الحبوب والثمار والكلأ والتبن وأخذت الأرض زخرفها .

                                                                                                                                                                                                                                      قال في الصحاح الزخرف : الذهب ، ثم يشبه به كل مموه مزور انتهى .

                                                                                                                                                                                                                                      والمعنى : أن الأرض أخذت لونها الحسن المشابه بعضه للون الذهب ، وبعضه للون الفضة ، وبعضه للون الياقوت ، وبعضه للون الزمرد .

                                                                                                                                                                                                                                      وأصل ازينت : تزينت أدغمت التاء في الزاي وجيء بألف الوصل لأن الحرف المدغم مقام حرفين أولهما ساكن ، والساكن لا يمكن الابتداء به .

                                                                                                                                                                                                                                      وقرأ ابن مسعود وأبي بن كعب " وتزينت " على الأصل .

                                                                                                                                                                                                                                      وقرأ الحسن ، والأعرج ، وأبو العالية " وأزينت " على وزن أفعلت : أي أزينت الزينة التي عليها ، شبهها بالعروس التي تلبس الثياب الجيدة المتلونة ألوانا كثيرة .

                                                                                                                                                                                                                                      وقال عوف بن أبي جميلة : قرأ أشياخنا " وازيانت " على وزن اسوادت ، وفي رواية المقدمي " وازاينت " والأصل فيه تزاينت على وزن تفاعلت .

                                                                                                                                                                                                                                      وقرأ الشعبي ، وقتادة ، " ازينت " ومعنى هذه القراءات كلها هو ما ذكرنا وظن أهلها أنهم قادرون عليها أي غلب على ظنونهم أو تيقنوا أنهم قادرون على حصادها والانتفاع بها ، والضمير في ( عليها ) للأرض ، والمراد النبات الذي هو عليها أتاها أمرنا جواب إذا ، أي جاءها أمرنا بإهلاكها واستئصالها وضربها ببعض العاهات فجعلناها حصيدا أي جعلنا زرعها شبيها بالمحصود في قطعه من أصوله .

                                                                                                                                                                                                                                      قال أبو عبيدة : الحصيد : المستأصل .

                                                                                                                                                                                                                                      كأن لم تغن بالأمس أي : كأن لم يكن زرعها موجودا فيها بالأمس مخضرا طريا ، من غني بالمكان بالكسر يغنى بالفتح إذا أقام به ، والمراد بالأمس الوقت القريب ، والمغاني في اللغة المنازل .

                                                                                                                                                                                                                                      وقال قتادة : كأن لم تنعم ، قال لبيد :


                                                                                                                                                                                                                                      غنيت سبتا قبل مجرى داحس لو كان للنفس اللجوج خلود

                                                                                                                                                                                                                                      وقرأ قتادة ، " كأن لم يغن " بالتحتية بإرجاع الضمير [ ص: 620 ] إلى الزخرف .

                                                                                                                                                                                                                                      وقرأ من عداه تغن بالفوقية بإرجاع الضمير إلى الأرض كذلك أي مثل ذلك التفصيل البديع نفصل الآيات القرآنية التي من جملتها هذه الآية لعلهم يتفكرون فيما اشتملت عليه ، ويجوز أن يراد الآيات التكوينية .

                                                                                                                                                                                                                                      قوله : والله يدعو إلى دار السلام لما نفر عباده عن الميل إلى الدنيا بما ضربه لهم من المثل السابق ، رغبهم في الدار الآخرة بإخبارهم بهذه الدعوة منه عز وجل إلى دار السلام ، قال الحسن وقتادة : السلام هو الله تعالى ، وداره الجنة .

                                                                                                                                                                                                                                      وقال الزجاج : المعنى : والله يدعو إلى دار السلامة .

                                                                                                                                                                                                                                      ومعنى السلام والسلامة واحد كالرضاع والرضاعة ، ومنه قول الشاعر :


                                                                                                                                                                                                                                      تحيي بالسلامة أم بكر     وهل لك بعد قومك من سلام

                                                                                                                                                                                                                                      وقيل : أراد دار السلام الذي هو التحية ، لأن أهلها ينالون من الله السلام بمعنى التحية كما في قوله : تحيتهم فيها سلام [ يونس : 10 ] ، وقيل : السلام اسم لأحد الجنان السبع : أحدها : دار السلام ، والثانية : دار الجلال ، والثالثة : جنة عدن ، والرابعة : جنة المأوى ، والخامسة : جنة الخلد ، والسادسة : جنة الفردوس ، والسابعة : جنة النعيم .

                                                                                                                                                                                                                                      وقيل : المراد دار السلام الواقع من المؤمنين بعضهم على بعض في الجنة ، وقد اتفقوا على أن دار السلام هي الجنة ، وإنما اختلفوا في سبب التسمية بدار السلام ويهدي من يشاء إلى صراط مستقيم جعل سبحانه الدعوة إلى دار السلام عامة ، والهداية خاصة بمن يشاء أن يهديه تكميلا للحجة وإظهارا للاستغناء عن خلقه .

                                                                                                                                                                                                                                      ثم قسم سبحانه أهل الدعوة إلى قسمين ، وبين حال كل طائفة فقال : للذين أحسنوا الحسنى وزيادة أي الذين أحسنوا بالقيام بما أوجبه الله عليهم من الأعمال ، والكف عما نهاهم عنه من المعاصي ، والمراد بالحسنى المثوبة الحسنى .

                                                                                                                                                                                                                                      قال ابن الأنباري : العرب توقع هذه اللفظة على الخصلة المحبوبة المرغوب فيها ، ولذلك ترك موصوفها ، وقيل : المراد بالحسنى الجنة ، وأما الزيادة فقيل : المراد بها : ما يزيد على المثوبة من التفضل كقوله : ليوفيهم أجورهم ويزيدهم من فضله وقيل : الزيادة النظر إلى وجهه الكريم ، وقيل : الزيادة هي مضاعفة الحسنة إلى عشر أمثالها ، وقيل : الزيادة غرفة من لؤلؤ ، وقيل : الزيادة مغفرة من الله ورضوان ، وقيل : هي أنه سبحانه يعطيهم في الدنيا من فضله ما لا يحاسبهم عليه ، وقيل غير ذلك مما لا فائدة في ذكره ، وسيأتي بيان ما هو الحق في آخر البحث ولا يرهق وجوههم قتر ولا ذلة معنى يرهق يلحق ، ومنه قيل : غلام مراهق إذا لحق بالرجال ، وقيل : يعلو ، وقيل : يغشى ، والمعنى متقارب ، والقتر : الغبار ، ومنه قول الفرزدق :


                                                                                                                                                                                                                                      متوج برداء الملك يتبعه     موج ترى فوقه الرايات والقترا

                                                                                                                                                                                                                                      وقرأ الحسن " قتر " بإسكان المثناة ، والمعنى واحد ، قاله النحاس ، وواحد القتر قترة ، والذلة : ما يظهر على الوجه من الخضوع والانكسار والهوان ، والمعنى : أنه لا يعلو وجوههم غبرة ولا يظهر فيها هوان ، وقيل : القتر الكآبة ، وقيل : سواد الوجوه ، وقيل : هو دخان النار أولئك أصحاب الجنة هم فيها خالدون الإشارة إلى المتصفين بالصفات السابقة هم أصحاب الجنة الخالدون فيها المتنعمون بأنواع نعيمها .

                                                                                                                                                                                                                                      والذين كسبوا السيئات جزاء سيئة بمثلها هذا الفريق الثاني من أهل الدعوة ، وهو معطوف على للذين أحسنوا كأنه قيل : وللذين كسبوا السيئات جزاء سيئة بمثلها ، أو يقدر : وجزاء الذين كسبوا السيئات جزاء سيئة بمثلها : أي يجازى سيئة واحدة بسيئة واحدة لا يزاد عليها ، وهذا أولى من الأول لكونه من باب العطف على معمولي عاملين مختلفين ، والمراد بالسيئة إما الشرك أو المعاصي التي ليست بشرك ، وهي ما يتلبس به العصاة من المعاصي ، قال ابن كيسان : الباء زائدة ، والمعنى : جزاء سيئة مثلها ، وقيل : الباء مع ما بعدها الخبر ، وهي متعلقة بمحذوف قامت مقامه ، والمعنى : جزاء سيئة كائن بمثلها كقولك إنما أنا بك ، ويجوز أن يتعلق بـ ( جزاء ) والتقدير : جزاء سيئة بمثلها كائن فحذف خبر المبتدأ ، ويجوز أن يكون جزاء مرفوعا على تقدير فلهم جزاء سيئة فيكون مثل قوله : فعدة من أيام أخر [ البقرة : 184 ] أي فعليه عدة ، والباء على هذا التقدير متعلقة بمحذوف كأنه قال لهم جزاء سيئة ثابت بمثلها ، أو تكون مؤكدة أو زائدة .

                                                                                                                                                                                                                                      قوله : ترهقهم ذلة أي يغشاهم هوان وخزي .

                                                                                                                                                                                                                                      وقرئ " يرهقهم " بالتحتية ما لهم من الله من عاصم أي لا يعصمهم أحد - كائنا من كان - من سخط الله وعذابه ، أو ما لهم من جهة الله ومن عنده من يعصمهم كما يكون للمؤمنين ، والأول أولى ، والجملة في محل نصب على الحالية ، أو مستأنفة كأنما أغشيت وجوههم قطعا من الليل مظلما قطعا جمع قطعة ، وعلى هذا يكون مظلما منتصبا على الحال من الليل : أي أغشيت وجوههم قطعا من الليل في حالة ظلمته .

                                                                                                                                                                                                                                      وقد قرأ بالجمع جمهور القراء .

                                                                                                                                                                                                                                      وقرأ الكسائي وابن كثير " قطعا " بإسكان الطاء ، فيكون ( مظلما ) على هذا صفة ل ( قطعا ) ، ويجوز أن يكون حالا من الليل .

                                                                                                                                                                                                                                      قال ابن السكيت : القطع طائفة من الليل أولئك أي الموصوفون بهذه الصفات الذميمة أصحاب النار هم فيها خالدون وإطلاق الخلود هنا مقيد بما تواتر في السنة من خروج عصاة الموحدين .

                                                                                                                                                                                                                                      قوله : ويوم نحشرهم جميعا الحشر الجمع ، و جميعا منتصب على الحال ، و يوم منصوب بمضمر : أي أنذرهم يوم نحشرهم ، والجملة مستأنفة لبيان بعض أحوالهم القبيحة .

                                                                                                                                                                                                                                      والمعنى : أن الله سبحانه يحشر العابد والمعبود لسؤالهم ثم نقول للذين أشركوا في حالة الحشر ووقت الجمع تقريعا لهم على رؤوس الأشهاد ، وتوبيخا لهم من حضور من يشاركهم في العبادة ، وحضور معبوداتهم مكانكم أي : الزموا مكانكم واثبتوا فيه وقفوا في موضعكم أنتم وشركاؤكم على أن [ ص: 621 ] الواو واو مع .

                                                                                                                                                                                                                                      قوله : فزيلنا بينهم : أي فرقنا وقطعنا ما كان بينهم من التواصل في الدنيا : يقال زيلته فتزيل : أي فرقته فتفرق ، والمزايلة المفارقة ، يقال : زايله مزايلة وزيالا إذا فارقه ، والتزايل التباين .

                                                                                                                                                                                                                                      قال الفراء : وقرأ بعضهم " فزايلنا " والمراد بالشركاء هنا : الملائكة ، وقيل : الشياطين ، وقيل : الأصنام ، وإن الله سبحانه ينطقها في هذا الوقت .

                                                                                                                                                                                                                                      وقيل : المسيح ، وعزير ، والظاهر أنه كل معبود للمشركين كائنا ما كان ، وجملة وقال شركاؤهم ما كنتم إيانا تعبدون في محل نصب على الحال بتقدير قد ، والمعنى : وقد قال شركاؤهم الذين عبدوهم وجعلوهم شركاء لله سبحانه ( ما كنتم إيانا تعبدون ) ، وإنما عبدتم هواكم وضلالكم وشياطينكم الذين أغووكم ، وإنما أضاف الشركاء إليهم مع أنهم جعلوهم شركاء لله سبحانه ، لكونهم جعلوا لهم نصيبا من أموالهم ، فهم شركاؤهم في أموالهم من هذه الحيثية; وقيل : لكونهم شركاؤهم في هذا الخطاب ، وهذا الجحد من الشركاء وإن كان مخالفا لما قد وقع من المشركين من عبادتهم ، فمعناه إنكار عبادتهم إياهم عن أمرهم لهم بالعبادة .

                                                                                                                                                                                                                                      فكفى بالله شهيدا بيننا وبينكم إن كنا أمرنا بعبادتنا أو رضينا ذلك منكم إن كنا عن عبادتكم لغافلين ، إن هي المخففة من الثقيلة ، واللام هي الفارقة بينها وبين النافية ، والقائل لهذا الكلام هم المعبودون .

                                                                                                                                                                                                                                      قالوا لمن عبدهم من المشركين : إنا كنا عن عبادتكم لنا لغافلين ، والمراد بالغفلة هنا : عدم الرضا بما فعله المشركون من العبادة لهم ، وفي هذا دليل على أن هؤلاء المعبودين غير الشياطين لأنهم لا يرضون بما فعله المشركون من عبادتهم ، ويمكن أن يكونوا من الشياطين ، ويحمل هذا الجحد منهم على أنهم لم يجبروهم على عبادتهم ولا أكرهوهم عليها .

                                                                                                                                                                                                                                      هنالك تبلو كل نفس ما أسلفت أي في ذلك المكان وفي ذلك الموقف ، أو في ذلك الوقت ، على استعارة اسم الزمان للمكان ، تذوق كل نفس وتختبر جزاء ما أسلفت من العمل ، فمعنى تبلو تذوق وتختبر ، وقيل : تعلم ، وقيل : تتبع ، وهذا على قراءة من قرأ تبلو بالمثناة الفوقية بإسناد الفعل إلى كل نفس ، وأما على قراءة من قرأ " نبلو " بالنون ، فالمعنى : أن الله يبتلي كل نفس ويختبرها ، ويكون ( ما أسلفت ) بدلا من ( كل نفس ) .

                                                                                                                                                                                                                                      والمعنى : أنه يعاملها معاملة من يختبرها ويتفقد أحوالها .

                                                                                                                                                                                                                                      قوله : وردوا إلى الله مولاهم الحق معطوف على ( زيلنا ) ، والضمير في ( ردوا ) عائد إلى الذين أشركوا : أي ردوا إلى جزائه ، وما أعد لهم من عقابه ، ومولاهم : ربهم ، و ( الحق ) صفة له : أي الصادق الربوبية دون ما اتخذوه من المعبودات الباطلة ، وقرئ " الحق " بالنصب على المدح كقولهم : الحمد لله أهل الحمد ، وضل عنهم ما كانوا يفترون أي ضاع وبطل ما كانوا يفترون من أن الآلهة التي لهم حقيقة بالعبادة ، لتشفع لهم إلى الله وتقربهم إليه .

                                                                                                                                                                                                                                      والحاصل أن هؤلاء المشركين يرجعون في ذلك المقام إلى الحق ، ويعترفون به ، ويقرون به ، ويقرون ببطلان ما كانوا يعبدونه ويجعلونه إلها ، ولكن حين لا ينفعهم ذلك .

                                                                                                                                                                                                                                      وقد أخرج ابن جرير ، وابن المنذر ، عن ابن عباس ، في قوله : فاختلط به نبات الأرض قال : اختلط فنبت بالماء كل لون مما يأكل الناس كالحنطة والشعير ، وسائر حبوب الأرض والبقول والثمار ، وما تأكله الأنعام والبهائم من الحشيش والمراعي .

                                                                                                                                                                                                                                      وأخرج عبد الرزاق ، وابن جرير ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم ، وأبو الشيخ ، عن قتادة ، في قوله : وازينت قال : أنبتت وحسنت ، وفي قوله : كأن لم تغن بالأمس قال : كأن لم تعش كأن لم تنعم .

                                                                                                                                                                                                                                      وأخرج ابن جرير ، عن أبي بن كعب وابن عباس ، ومروان بن الحكم ، أنهم كانوا يقرءون بعد قوله : وظن أهلها أنهم قادرون عليها وما كان الله ليهلكها إلا بذنوب أهلها .

                                                                                                                                                                                                                                      وأخرج ابن جرير ، وابن المنذر ، عن أبي سلمة بن عبد الرحمن : أنه كان يقرأ ( وما أهلكناها إلا بذنوب أهلها ) ، كذلك نفصل الآيات .

                                                                                                                                                                                                                                      وأخرج ابن المنذر ، وأبو الشيخ ، عن أبي مجلز قال : كان مكتوبا في سورة يونس إلى حيث هذه الآية : حتى إذا أخذت الأرض زخرفها إلى يتفكرون ، ولو أن لابن آدم واديين من مال لتمنى واديا ثالثا ، ولا يشبع نفس ابن آدم إلا التراب ، ويتوب الله على من تاب ، فمحيت .

                                                                                                                                                                                                                                      وأخرج أبو نعيم ، والدمياطي في معجمه ، من طريق الكلبي ، عن أبي صالح ، عن ابن عباس ، في قوله : والله يدعو إلى دار السلام يقول : يدعو إلى عمل الجنة .

                                                                                                                                                                                                                                      والله : السلام ، والجنة : داره .

                                                                                                                                                                                                                                      وأخرج عبد الرزاق ، وابن جرير ، وابن أبي حاتم ، وأبو الشيخ ، عن قتادة ، نحوه .

                                                                                                                                                                                                                                      وأخرج ابن أبي حاتم ، عن أبي العالية في قوله : ويهدي من يشاء قال : يهديهم للمخرج من الشبهات والفتن والضلالات .

                                                                                                                                                                                                                                      وأخرج أحمد ، وابن جرير ، وابن أبي حاتم ، وأبو الشيخ ، والحاكم وصححه ، وابن مردويه ، والبيهقي في الشعب ، عن أبي الدرداء قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - : ما من يوم طلعت شمسه إلا وكل بجنبتيها ملكان يناديان نداء يسمعه خلق الله كلهم إلا الثقلين : يا أيها الناس هلموا إلى ربكم فما قل وكفى خير مما كثر وألهى ، ولا آبت شمسه إلا وكل بجنبتيها ملكان يناديان نداء يسمعه خلق الله كلهم غير الثقلين : اللهم أعط منفقا خلفا ، وأعط ممسكا تلفا والليل إذا يغشى والنهار إذا تجلى إلى قوله : للعسرى .

                                                                                                                                                                                                                                      وأخرج ابن جرير ، والحاكم وصححه ، وابن مردويه ، والبيهقي في الدلائل ، عن سعيد بن أبي هلال سمعت أبا جعفر محمد بن علي وتلا : والله يدعو إلى دار السلام ويهدي من يشاء إلى صراط مستقيم فقال : حدثني جابر قال : خرج علينا رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - يوما فقال : إني رأيت في المنام كأن جبريل عند رأسي ، وميكائيل عند رجلي ، يقول أحدهما لصاحبه : اضرب له مثلا ، فقال : اسمع سمعت أذنك ، واعقل عقل قلبك ، إنما مثلك ومثل أمتك مثل ملك اتخذ دارا ، ثم بنى فيها بيتا ، ثم جعل فيها مأدبة ، ثم بعث رسولا يدعو الناس إلى طعامه ، فمنهم من أجاب الرسول ، ومنهم من ترك ، فالله هو الملك ، والدار [ ص: 622 ] الإسلام ، والبيت الجنة ، وأنت يا محمد رسول ، فمن أجابك دخل الإسلام ، ومن دخل الإسلام دخل الجنة ، ومن دخل الجنة أكل منها .

                                                                                                                                                                                                                                      وقد روي معنى هذا من طرق .

                                                                                                                                                                                                                                      وأخرج أحمد في الزهد ، وابن جرير ، وابن أبي حاتم ، عن قتادة ، في قوله : والله يدعو إلى دار السلام قال : ذكر لنا أن في التوراة مكتوبا : يا باغي الخير هلم ، ويا باغي الشر اتقه .

                                                                                                                                                                                                                                      وأخرج أبو الشيخ ، عن الحسن أنه كان إذا قرأ والله يدعو إلى دار السلام قال : لبيك ربنا وسعديك .

                                                                                                                                                                                                                                      وأخرج أحمد ، ومسلم ، والترمذي ، وابن ماجه ، وابن خزيمة ، وابن جرير ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم ، وأبو الشيخ ، وغيرهم عن صهيب أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم تلا هذه الآية للذين أحسنوا الحسنى وزيادة قال : إذا دخل أهل الجنة الجنة ، وأهل النار النار ، نادى مناد : يا أهل الجنة إن لكم عند الله موعدا يريد أن ينجزكموه ، فيقولون : وما هو ؟ ألم يثقل موازيننا ، ويبيض وجوهنا ، ويدخلنا الجنة ، ويزحزحنا عن النار; قال : فيكشف لهم الحجاب فينظرون إليه ، فوالله ما أعطاهم الله شيئا أحب إليهم من النظر إليه ، ولا أقر لأعينهم .

                                                                                                                                                                                                                                      وأخرج ابن جرير ، وابن أبي حاتم ، والدارقطني في الرؤية ، وابن مردويه ، عن أبي موسى عن رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - : إن الله يبعث يوم القيامة مناديا ينادي بصوت يسمعه أولهم وآخرهم : إن الله وعدكم الحسنى وزيادة فالحسنى الجنة ، والزيادة النظر إلى وجه الرحمن .

                                                                                                                                                                                                                                      وأخرج ابن جرير ، وابن مردويه ، والبيهقي في الرؤية ، عن كعب بن عجرة عن النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - في قوله : للذين أحسنوا الحسنى وزيادة قال : الزيادة النظر إلى وجه الرحمن .

                                                                                                                                                                                                                                      وأخرج هؤلاء والدارقطني ، وابن أبي حاتم ، عن أبي بن كعب أنه سأل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم عن قوله : للذين أحسنوا الحسنى وزيادة قال : الذين أحسنوا : أهل التوحيد ، والحسنى : الجنة ، والزيادة : النظر إلى وجه الله .

                                                                                                                                                                                                                                      وأخرج ابن مردويه ، عن ابن عمر مرفوعا نحوه .

                                                                                                                                                                                                                                      وأخرج أبو الشيخ ، والدارقطني ، وابن مردويه ، والخطيب ، وابن النجار ، عن أنس مرفوعا نحوه .

                                                                                                                                                                                                                                      وأخرج أبو الشيخ ، عن أبي هريرة نحوه .

                                                                                                                                                                                                                                      وأخرج ابن أبي شيبة ، وابن جرير ، وابن خزيمة ، وابن المنذر ، وأبو الشيخ ، والدارقطني ، وابن مردويه ، والبيهقي ، عن أبي بكر الصديق في الآية قال : الحسنى الجنة ، والزيادة النظر إلى وجه الله .

                                                                                                                                                                                                                                      وأخرج ابن مردويه ، من طريق الحارث ، عن علي بن أبي طالب في الآية مثله .

                                                                                                                                                                                                                                      وأخرج ابن أبي شيبة ، وابن جرير ، وابن المنذر ، وأبو الشيخ ، والدارقطني ، والبيهقي ، عن حذيفة في الآية قال : الزيادة النظر إلى وجه الله .

                                                                                                                                                                                                                                      وأخرج ابن جرير ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم ، وأبو الشيخ ، والدارقطني ، والبيهقي ، عن أبي موسى نحوه .

                                                                                                                                                                                                                                      وأخرج ابن مردويه ، والبيهقي في الأسماء والصفات ، من طريق عكرمة عن ابن عباس ، نحوه .

                                                                                                                                                                                                                                      وأخرج ابن أبي حاتم ، واللالكائي عن ابن مسعود نحوه .

                                                                                                                                                                                                                                      وأخرج سعيد بن منصور ، وابن جرير ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم ، وأبو الشيخ ، والبيهقي عن علي قال : الزيادة غرفة من لؤلؤة واحدة لها أربعة أبواب غرفها وأبوابها من لؤلؤة واحدة .

                                                                                                                                                                                                                                      وأخرج ابن جرير ، عن ابن عباس ، في قوله : وزيادة قال : هو مثل قوله : ولدينا مزيد [ ق : 35 ] يقول : يجزيهم بعملهم ، ويزيدهم من فضله .

                                                                                                                                                                                                                                      وقال : من جاء بالحسنة فله عشر أمثالها [ الأنعام : 160 ] .

                                                                                                                                                                                                                                      وقد روي عن التابعين ومن بعدهم روايات في تفسير الزيادة غالبها أنها النظر إلى وجه الله سبحانه .

                                                                                                                                                                                                                                      وقد ثبت التفسير بذلك من قول رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - فلم يبق حينئذ لقائل مقال ، ولا التفات إلى المجادلات الواقعة بين المتمذهبة الذين لا يعرفون من السنة المطهرة ما ينتفعون به ، فإنهم لو عرفوا ذلك لكفوا عن كثير من هذيانهم ، والله المستعان .

                                                                                                                                                                                                                                      وأخرج ابن جرير ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم ، عن ابن عباس ، في قوله : ولا يرهق وجوههم قال : لا يغشاهم قتر قال : سواد الوجوه .

                                                                                                                                                                                                                                      وأخرج أبو الشيخ ، عن عطاء في الآية قال : القتر سواد الوجه .

                                                                                                                                                                                                                                      وأخرج ابن أبي حاتم ، عن مجاهد في الآية قال : خزي .

                                                                                                                                                                                                                                      وأخرج أبو الشيخ ، وابن مردويه ، عن صهيب عن النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - ولا يرهق وجوههم قتر ولا ذلة قال : بعد نظرهم إليه عز وجل .

                                                                                                                                                                                                                                      وأخرج أبو الشيخ ، عن السدي ، في قوله : والذين كسبوا السيئات قال : الذين عملوا الكبائر جزاء سيئة بمثلها قال : النار كأنما أغشيت وجوههم قطعا من الليل مظلما القطع : السواد ، نسختها الآية في البقرة بلى من كسب سيئة [ البقرة : 81 ] الآية .

                                                                                                                                                                                                                                      وأخرج ابن جرير ، عن ابن عباس ، في قوله : وترهقهم ذلة قال : تغشاهم ذلة وشدة .

                                                                                                                                                                                                                                      وأخرج ابن أبي حاتم ، وأبو الشيخ ، عنه في قوله : ما لهم من الله من عاصم يقول : من مانع .

                                                                                                                                                                                                                                      وأخرج ابن جرير ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم ، وأبو الشيخ ، عن مجاهد في قوله : ويوم نحشرهم قال : الحشر الموت .

                                                                                                                                                                                                                                      وأخرج ابن أبي حاتم ، وأبو الشيخ ، عن ابن زيد في قوله : فزيلنا بينهم قال : فرقنا بينهم .

                                                                                                                                                                                                                                      وأخرج ابن أبي شيبة ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم ، وأبو الشيخ ، عن مجاهد قال : تنصب الآلهة التي كانوا يعبدونها من دون الله ، فيقول : هؤلاء الذين كنتم تعبدون من دون الله ؟ فيقولون : نعم هؤلاء الذين كنا نعبد ، فتقول لهم الآلهة : والله ما كنا نسمع ولا نبصر ولا نعقل ولا نعلم أنكم كنتم تعبدوننا ، فيقولون : بلى والله لإياكم كنا نعبد ، فتقول لهم الآلهة : فكفى بالله شهيدا بيننا وبينكم إن كنا عن عبادتكم لغافلين .

                                                                                                                                                                                                                                      وأخرج ابن مردويه ، عن ابن مسعود قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - : يمثل لهم يوم القيامة ما كانوا يعبدون من دون الله ، فيتبعونهم حتى يوردوهم النار ، ثم تلا رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - هنالك تبلو كل نفس ما أسلفت .

                                                                                                                                                                                                                                      وأخرج أبو الشيخ ، عن السدي ، هنالك تبلو يقول تتبع .

                                                                                                                                                                                                                                      وأخرج ابن أبي شيبة ، وابن جرير ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم ، وأبو الشيخ ، عن مجاهد قال : تبلو تختبر .

                                                                                                                                                                                                                                      وأخرج ابن جرير ، وأبو الشيخ ، عن ابن زيد تبلو قال : تعاين كل نفس ما أسلفت ما عملت وضل عنهم ما كانوا يفترون ما كانوا يدعون معه من الأنداد .

                                                                                                                                                                                                                                      وأخرج أبو الشيخ ، عن السدي ، في قوله : [ ص: 623 ] وردوا إلى الله مولاهم الحق قال : نسخها قوله : الله مولى الذين آمنوا وأن الكافرين لا مولى لهم [ محمد : 11 ] .

                                                                                                                                                                                                                                      التالي السابق


                                                                                                                                                                                                                                      الخدمات العلمية