الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                      صفحة جزء
                                      قال المصنف رحمه الله تعالى ( الحج ركن من أركان الإسلام ، وفرض من فروضه لما روى ابن عمر رضي الله عنهما قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : { بني الإسلام على خمس : شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله وإقام الصلاة وإيتاء الزكاة وحج البيت وصوم رمضان } وفي العمرة قولان ( قال ) في الجديد : هي فرض لما روت عائشة قالت { : قلت : يا رسول الله هل على النساء جهاد ؟ قال : جهاد لا قتال فيه ، الحج والعمرة } ( وقال ) في القديم : ليس بفرض لما روى جابر { أن النبي صلى الله عليه وسلم سئل عن العمرة أهي واجبة ؟ قال : لا وأن تعتمر خير لك } والصحيح [ هو ] الأول ; لأن هذا الحديث رفعه ابن لهيعة ، وهو ضعيف فيما ينفرد به )

                                      التالي السابق


                                      ( الشرح ) حديث ابن عمر رواه البخاري ومسلم ، وجاء في الصحيحين " والحج وصوم رمضان " وجاء " وصوم رمضان والحج " وكلاهما صحيح ، والواو لا تقتضي ترتيبا ، وسمعه ابن عمر مرتين ، فرواه بهما وإنما استدل المصنف به ولم يستدل بقول الله - تعالى - : { ولله على الناس حج البيت } ; لأن مراده الاستدلال على كونه ركنا ، ولا تحصل الدلالة لهذا من الآية ، وإنما تحصل من الحديث ( وأما ) حديث عائشة فرواه ابن ماجه والبيهقي وغيرهما بأسانيد صحيحة ، وإسناد ابن ماجه على شرط البخاري ومسلم ، واستدل البيهقي لوجوب العمرة بحديث عمر بن الخطاب [ ص: 9 ] رضي الله عنه في قصة السائل الذي سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الإيمان والإسلام ، وهو جبريل عليه السلام { فقال له النبي صلى الله عليه وسلم : الإسلام أن تشهد أن لا إله إلا الله ، وأن محمدا رسول الله وأن تقيم الصلاة ، وتؤتي الزكاة ، وتحج البيت وتعتمر ، وتغتسل من الجنابة وتتم الوضوء ، وتصوم رمضان ، قال : فإن قلت هذا فأنا مسلم ؟ قال : نعم ، قال : صدقت } وذكر الحديث . هكذا رواه البيهقي وقال : ( رواه مسلم في الصحيح ولم يسق متنه ) هذا كلام البيهقي وليس هذا اللفظ على هذا الوجه في صحيح مسلم ولا العمرة والغسل من الجنابة والوضوء فيه في هذا الحديث ذكر ، لكن الإسناد به للبيهقي موجود من صحيح مسلم وروى الدارقطني هذا اللفظ الذي رواه البيهقي بحروفه ، ثم قال : هذا إسناد صحيح ثابت واحتج البيهقي أيضا بما رواه بإسناده عن أبي رزين العقيلي الصحابي رضي الله عنه قال { : يا رسول الله إن أبي شيخ كبير لا يستطيع الحج والعمرة ، ولا الظعن ، قال : حج عن أبيك واعتمر } قال البيهقي : ( قال مسلم بن الحجاج : سمعت أحمد بن حنبل يقول : لا أعلم في إيجاب العمرة أجود من حديث أبي رزين هذا ولا أصح منه ) هذا كلام البيهقي وحديث أبي رزين هذا صحيح رواه أبو داود والترمذي والنسائي وابن ماجه وغيرهم بأسانيد صحيحة ، قال الترمذي : هو حديث حسن صحيح .

                                      ( وأما ) حديث جابر { أن النبي صلى الله عليه وسلم سئل عن العمرة أواجبة هي ؟ قال : لا وأن تعتمر خير لك } فرواه الترمذي في جامعه من رواية الحجاج هو ابن أرطاة عن محمد بن المنكدر عن جابر { أن النبي صلى الله عليه وسلم سئل عن العمرة أواجبة هي ؟ قال : لا وأن تعتمر فهو أفضل } قال الترمذي : هذا حديث حسن صحيح ، قال الترمذي : قال الشافعي : العمرة سنة لا نعلم أحدا رخص في تركها ، وليس فيها شيء ثابت بأنها واجبة ، قال الشافعي : وقد روي عن النبي صلى الله عليه وسلم وهو ضعيف لا تقوم بمثله الحجة ، وقد بلغنا عن ابن عباس أنه كان يوجبها ، هذا آخر كلام الترمذي ، وقد روى البيهقي بإسناده هذا الحديث عن [ ص: 10 ] الحجاج هو ابن أرطاة عن محمد بن المنكدر عن جابر { أن النبي صلى الله عليه وسلم سئل عن العمرة أواجبة ؟ قال : لا ، وأن تعتمر خير لك } قال البيهقي : كذا رواه الحجاج بن أرطاة مرفوعا ، والمحفوظ إنما هو عن جابر موقوف عليه غير مرفوع ، قال : وروي عن جابر مرفوعا بخلاف ذلك ، قال : وكلاهما ضعيف ، ثم رواه البيهقي أيضا من غير جهة الحجاج قال : ( وهذا وهم ، إنما يعرف هذا المتن بالحجاج بن أرطاة عن محمد بن المنكدر عن جابر وروي عن ابن عباس وأبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : { العمرة تطوع } وإسنادهما ضعيف ) هذا كلام البيهقي ( وأما ) قول الترمذي : إن هذا حديث حسن صحيح ، فغير مقبول ، ولا يغتر بكلام الترمذي في هذا ، فقد اتفق الحفاظ على أنه حديث ضعيف ، كما سبق في كلام البيهقي ، ودليل ضعفه أن مداره على الحجاج بن أرطاة لا يعرف إلا من جهته ، والترمذي إنما رواه من جهته ، والحجاج ضعيف ومدلس باتفاق الحفاظ ، وقد قال في حديثه : عن محمد بن المنكدر والمدلس إذا قال في روايته : عن ، لا يحتج بها بلا خلاف ، كما هو مقرر معروف في كتب أهل الحديث ، وأهل الأصول ، ولأن جمهور العلماء على تضعيف الحجاج بسبب آخر غير التدليس ، فإذا كان فيه سببان يمنع كل واحد منهما للاحتجاج به ، وهما الضعف والتدليس .

                                      فكيف يكون حديثه صحيحا ؟ وقد سبق في كلام الترمذي عن الشافعي أنه قال : ليس في العمرة شيء ثابت أنها واجبة . فالحاصل أن الحديث ضعيف والله أعلم .

                                      ( وأما ) قول المصنف : ( لأن هذا الحديث رفعه ابن لهيعة وهو ضعيف فيما ينفرد به ) فهذا مما أنكر على المصنف ، وغلط فيه ; لأن الذي رفعه إنما هو الحجاج بن أرطاة كما سبق ، لا ابن لهيعة ، وقد ذكره أصحابنا في كتب الفقه على الصواب فقالوا : إنما رفعه الحجاج بن أرطاة ، وذكر البيهقي في معرفة السنن والآثار حديث الحجاج بن أرطاة وضعفه ، ثم قال : وروى ابن لهيعة عن عطاء عن جابر مرفوعا خلافه قال : { الحج والعمرة فريضتان واجبتان } قال البيهقي : وهذا ضعيف أيضا لا يصح . [ ص: 11 ] وينكر على المصنف في هذا ثلاثة أشياء : ( أحدها ) قوله : ابن لهيعة وصوابه الحجاج بن أرطاة كما ذكرنا ( والثاني ) قوله : رفعه وصوابه أن يقول : إنما رفعه ( والثالث ) قوله : وهو ضعيف فيما ينفرد به وصوابه حذف قوله : فيما ينفرد به ويقتصر على قوله : ضعيف ; لأن ابن لهيعة ضعيف فيما انفرد به وفيما شارك فيه ، والله أعلم . واسم ابن لهيعة عبد الله بن لهيعة بن عقبة الحضرمي ، ويقال : الغافقي المصري أبو عبد الرحمن قاضي مصر ( وقوله ) وأن تعتمر هو - بفتح الهمزة - قال أصحابنا : ولو صح حديث الحجاج بن أرطاة لم يلزم منه عدم وجوب العمرة على الناس كلهم ، لاحتمال أن المراد ليست واجبة في حق السائل لعدم استطاعته ، والله أعلم .

                                      ( وأما ) قول المصنف : ( الحج ركن وفرض ) مجمع بينهما فقد سبق الكلام عليه في أول كتابي الزكاة والصوم ( وأما ) استدلاله على وجوب الحج بالحديث ولم يستدل بقول الله - تعالى - { ولله على الناس حج البيت } فقد سبق الجواب عنه في أول كتاب الصيام . وأما أحكام المسألة فالحج فرض عين على كل مستطيع بإجماع المسلمين ، وتظاهرت على ذلك دلالة الكتاب والسنة وإجماع الأمة



                                      ( وأما ) العمرة فهل هي فرض من فروض الإسلام ؟ فيه قولان مشهوران ذكرهما المصنف بدليلهما : ( الصحيح ) باتفاق الأصحاب أنها فرض وهو المنصوص في الجديد .

                                      ( والقديم ) أنها سنة مستحبة ليست بفرض ، قال القاضي أبو الطيب في تعليقه : ونص عليه الشافعي في كتاب أحكام القرآن يعني من الحديث ، قال أصحابنا : فإن قلنا : هي فرض ، فهي في شرط صحتها وصحة مباشرتها ووجوبها وإحرامها عن عمرة الإسلام كالحج ، كما سنوضحه إن شاء الله - تعالى - . قال أصحابنا : والاستطاعة الواحدة كافية لوجوبهما جميعا ، والله أعلم .

                                      ( فرع ) في مذاهب العلماء في وجوب العمرة . قد ذكرنا أن الصحيح في مذهبنا أنها فرض ، وبه قال عمر وابن عباس وابن عمر وجابر وطاوس وعطاء وابن المسيب وسعيد بن جبير والحسن البصري وابن سيرين والشعبي ومسروق وأبو بردة بن أبي موسى الأشعري وعبد الله بن شداد [ ص: 12 ] والثوري وأحمد وإسحاق وابن عبيد وداود وقال مالك وأبو حنيفة وأبو ثور : هي سنة ليست واجبة ، وحكاه ابن المنذر وغيره عن النخعي ، ودليل الجميع سبق بيانه ، والله أعلم .




                                      الخدمات العلمية