ثم يتكرر النداء إلى " بني
آدم " في هذه الوقفة كذلك قبل أن يتابع السياق الرحلة المديدة في الطريق المرسوم:
nindex.php?page=tafseer&surano=7&ayano=31يا بني آدم خذوا زينتكم عند كل مسجد، وكلوا واشربوا ولا تسرفوا، إنه لا يحب المسرفين. nindex.php?page=tafseer&surano=7&ayano=32قل: من حرم زينة الله التي أخرج لعباده والطيبات من الرزق؟ قل: هي للذين آمنوا في الحياة الدنيا، خالصة يوم القيامة. كذلك نفصل الآيات لقوم يعلمون. nindex.php?page=tafseer&surano=7&ayano=33قل: إنما حرم ربي الفواحش ما ظهر منها وما بطن والإثم والبغي بغير الحق، وأن تشركوا بالله ما لم ينزل به سلطانا، وأن تقولوا على الله ما لا تعلمون ..
[ ص: 1282 ] إنه التوكيد بعد التوكيد على الحقائق الأساسية للعقيدة، في مواجهة ما عليه المشركون
العرب في الجاهلية وذلك في سياق النداء إلى بني
آدم كافة، وفي مواجهة قصة البشرية الكبرى..
وأظهر هذه الحقائق هو الربط بين ما يحرمونه من الطيبات التي أخرجها الله لعباده دون إذن منه ولا شرع وبين الشرك الذي هو الوصف المباشر لمن يزاول هذا التحريم، ويقول على الله ما لا يعلم، ويزعم من ذلك ما يزعم.
إنه يناديهم أن يأخذوا زينتهم من اللباس الذي أنزله الله عليهم. وهو الرياش. عند كل عبادة ومنها الطواف الذي يزاولونه عرايا، ويحرمون اللباس الذي لم يحرمه الله، بل أنعم به على العباد. فأولى أن يعبدوه بطاعته فيما أنزل لهم، لا بخلعه ولا بالفحش الذي يزاولونه:
nindex.php?page=tafseer&surano=7&ayano=31يا بني آدم خذوا زينتكم عند كل مسجد ..
ويناديهم كذلك ليتمتعوا بالطيبات من الطعام والشراب دون إسراف:
nindex.php?page=tafseer&surano=7&ayano=31وكلوا واشربوا ولا تسرفوا. إنه لا يحب المسرفين .
وقد ورد أنه كان هناك تحريم في الطعام كالتحريم في الثياب. وكان هذا من مبتدعات
قريش كذلك! في صحيح
nindex.php?page=showalam&ids=17080مسلم عن
هشام عن
nindex.php?page=showalam&ids=16561عروة عن أبيه قال: " كانت
العرب تطوف
بالبيت عراة إلا الحمس، والحمس
قريش وما ولدت. كانوا يطوفون
بالبيت عراة إلا أن تعطيهم الحمس ثيابا، فيعطي الرجال الرجال، والنساء النساء. وكانت الحمس لا يخرجون من
المزدلفة وكان الناس يبلغون
عرفات. ويقولون: نحن أهل الحرم، فلا ينبغي لأحد من
العرب أن يطوف إلا في ثيابنا، ولا يأكل إذا دخل أرضنا إلا من طعامنا.
فمن لم يكن له من
العرب صديق
بمكة يعيره ثوبا، ولا يسار يستأجره به كان بين أحد أمرين: إما أن يطوف
بالبيت عريانا وإما أن يطوف في ثيابه، فإذا فرغ من طوافه ألقى ثوبه فلم يمسه أحد. وكان ذلك الثوب يسمى اللقى " ..
وجاء في تفسير
القرطبي المسمى " أحكام القرآن " : " وقيل إن
العرب في الجاهلية كانوا لا يأكلون دسما في أيام حجهم، ويكتفون باليسير من الطعام، ويطوفون عراة. فقيل لهم:
nindex.php?page=tafseer&surano=7&ayano=31خذوا زينتكم عند كل مسجد، وكلوا واشربوا، ولا تسرفوا أي لا تسرفوا في تحريم ما لم يحرم عليكم " .. والإسراف يكون بتجاوز الحد، كما قد يكون بتحريم الحلال. كلاهما تجاوز للحد. هذا باعتبار، وذاك باعتبار.
ولا يكتفي السياق بالدعوة إلى اتخاذ الزينة عند كل مسجد، وإلى
nindex.php?page=treesubj&link=18604_23561_32412_29485الاستمتاع بالطيب من الطعام والشراب، بل يستنكر تحريم هذه الزينة التي أخرجها الله لعباده، وتحريم الطيبات من الرزق. فمن المستنكر أن يحرم أحد - برأيه - ما أخرجه الله للناس من الزينة أو من الطيبات. فتحريم شيء أو تحليله لا يكون إلا بشرع من الله:
nindex.php?page=tafseer&surano=7&ayano=32قل: من حرم زينة الله التي أخرج لعباده والطيبات من الرزق ؟
ويتبع الاستنكار بتقرير أن هذه الزينة من اللباس، وهذه الطيبات من الرزق، هي حق للذين آمنوا - بحكم إيمانهم بربهم الذي أخرجها لهم - ولئن كان سواهم يشاركهم فيها في هذه الدنيا، فهي خالصة لهم يوم القيامة لا يشاركهم فيها الذين كفروا:
nindex.php?page=tafseer&surano=7&ayano=32قل: هي للذين آمنوا في الحياة الدنيا، خالصة يوم القيامة ..
[ ص: 1283 ] ولن يكون الشأن كذلك، ثم تكون محرمة عليهم فما يخصهم الله في الآخرة بشيء هو حرام!
nindex.php?page=tafseer&surano=7&ayano=32كذلك نفصل الآيات لقوم يعلمون .
والذين " يعلمون " حقيقة هذا الدين هم الذين ينتفعون بهذا البيان. فأما الذي حرمه الله حقا، فليس هو الزينة المعتدلة من اللباس، وليس هو الطيب من الطعام والشراب - في غير سرف ولا مخيلة - إنما الذي حرمه الله حقا هو الذي يزاولونه فعلا!
nindex.php?page=tafseer&surano=7&ayano=33قل: إنما حرم ربي الفواحش - ما ظهر منها وما بطن - والإثم والبغي بغير الحق، وأن تشركوا بالله ما لم ينزل به سلطانا، وأن تقولوا على الله ما لا تعلمون ..
هذا هو الذي حرمه الله. الفواحش من الأعمال المتجاوزة لحدود الله. ظاهرة للناس أو خافية. والإثم.
وهو كل معصية لله على وجه الإجمال. والبغي بغير الحق. وهو الظلم الذي يخالف الحق والعدل - كما بينهما الله أيضا - وإشراك ما لم يجعل الله به قوة ولا سلطانا مع الله - سبحانه - في خصائصه. ومنه هذا الذي كان واقعا في الجاهلية، وهو الواقع في كل جاهلية. من إشراك غير الله ليشرع للناس ويزاول خصائص الألوهية.
وأن تقولوا على الله ما لا تعلمون. كالذي كانوا يقولونه من التحليل والتحريم. ومن نسبتهم هذا إلى أمر الله بغير علم ولا يقين..
ومن عجيب ما روي من حال المشركين الذين خوطبوا بهذه الآيات أول مرة ووجه إليهم هذا الاستنكار الوارد في قوله تعالى:
nindex.php?page=tafseer&surano=7&ayano=32قل: من حرم زينة الله التي أخرج لعباده.. ما رواه
nindex.php?page=showalam&ids=15097الكلبي قال:
" لما لبس المسلمون الثياب، وطافوا
بالبيت عيرهم المشركون بها.. فنزلت الآية.. "
فانظر كيف تصنع الجاهلية بأهلها! ناس يطوفون
ببيت الله عرايا فسدت فطرتهم وانحرفت عن الفطرة السليمة التي يحكيها القرآن الكريم عن
آدم وحواء في الجنة:
nindex.php?page=tafseer&surano=7&ayano=22فلما ذاقا الشجرة بدت لهما سوآتهما وطفقا يخصفان عليهما من ورق الجنة .. فإذا رأوا المسلمين يطوفون
بالبيت مكسوين، في زينة الله التي أنعم بها على البشر لإرادته بهم الكرامة والستر ولتنمو فيهم خصائص فطرتهم الإنسانية في سلامتها وجمالها الفطري، وليتميزوا عن العري الحيواني.. الجسمي والنفسي.. إذا رأوا المسلمين يطوفون
ببيت الله في زينة الله وفق فطرة الله " عيروهم " ! إنه هكذا تصنع الجاهلية بالناس.. هكذا تمسخ فطرهم وأذواقهم وتصوراتهم وقيمهم وموازينهم! وماذا تصنع الجاهلية الحاضرة بالناس في هذا الأمر غير الذي فعلته بالناس في جاهلية المشركين
العرب؟ وجاهلية المشركين الإغريق؟ وجاهلية المشركين
الرومان؟ وجاهلية المشركين الفرس؟ وجاهلية المشركين في كل زمان وكل مكان؟! ماذا تصنع الجاهلية الحاضرة بالناس إلا أن تعريهم من اللباس، وتعريهم من التقوى والحياء؟ ثم تدعو هذا رقيا وحضارة وتجديدا ثم تعير الكاسيات من الحرائر العفيفات المسلمات، بأنهن " رجعيات " .
" تقليديات " . " ريفيات " ! المسخ هو المسخ. والانتكاس عن الفطرة هو الانتكاس. وانقلاب الموازين هو انقلاب الموازين. والتبجح بعد ذلك هو التبجح..
nindex.php?page=tafseer&surano=51&ayano=53أتواصوا به؟ بل هم قوم طاغون! .
وما الفرق كذلك في علاقة هذا العري، وهذا الانتكاس، وهذه البهيمية، وهذا التبجح، بالشرك، وبالأرباب التي تشرع للناس من دون الله؟
[ ص: 1284 ] لئن كان مشركو
العرب قد تلقوا في شأن ذلك التعري من الأرباب الأرضية التي كانت تستغل جهالتهم وتستخف بعقولهم، لضمان السيادة لها في
الجزيرة.. ومثلهم بقية الجاهليات القديمة التي تلقت من الكهنة والسدنة والرؤساء.. فإن مشركي اليوم ومشركاته يتلقون في هذا عن الأرباب الأرضية كذلك.. ولا يملكون لأمرهم ردا..
إن بيوت الأزياء ومصمميها، وأساتذة التجميل ودكاكينها، لهي الأرباب التي تكمن وراء هذا الخبل الذي لا تفيق منه نساء الجاهلية الحاضرة ولا رجالها كذلك! إن هذه الأرباب تصدر أوامرها، فتطيعها القطعان والبهائم العارية في أرجاء الأرض طاعة مزرية! وسواء كان الزي الجديد لهذا العام يناسب قوام أية امرأة أو لا يناسبه، وسواء كانت مراسم التجميل تصلح لها أو لا تصلح، فهي تطيع صاغرة.. تطيع تلك الأرباب. وإلا " عيرت " من بقية البهائم المغلوبة على أمرها! ومن ذا الذي يقبع وراء بيوت الأزياء؟ ووراء دكاكين التجميل؟ ووراء سعار العري والتكشف؟ ووراء الأفلام والصور والروايات والقصص، والمجلات والصحف، التي تقود هذه الحملة المسعورة.. وبعضها يبلغ في هذا إلى حد أن تصبح المجلة أو القصة ماخورا متنقلا للدعارة؟! من الذي يقبع وراء هذا كله؟
الذي يقبع وراء هذه الأجهزة كلها، في العالم كله.. يهود..
يهود يقومون بخصائص الربوبية على البهائم المغلوبة على أمرها، ويبلغون أهدافهم كلها من إطلاق هذه الموجات المسعورة في كل مكان.. أهدافهم من تلهية العالم كله بهذا السعار وإشاعة الانحلال النفسي والخلقي من ورائه، وإفساد الفطرة البشرية، وجعلها ألعوبة في أيدي مصممي الأزياء والتجميل، ثم تحقيق الأهداف الاقتصادية من وراء الإسراف في استهلاك الأقمشة وأدوات الزينة والتجميل وسائر الصناعات الكثيرة التي تقوم على هذا السعار وتغذيه. إن قضية اللباس والأزياء ليست منفصلة عن شرع الله ومنهجه للحياة.. ومن ثم ذلك الربط بينها وبين قضية الإيمان والشرك في السياق.
إنها ترتبط بالعقيدة والشريعة بأسباب شتى، إنها تتعلق قبل كل شيء بالربوبية، وتحديد الجهة التي تشرع للناس في هذه الأمور، ذات التأثير العميق في الأخلاق والاقتصاد وشتى جوانب الحياة. كذلك تتعلق بإبراز خصائص " الإنسان " في الجنس البشري، وتغليب الطابع " الإنساني " في هذا الجنس على الطابع الحيواني.
والجاهلية تمسخ التصورات والأذواق والقيم والأخلاق. وتجعل العري - الحيواني - تقدما ورقيا. والستر - الإنساني - تأخرا ورجعية! وليس بعد ذلك مسخ لفطرة الإنسان وخصائص الإنسان. وبعد ذلك عندنا جاهليون يقولون: ما للدين والزي؟ ما للدين وملابس النساء؟ ما للدين والتجميل؟ ..
إنه المسخ الذي يصيب الناس في الجاهلية في كل زمان وفي كل مكان. ولأن هذه القضية التي تبدو فرعية، لها كل هذه الأهمية في ميزان الله وفي حساب الإسلام، لارتباطها أولا بقضية التوحيد والشرك ولارتباطها ثانيا بصلاح فطرة الإنسان وخلقه ومجتمعه وحياته، أو بفساد هذا كله.. فإن السياق يعقب عليها بإيقاع قوي مؤثر يوقع به عادة في مواقف العقيدة الكبيرة.. إنه يعقب بتنبيه بني
آدم، [ ص: 1285 ] إلى أن بقاءهم في هذه الأرض محدود مرسوم وأنه إذا جاء الأجل فلا يستقدمون ساعة ولا يستأخرون:
nindex.php?page=tafseer&surano=7&ayano=34ولكل أمة أجل فإذا جاء أجلهم لا يستأخرون ساعة ولا يستقدمون .
إنها حقيقة أساسية من حقائق هذه العقيدة، يوقع بها السياق على أوتار القلوب الغافلة - غير الذاكرة ولا الشاكرة - لتستيقظ، فلا يغرها امتداد الحياة! والأجل المضروب إما أجل كل جيل من الناس بالموت المعروف الذي يقطع الحياة. وإما أجل كل أمة من الأمم بمعنى الأمد المقدر لقوتها في الأرض واستخلافها.. وسواء هذا الأجل أو ذاك فإنه مرسوم لا يتقدمون عنه ولا يستأخرون.
ثُمَّ يَتَكَرَّرُ النِّدَاءُ إِلَى " بَنِي
آدَمَ " فِي هَذِهِ الْوَقْفَةِ كَذَلِكَ قَبْلَ أَنْ يُتَابِعَ السِّيَاقُ الرِّحْلَةَ الْمَدِيدَةَ فِي الطَّرِيقِ الْمَرْسُومِ:
nindex.php?page=tafseer&surano=7&ayano=31يَا بَنِي آدَمَ خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ، وَكُلُوا وَاشْرَبُوا وَلا تُسْرِفُوا، إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ. nindex.php?page=tafseer&surano=7&ayano=32قُلْ: مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالطَّيِّبَاتِ مَنْ الرِّزْقِ؟ قُلْ: هِيَ لِلَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا، خَالِصَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ. كَذَلِكَ نُفَصِّلُ الآيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ. nindex.php?page=tafseer&surano=7&ayano=33قُلْ: إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَالإِثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ، وَأَنْ تُشْرِكُوا بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا، وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لا تَعْلَمُونَ ..
[ ص: 1282 ] إِنَّهُ التَّوْكِيدُ بَعْدَ التَّوْكِيدِ عَلَى الْحَقَائِقِ الْأَسَاسِيَّةِ لِلْعَقِيدَةِ، فِي مُوَاجَهَةِ مَا عَلَيْهِ الْمُشْرِكُونَ
الْعَرَبُ فِي الْجَاهِلِيَّةِ وَذَلِكَ فِي سِيَاقِ النِّدَاءِ إِلَى بَنِي
آدَمَ كَافَّةً، وَفِي مُوَاجَهَةِ قِصَّةِ الْبَشَرِيَّةِ الْكُبْرَى..
وَأَظْهَرُ هَذِهِ الْحَقَائِقِ هُوَ الرَّبْطُ بَيْنَ مَا يُحَرِّمُونَهُ مِنَ الطَّيِّبَاتِ الَّتِي أَخْرَجَهَا اللَّهُ لِعِبَادِهِ دُونَ إِذْنٍ مِنْهُ وَلَا شَرْعٍ وَبَيْنَ الشِّرْكِ الَّذِي هُوَ الْوَصْفُ الْمُبَاشِرُ لِمَنْ يُزَاوِلُ هَذَا التَّحْرِيمَ، وَيَقُولُ عَلَى اللَّهِ مَا لَا يَعْلَمُ، وَيَزْعُمُ مِنْ ذَلِكَ مَا يَزْعُمُ.
إِنَّهُ يُنَادِيهِمْ أَنْ يَأْخُذُوا زِينَتَهُمْ مِنَ اللِّبَاسِ الَّذِي أَنْزَلَهُ اللَّهُ عَلَيْهِمْ. وَهُوَ الرِّيَاشُ. عِنْدَ كُلِّ عِبَادَةٍ وَمِنْهَا الطَّوَافُ الَّذِي يُزَاوِلُونَهُ عَرَايَا، وَيُحَرِّمُونَ اللِّبَاسَ الَّذِي لَمْ يُحَرِّمْهُ اللَّهُ، بَلْ أَنْعَمَ بِهِ عَلَى الْعِبَادِ. فَأَوْلَى أَنْ يَعْبُدُوهُ بِطَاعَتِهِ فِيمَا أَنْزَلَ لَهُمْ، لَا بِخَلْعِهِ وَلَا بِالْفُحْشِ الَّذِي يُزَاوِلُونَهُ:
nindex.php?page=tafseer&surano=7&ayano=31يَا بَنِي آدَمَ خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ ..
وَيُنَادِيهِمْ كَذَلِكَ لِيَتَمَتَّعُوا بِالطَّيِّبَاتِ مِنَ الطَّعَامِ وَالشَّرَابِ دُونَ إِسْرَافٍ:
nindex.php?page=tafseer&surano=7&ayano=31وَكُلُوا وَاشْرَبُوا وَلا تُسْرِفُوا. إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ .
وَقَدْ وَرَدَ أَنَّهُ كَانَ هُنَاكَ تَحْرِيمٌ فِي الطَّعَامِ كَالتَّحْرِيمِ فِي الثِّيَابِ. وَكَانَ هَذَا مِنْ مُبْتَدَعَاتِ
قُرَيْشٍ كَذَلِكَ! فِي صَحِيحٍ
nindex.php?page=showalam&ids=17080مُسْلِمٍ عَنْ
هُشَامٍ عَنْ
nindex.php?page=showalam&ids=16561عُرْوَةَ عَنْ أَبِيهِ قَالَ: " كَانَتِ
الْعَرَبُ تَطُوفُ
بِالْبَيْتِ عُرَاةً إِلَّا الْحُمُسَ، وَالْحُمُسُ
قُرَيْشٌ وَمَا وَلَدَتْ. كَانُوا يَطُوفُونَ
بِالْبَيْتِ عُرَاةً إِلَّا أَنْ تُعْطِيَهُمُ الْحُمُسُ ثِيَابًا، فَيُعْطِي الرِّجَالُ الرِّجَالَ، وَالنِّسَاءُ النِّسَاءَ. وَكَانَتِ الْحُمُسُ لَا يَخْرُجُونَ مِنَ
الْمُزْدَلِفَةِ وَكَانَ النَّاسُ يَبْلُغُونَ
عَرَفَاتٍ. وَيَقُولُونَ: نَحْنُ أَهْلُ الْحَرَمِ، فَلَا يَنْبَغِي لِأَحَدٍ مِنَ
الْعَرَبِ أَنْ يَطُوفَ إِلَّا فِي ثِيَابِنَا، وَلَا يَأْكُلَ إِذَا دَخَلَ أَرْضَنَا إِلَّا مِنْ طَعَامِنَا.
فَمَنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ مِنَ
الْعَرَبِ صَدِيقٌ
بِمَكَّةَ يُعِيرُهُ ثَوْبًا، وَلَا يَسَارٌ يَسْتَأْجِرُهُ بِهِ كَانَ بَيْنَ أَحَدِ أَمْرَيْنِ: إِمَّا أَنْ يَطُوفَ
بِالْبَيْتِ عُرْيَانًا وَإِمَّا أَنْ يَطُوفَ فِي ثِيَابِهِ، فَإِذَا فَرَغَ مِنْ طَوَافِهِ أَلْقَى ثَوْبَهُ فَلَمْ يَمَسَّهُ أَحَدٌ. وَكَانَ ذَلِكَ الثَّوْبُ يُسَمَّى اللِّقَى " ..
وَجَاءَ فِي تَفْسِيرِ
الْقُرْطُبِيِّ الْمُسَمَّى " أَحْكَامَ الْقُرْآنِ " : " وَقِيلَ إِنَّ
الْعَرَبَ فِي الْجَاهِلِيَّةِ كَانُوا لَا يَأْكُلُونَ دَسَمًا فِي أَيَّامِ حَجِّهِمْ، وَيَكْتَفُونَ بِالْيَسِيرِ مِنَ الطَّعَامِ، وَيَطُوفُونَ عُرَاةً. فَقِيلَ لَهُمْ:
nindex.php?page=tafseer&surano=7&ayano=31خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ، وَكُلُوا وَاشْرَبُوا، وَلا تُسْرِفُوا أَيْ لَا تُسْرِفُوا فِي تَحْرِيمِ مَا لَمْ يُحَرَّمْ عَلَيْكُمْ " .. وَالْإِسْرَافُ يَكُونُ بِتَجَاوُزِ الْحَدِّ، كَمَا قَدْ يَكُونُ بِتَحْرِيمِ الْحَلَالِ. كِلَاهُمَا تَجَاوُزٌ لِلْحَدِّ. هَذَا بِاعْتِبَارٍ، وَذَاكَ بِاعْتِبَارٍ.
وَلَا يَكْتَفِي السِّيَاقُ بِالدَّعْوَةِ إِلَى اتِّخَاذِ الزِّينَةِ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ، وَإِلَى
nindex.php?page=treesubj&link=18604_23561_32412_29485الِاسْتِمْتَاعِ بِالطَّيِّبِ مِنَ الطَّعَامِ وَالشَّرَابِ، بَلْ يَسْتَنْكِرُ تَحْرِيمَ هَذِهِ الزِّينَةِ الَّتِي أَخْرَجَهَا اللَّهُ لِعِبَادِهِ، وَتَحْرِيمَ الطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ. فَمِنَ الْمُسْتَنْكَرِ أَنْ يُحَرِّمَ أَحَدٌ - بِرَأْيِهِ - مَا أَخْرَجَهُ اللَّهُ لِلنَّاسِ مِنَ الزِّينَةِ أَوْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ. فَتَحْرِيمُ شَيْءٍ أَوْ تَحْلِيلُهُ لَا يَكُونُ إِلَّا بِشَرْعٍ مِنَ اللَّهِ:
nindex.php?page=tafseer&surano=7&ayano=32قُلْ: مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالطَّيِّبَاتِ مَنْ الرِّزْقِ ؟
وَيُتْبِعُ الِاسْتِنْكَارَ بِتَقْرِيرِ أَنَّ هَذِهِ الزِّينَةَ مِنَ اللِّبَاسِ، وَهَذِهِ الطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ، هِيَ حَقٌّ لِلَّذِينِ آمَنُوا - بِحُكْمِ إِيمَانِهِمْ بِرَبِّهِمُ الَّذِي أَخْرَجَهَا لَهُمْ - وَلَئِنْ كَانَ سِوَاهُمْ يُشَارِكُهُمْ فِيهَا فِي هَذِهِ الدُّنْيَا، فَهِيَ خَالِصَةٌ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ لَا يُشَارِكُهُمْ فِيهَا الَّذِينَ كَفَرُوا:
nindex.php?page=tafseer&surano=7&ayano=32قُلْ: هِيَ لِلَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا، خَالِصَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ ..
[ ص: 1283 ] وَلَنْ يَكُونَ الشَّأْنُ كَذَلِكَ، ثُمَّ تَكُونُ مُحَرَّمَةً عَلَيْهِمْ فَمَا يَخُصُّهُمُ اللَّهُ فِي الْآخِرَةِ بِشَيْءٍ هُوَ حَرَامٌ!
nindex.php?page=tafseer&surano=7&ayano=32كَذَلِكَ نُفَصِّلُ الآيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ .
وَالَّذِينَ " يَعْلَمُونَ " حَقِيقَةَ هَذَا الدِّينِ هُمُ الَّذِينَ يَنْتَفِعُونَ بِهَذَا الْبَيَانِ. فَأَمَّا الَّذِي حَرَّمَهُ اللَّهُ حَقًّا، فَلَيْسَ هُوَ الزِّينَةَ الْمُعْتَدِلَةَ مِنَ اللِّبَاسِ، وَلَيْسَ هُوَ الطَّيِّبَ مِنَ الطَّعَامِ وَالشَّرَابِ - فِي غَيْرِ سَرَفٍ وَلَا مَخْيَلَةٍ - إِنَّمَا الَّذِي حَرَّمَهُ اللَّهُ حَقًّا هُوَ الَّذِي يُزَاوِلُونَهُ فِعْلًا!
nindex.php?page=tafseer&surano=7&ayano=33قُلْ: إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ - مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ - وَالإِثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ، وَأَنْ تُشْرِكُوا بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا، وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لا تَعْلَمُونَ ..
هَذَا هُوَ الَّذِي حَرَّمَهُ اللَّهُ. الْفَوَاحِشُ مِنَ الْأَعْمَالِ الْمُتَجَاوِزَةِ لِحُدُودِ اللَّهِ. ظَاهِرَةٌ لِلنَّاسِ أَوْ خَافِيَةٌ. وَالْإِثْمُ.
وَهُوَ كُلُّ مَعْصِيَةٍ لِلَّهِ عَلَى وَجْهِ الْإِجْمَالِ. وَالْبَغْيُ بِغَيْرِ الْحَقِّ. وَهُوَ الظُّلْمُ الَّذِي يُخَالِفُ الْحَقَّ وَالْعَدْلَ - كَمَا بَيَّنَهُمَا اللَّهُ أَيْضًا - وَإِشْرَاكُ مَا لَمْ يَجْعَلِ اللَّهُ بِهِ قُوَّةً وَلَا سُلْطَانًا مَعَ اللَّهِ - سُبْحَانَهُ - فِي خَصَائِصِهِ. وَمِنْهُ هَذَا الَّذِي كَانَ وَاقِعًا فِي الْجَاهِلِيَّةِ، وَهُوَ الْوَاقِعُ فِي كُلِّ جَاهِلِيَّةٍ. مِنْ إِشْرَاكِ غَيْرِ اللَّهِ لِيُشَرِّعَ لِلنَّاسِ وَيُزَاوِلَ خَصَائِصَ الْأُلُوهِيَّةِ.
وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ. كَالَّذِي كَانُوا يَقُولُونَهُ مِنَ التَّحْلِيلِ وَالتَّحْرِيمِ. وَمِنْ نِسْبَتِهِمْ هَذَا إِلَى أَمْرِ اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَلَا يَقِينٍ..
وَمِنْ عَجِيبٍ مَا رُوِيَ مِنْ حَالِ الْمُشْرِكِينَ الَّذِينَ خُوطِبُوا بِهَذِهِ الْآيَاتِ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَوُجِّهَ إِلَيْهِمْ هَذَا الِاسْتِنْكَارُ الْوَارِدُ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى:
nindex.php?page=tafseer&surano=7&ayano=32قُلْ: مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ.. مَا رَوَاهُ
nindex.php?page=showalam&ids=15097الْكَلْبِيُّ قَالَ:
" لَمَّا لَبِسَ الْمُسْلِمُونَ الثِّيَابَ، وَطَافُوا
بِالْبَيْتِ عَيَّرَهُمُ الْمُشْرِكُونَ بِهَا.. فَنَزَلَتِ الآيَةُ.. "
فَانْظُرْ كَيْفَ تَصْنَعُ الْجَاهِلِيَّةُ بِأَهْلِهَا! نَاسٌ يَطُوفُونَ
بِبَيْتِ اللَّهِ عَرَايَا فَسَدَتْ فِطْرَتُهُمْ وَانْحَرَفَتْ عَنِ الْفِطْرَةِ السَّلِيمَةِ الَّتِي يَحْكِيهَا الْقُرْآنُ الْكَرِيمُ عَنْ
آدَمَ وَحَوَّاءَ فِي الْجَنَّةِ:
nindex.php?page=tafseer&surano=7&ayano=22فَلَمَّا ذَاقَا الشَّجَرَةَ بَدَتْ لَهُمَا سَوْآتُهُمَا وَطَفِقَا يَخْصِفَانِ عَلَيْهِمَا مِنْ وَرَقِ الْجَنَّةِ .. فَإِذَا رَأَوُا الْمُسْلِمِينَ يَطُوفُونَ
بِالْبَيْتِ مَكْسُوِّينَ، فِي زِينَةِ اللَّهِ الَّتِي أَنْعَمَ بِهَا عَلَى الْبَشَرِ لِإِرَادَتِهِ بِهِمُ الْكَرَامَةَ وَالسِّتْرَ وَلِتَنْمُوَ فِيهِمْ خَصَائِصُ فِطْرَتِهِمُ الْإِنْسَانِيَّةِ فِي سَلَامَتِهَا وَجَمَالِهَا الْفِطْرِيِّ، وَلِيَتَمَيَّزُوا عَنِ الْعُرْيِ الْحَيَوَانِيِّ.. الْجِسْمِيِّ وَالنَّفْسِيِّ.. إِذَا رَأَوُا الْمُسْلِمِينَ يَطُوفُونَ
بِبَيْتِ اللَّهِ فِي زِينَةِ اللَّهِ وَفْقَ فِطْرَةِ اللَّهِ " عَيَّرُوهُمْ " ! إِنَّهُ هَكَذَا تَصْنَعُ الْجَاهِلِيَّةُ بِالنَّاسِ.. هَكَذَا تَمْسَخُ فِطَرَهُمْ وَأَذْوَاقَهُمْ وَتَصَوُّرَاتِهِمْ وَقِيَمَهُمْ وَمَوَازِينَهُمْ! وَمَاذَا تَصْنَعُ الْجَاهِلِيَّةُ الْحَاضِرَةُ بِالنَّاسِ فِي هَذَا الْأَمْرِ غَيْرَ الَّذِي فَعَلَتْهُ بِالنَّاسِ فِي جَاهِلِيَّةِ الْمُشْرِكِينَ
الْعَرَبِ؟ وَجَاهِلِيَّةِ الْمُشْرِكِينَ الْإِغْرِيقِ؟ وَجَاهِلِيَّةِ الْمُشْرِكِينَ
الرُّومَانِ؟ وَجَاهِلِيَّةِ الْمُشْرِكِينَ الْفُرْسِ؟ وَجَاهِلِيَّةِ الْمُشْرِكِينَ فِي كُلِّ زَمَانٍ وَكُلِّ مَكَانٍ؟! مَاذَا تَصْنَعُ الْجَاهِلِيَّةُ الْحَاضِرَةُ بِالنَّاسِ إِلَّا أَنْ تُعَرِّيَهُمْ مِنَ اللِّبَاسِ، وَتُعَرِّيَهُمْ مِنَ التَّقْوَى وَالْحَيَاءِ؟ ثُمَّ تَدْعُو هَذَا رُقِيًّا وَحَضَارَةً وَتَجْدِيدًا ثُمَّ تُعَيِّرُ الْكَاسِيَاتِ مِنَ الْحَرَائِرِ الْعَفِيفَاتِ الْمُسْلِمَاتِ، بِأَنَّهُنَّ " رَجْعِيَّاتٌ " .
" تَقْلِيدِيَّاتٌ " . " رِيفِيَّاتٌ " ! الْمَسْخُ هُوَ الْمَسْخُ. وَالِانْتِكَاسُ عَنِ الْفِطْرَةِ هُوَ الِانْتِكَاسُ. وَانْقِلَابُ الْمَوَازِينِ هُوَ انْقِلَابُ الْمَوَازِينِ. وَالتَّبَجُّحُ بَعْدَ ذَلِكَ هُوَ التَّبَجُّحُ..
nindex.php?page=tafseer&surano=51&ayano=53أَتَوَاصَوْا بِهِ؟ بَلْ هُمْ قَوْمٌ طَاغُونَ! .
وَمَا الْفَرْقُ كَذَلِكَ فِي عَلَاقَةِ هَذَا الْعُرْيِ، وَهَذَا الِانْتِكَاسِ، وَهَذِهِ الْبَهِيمِيَّةِ، وَهَذَا التَّبَجُّحِ، بِالشِّرْكِ، وَبِالْأَرْبَابِ الَّتِي تُشَرِّعُ لِلنَّاسِ مِنْ دُونِ اللَّهِ؟
[ ص: 1284 ] لَئِنْ كَانَ مُشْرِكُو
الْعَرَبِ قَدْ تَلَقَّوْا فِي شَأْنِ ذَلِكَ التَّعَرِّي مِنَ الْأَرْبَابِ الْأَرْضِيَّةِ الَّتِي كَانَتْ تَسْتَغِلُّ جَهَالَتَهُمْ وَتَسْتَخِفُّ بِعُقُولِهِمْ، لِضَمَانِ السِّيَادَةِ لَهَا فِي
الْجَزِيرَةِ.. وَمِثْلُهُمْ بَقِيَّةُ الْجَاهِلِيَّاتِ الْقَدِيمَةِ الَّتِي تَلَقَّتْ مِنَ الْكَهَنَةِ وَالسَّدَنَةِ وَالرُّؤَسَاءِ.. فَإِنَّ مُشْرِكِي الْيَوْمِ وَمُشْرِكَاتِهِ يَتَلَقَّوْنَ فِي هَذَا عَنِ الْأَرْبَابِ الْأَرْضِيَّةِ كَذَلِكَ.. وَلَا يَمْلِكُونَ لِأَمْرِهِمْ رَدًّا..
إِنَّ بُيُوتَ الْأَزْيَاءِ وَمُصَمِّمِيهَا، وَأَسَاتِذَةَ التَّجْمِيلِ وَدَكَاكِينَهَا، لَهِيَ الْأَرْبَابُ الَّتِي تَكْمُنُ وَرَاءَ هَذَا الْخَبَلِ الَّذِي لَا تُفِيقُ مِنْهُ نِسَاءُ الْجَاهِلِيَّةِ الْحَاضِرَةِ وَلَا رِجَالُهَا كَذَلِكَ! إِنَّ هَذِهِ الْأَرْبَابَ تُصْدِرُ أَوَامِرَهَا، فَتُطِيعُهَا الْقُطْعَانُ وَالْبَهَائِمُ الْعَارِيَةُ فِي أَرْجَاءِ الْأَرْضِ طَاعَةً مُزْرِيَةً! وَسَوَاءٌ كَانَ الزِّيُّ الْجَدِيدُ لِهَذَا الْعَامِ يُنَاسِبُ قَوَامُ أَيَّةِ امْرَأَةٍ أَوْ لَا يُنَاسِبُهُ، وَسَوَاءٌ كَانَتْ مَرَاسِمُ التَّجْمِيلِ تَصْلُحُ لَهَا أَوْ لَا تَصْلُحُ، فَهِيَ تُطِيعُ صَاغِرَةً.. تُطِيعُ تِلْكَ الْأَرْبَابَ. وَإِلَّا " عُيِّرَتْ " مِنْ بَقِيَّةِ الْبَهَائِمِ الْمَغْلُوبَةِ عَلَى أَمْرِهَا! وَمَنْ ذَا الَّذِي يَقْبَعُ وَرَاءَ بُيُوتِ الْأَزْيَاءِ؟ وَوَرَاءَ دَكَاكِينِ التَّجْمِيلِ؟ وَوَرَاءَ سُعَارِ الْعُرْيِ وَالتَّكَشُّفِ؟ وَوَرَاءَ الْأَفْلَامِ وَالصُّوَرِ وَالرِّوَايَاتِ وَالْقِصَصِ، وَالْمَجَلَّاتِ وَالصُّحُفِ، الَّتِي تَقُودُ هَذِهِ الْحَمْلَةَ الْمَسْعُورَةَ.. وَبَعْضُهَا يَبْلُغُ فِي هَذَا إِلَى حَدِّ أَنْ تُصْبِحَ الْمَجَلَّةُ أَوِ الْقِصَّةُ مَاخُورًا مُتَنَقِّلًا لِلدَّعَارَةِ؟! مَنِ الَّذِي يَقْبَعُ وَرَاءَ هَذَا كُلِّهِ؟
الَّذِي يَقْبَعُ وَرَاءَ هَذِهِ الْأَجْهِزَةِ كُلِّهَا، فِي الْعَالَمِ كُلِّهِ.. يَهُودٌ..
يَهُودٌ يَقُومُونَ بِخَصَائِصِ الرُّبُوبِيَّةِ عَلَى الْبَهَائِمِ الْمَغْلُوبَةِ عَلَى أَمْرِهَا، وَيَبْلُغُونَ أَهْدَافَهُمْ كُلَّهَا مِنْ إِطْلَاقِ هَذِهِ الْمَوْجَاتِ الْمَسْعُورَةِ فِي كُلِّ مَكَانٍ.. أَهْدَافُهُمْ مِنْ تَلْهِيَةِ الْعَالَمِ كُلِّهِ بِهَذَا السُّعَارِ وَإِشَاعَةِ الِانْحِلَالِ النَّفْسِيِّ وَالْخُلُقِيِّ مِنْ وَرَائِهِ، وَإِفْسَادِ الْفِطْرَةِ الْبَشَرِيَّةِ، وَجَعْلِهَا أُلْعُوبَةً فِي أَيْدِي مُصَمِّمِي الْأَزْيَاءِ وَالتَّجْمِيلِ، ثُمَّ تَحْقِيقِ الْأَهْدَافِ الِاقْتِصَادِيَّةِ مِنْ وَرَاءِ الْإِسْرَافِ فِي اسْتِهْلَاكِ الْأَقْمِشَةِ وَأَدَوَاتِ الزِّينَةِ وَالتَّجْمِيلِ وَسَائِرِ الصِّنَاعَاتِ الْكَثِيرَةِ الَّتِي تَقُومُ عَلَى هَذَا السُّعَارِ وَتُغَذِّيهِ. إِنَّ قَضِيَّةَ اللِّبَاسِ وَالْأَزْيَاءِ لَيْسَتْ مُنْفَصِلَةً عَنْ شَرْعِ اللَّهِ وَمَنْهَجِهِ لِلْحَيَاةِ.. وَمِنْ ثَمَّ ذَلِكَ الرَّبْطُ بَيْنَهَا وَبَيْنَ قَضِيَّةِ الْإِيمَانِ وَالشِّرْكِ فِي السِّيَاقِ.
إِنَّهَا تَرْتَبِطُ بِالْعَقِيدَةِ وَالشَّرِيعَةِ بِأَسْبَابٍ شَتَّى، إِنَّهَا تَتَعَلَّقُ قَبْلَ كُلِّ شَيْءٍ بِالرُّبُوبِيَّةِ، وَتَحْدِيدِ الْجِهَةِ الَّتِي تُشَرِّعُ لِلنَّاسِ فِي هَذِهِ الْأُمُورِ، ذَاتِ التَّأْثِيرِ الْعَمِيقِ فِي الْأَخْلَاقِ وَالِاقْتِصَادِ وَشَتَّى جَوَانِبِ الْحَيَاةِ. كَذَلِكَ تَتَعَلَّقُ بِإِبْرَازِ خَصَائِصِ " الْإِنْسَانِ " فِي الْجِنْسِ الْبَشَرِيِّ، وَتَغْلِيبِ الطَّابَعِ " الْإِنْسَانِيِّ " فِي هَذَا الْجِنْسِ عَلَى الطَّابَعِ الْحَيَوَانِيِّ.
وَالْجَاهِلِيَّةُ تَمْسَخُ التَّصَوُّرَاتِ وَالْأَذْوَاقَ وَالْقِيَمَ وَالْأَخْلَاقَ. وَتَجْعَلُ الْعُرْيَ - الْحَيَوَانِيَّ - تَقَدُّمًا وَرُقِيًّا. وَالسِّتْرَ - الْإِنْسَانِيَّ - تَأَخُّرًا وَرَجْعِيَّةً! وَلَيْسَ بَعْدَ ذَلِكَ مَسْخٌ لِفِطْرَةِ الْإِنْسَانِ وَخَصَائِصِ الْإِنْسَانِ. وَبَعْدَ ذَلِكَ عِنْدَنَا جَاهِلِيُّونَ يَقُولُونَ: مَا لِلدِّينِ وَالزِّيِّ؟ مَا لِلدِّينِ وَمَلَابِسِ النِّسَاءِ؟ مَا لِلدِّينِ وَالتَّجْمِيلِ؟ ..
إِنَّهُ الْمَسْخُ الَّذِي يُصِيبُ النَّاسَ فِي الْجَاهِلِيَّةِ فِي كُلِّ زَمَانٍ وَفِي كُلِّ مَكَانٍ. وَلِأَنَّ هَذِهِ الْقَضِيَّةَ الَّتِي تَبْدُو فَرْعِيَّةً، لَهَا كُلُّ هَذِهِ الْأَهَمِّيَّةِ فِي مِيزَانِ اللَّهِ وَفِي حِسَابِ الْإِسْلَامِ، لِارْتِبَاطِهَا أَوَّلًا بِقَضِيَّةِ التَّوْحِيدِ وَالشِّرْكِ وَلِارْتِبَاطِهَا ثَانِيًا بِصَلَاحِ فِطْرَةِ الْإِنْسَانِ وَخُلُقِهِ وَمُجْتَمَعِهِ وَحَيَاتِهِ، أَوْ بِفَسَادِ هَذَا كُلِّهِ.. فَإِنَّ السِّيَاقَ يُعَقِّبُ عَلَيْهَا بِإِيقَاعٍ قَوِيٍّ مُؤَثِّرٍ يُوقِعُ بِهِ عَادَةً فِي مَوَاقِفِ الْعَقِيدَةِ الْكَبِيرَةِ.. إِنَّهُ يُعَقِّبُ بِتَنْبِيهِ بَنِي
آدَمَ، [ ص: 1285 ] إِلَى أَنَّ بَقَاءَهُمْ فِي هَذِهِ الْأَرْضِ مَحْدُودٌ مَرْسُومٌ وَأَنَّهُ إِذَا جَاءَ الْأَجَلُ فَلَا يَسْتَقْدِمُونَ سَاعَةً وَلَا يَسْتَأْخِرُونَ:
nindex.php?page=tafseer&surano=7&ayano=34وَلِكُلِّ أُمَّةٍ أَجَلٌ فَإِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ لا يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلا يَسْتَقْدِمُونَ .
إِنَّهَا حَقِيقَةٌ أَسَاسِيَّةٌ مِنْ حَقَائِقِ هَذِهِ الْعَقِيدَةِ، يُوَقِّعُ بِهَا السِّيَاقُ عَلَى أَوْتَارِ الْقُلُوبِ الْغَافِلَةِ - غَيْرِ الذَّاكِرَةِ وَلَا الشَّاكِرَةِ - لِتَسْتَيْقِظَ، فَلَا يَغُرُّهَا امْتِدَادُ الْحَيَاةِ! وَالْأَجَلُ الْمَضْرُوبُ إِمَّا أَجْلُ كُلِّ جِيلٍ مِنَ النَّاسِ بِالْمَوْتِ الْمَعْرُوفِ الَّذِي يَقْطَعُ الْحَيَاةَ. وَإِمَّا أَجَلُ كُلِّ أُمَّةٍ مِنَ الْأُمَمِ بِمَعْنَى الْأَمَدِ الْمُقَدَّرِ لِقُوَّتِهَا فِي الْأَرْضِ وَاسْتِخْلَافِهَا.. وَسَوَاءٌ هَذَا الْأَجَلُ أَوْ ذَاكَ فَإِنَّهُ مَرْسُومٌ لَا يَتَقَدَّمُونَ عَنْهُ وَلَا يَسْتَأْخِرُونَ.