الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                                                                      صفحة جزء
                                                                                                                                                                                                                                      وإذا كانت القصة بطولها مسوقة في هذه السورة - في استعراض موكب الإيمان - لتدل على خطوات قدر الله مع المكذبين، ولتصور العلاقة بين القيم الإيمانية وسنة الله في الحياة البشرية، فإنها مسوقة كذلك لبيان طبيعة الإيمان وطبيعة الكفر ممثلتين في شخوص القصة وأطرافها. وقد ختمت بمشهد أخذ الميثاق على بني إسرائيل، تحت المعاينة الكاملة لبأس الله الشديد: وإذ نتقنا الجبل فوقهم كأنه ظلة، وظنوا أنه واقع بهم. [ ص: 1333 ] خذوا ما آتيناكم بقوة، واذكروا ما فيه لعلكم تتقون

                                                                                                                                                                                                                                      ..

                                                                                                                                                                                                                                      لذلك أعقب هذا المشهد مشهد أخذ الميثاق على فطرة البشر كافة: وإذ أخذ ربك من بني آدم من ظهورهم ذريتهم، وأشهدهم على أنفسهم: ألست بربكم؟ قالوا: بلى! شهدنا أن تقولوا يوم القيامة: إنا كنا عن هذا غافلين. أو تقولوا: إنما أشرك آباؤنا من قبل وكنا ذرية من بعدهم، أفتهلكنا بما فعل المبطلون؟ ..

                                                                                                                                                                                                                                      وأعقب هذا المشهد مشهد الذي ينسلخ من هذا العهد، كما ينسلخ من العلم بآيات الله بعد إذ أراه إياها..

                                                                                                                                                                                                                                      وهو مشهد مثير.. وفيه لمسات قوية للتنفير من هذا الانسلاخ، والتحذير من مآله المنظور: واتل عليهم نبأ الذي آتيناه آياتنا، فانسلخ منها، فأتبعه الشيطان فكان من الغاوين. ولو شئنا لرفعناه بها، ولكنه أخلد إلى الأرض، واتبع هواه. فمثله كمثل الكلب إن تحمل عليه يلهث أو تتركه يلهث. ذلك مثل القوم الذين كذبوا بآياتنا. فاقصص القصص لعلهم يتفكرون. ساء مثلا القوم الذين كذبوا بآياتنا، وأنفسهم كانوا يظلمون ..

                                                                                                                                                                                                                                      ثم بيان لطبيعة الهدى وطبيعة الكفر. يكشف عن أن الكفر تعطل في أجهزة الفطرة يحول دون تلقي هدى الله، وينتهي بالخسارة المطلقة: من يهد الله فهو المهتدي، ومن يضلل فأولئك هم الخاسرون. ولقد ذرأنا لجهنم كثيرا من الجن والإنس، لهم قلوب لا يفقهون بها، ولهم أعين لا يبصرون بها، ولهم آذان لا يسمعون بها. أولئك كالأنعام بل هم أضل. أولئك هم الغافلون ..

                                                                                                                                                                                                                                      تعقب هذا البيان لفتة إلى المشركين الذين كانوا يواجهون دعوة الإسلام في مكة بالتكذيب، ويلحدون في أسماء الله فيشتقون منها أسماء الآلهة المفتراة. وتهديد لهم باستدراج الله. ودعوة لهم كذلك أن يتفكروا تفكرا عميقا بعيدا عن الهوى في أمر صاحبهم الذي يدعوهم إلى الهدى - صلى الله عليه وسلم - فينبزونه بأن به جنة! وإلى أن ينظروا في ملكوت السماوات والأرض وما في صفحات الوجود من موحيات الهدى ، ولمسة لهم بالموت الذي يترقبهم وهم عنه غافلون: ولله الأسماء الحسنى فادعوه بها، وذروا الذين يلحدون في أسمائه. سيجزون ما كانوا يعملون. وممن خلقنا أمة يهدون بالحق وبه يعدلون. والذين كذبوا بآياتنا سنستدرجهم من حيث لا يعلمون.. وأملي لهم إن كيدي متين أولم يتفكروا؟ ما بصاحبهم من جنة. إن هو إلا نذير مبين. أولم ينظروا في ملكوت السماوات والأرض، وما خلق الله من شيء، وأن عسى أن يكون قد اقترب أجلهم؟ فبأي حديث بعده يؤمنون؟ من يضلل الله فلا هادي له، ويذرهم في طغيانهم يعمهون ..

                                                                                                                                                                                                                                      ومواجهة كذلك لهؤلاء المشركين في تكذيبهم بالساعة، وسؤالهم عن موعدها.. مواجهة بضخامة هذا الشأن الذي يسألون عنه مستهينين، وهول هذا الأمر الذي يتناولونه مستخفين. وجلاء كذلك لطبيعة الرسالة وحقيقة الرسول وتقرير لحقيقة الألوهية وتفرد الله سبحانه بكل خصائصها. ومنها علم الغيب وتجلية الساعة يسألونك عن الساعة أيان مرساها؟ قل: إنما علمها عند ربي، لا يجليها لوقتها إلا هو، ثقلت في السماوات والأرض، لا تأتيكم إلا بغتة. يسألونك كأنك حفي عنها! قل: إنما علمها عند الله، ولكن أكثر الناس لا يعلمون. قل: لا أملك لنفسي نفعا ولا ضرا - إلا ما شاء الله - ولو كنت أعلم الغيب لاستكثرت من الخير وما مسني السوء. إن أنا إلا نذير وبشير لقوم يؤمنون ..

                                                                                                                                                                                                                                      وفي سياق مواجهة المشركين يجيء بيان عن طبيعة الشرك وقصة الانحراف عن عهد الفطرة بتوحيد الله، وكيف يقع في النفس هذا الانحراف.. وكأنما هو تصوير لانحراف جيل المشركين بعد أن كان أسلافهم الأولون على دين إبراهيم الحنيف: هو الذي خلقكم من نفس واحدة، وجعل منها زوجها ليسكن إليها، فلما تغشاها حملت حملا خفيفا فمرت به. فلما أثقلت دعوا الله ربهما: لئن آتيتنا صالحا لنكونن من الشاكرين. فلما [ ص: 1334 ] آتاهما صالحا جعلا له شركاء فيما آتاهما. فتعالى الله عما يشركون. أيشركون ما لا يخلق شيئا وهم يخلقون؟ ولا يستطيعون لهم نصرا ولا أنفسهم ينصرون؟

                                                                                                                                                                                                                                      .. إنه تمثيل للأجيال المتلاحقة بصورة الحالات المتتابعة في النفس الواحدة.. وهو تصوير ذو دلالات عجيبة في صدقها وفي جمالها جميعا..

                                                                                                                                                                                                                                      ولأن المقصود هو تمثيل حالة المشركين الذين كان هذا القرآن يواجههم فإن السياق ينتقل مباشرة من المثل إلى مخاطبتهم مواجهة، ويوجه الرسول - صلى الله عليه وسلم - إلى تحديهم هم وآلهتهم: وإن تدعوهم إلى الهدى لا يتبعوكم، سواء عليكم أدعوتموهم أم أنتم صامتون. إن الذين تدعون من دون الله عباد أمثالكم، فادعوهم فليستجيبوا لكم إن كنتم صادقين. ألهم أرجل يمشون بها؟ أم لهم أيد يبطشون بها؟ أم لهم أعين يبصرون بها؟ أم لهم آذان يسمعون بها؟ قل: ادعوا شركاءكم ثم كيدون فلا تنظرون. إن وليي الله الذي نزل الكتاب وهو يتولى الصالحين. والذين تدعون من دونه لا يستطيعون نصركم ولا أنفسهم ينصرون. وإن تدعوهم إلى الهدى لا يسمعوا. وتراهم ينظرون إليك وهم لا يبصرون ..

                                                                                                                                                                                                                                      وفي نهاية السورة يتجه الخطاب إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وإلى الأمة المسلمة. يوجهه إلى اليسر في أخذ الناس في هذه الدعوة ونهنهة النفس عن الغضب مما يبدر منهم من تقاعس واعتراض والاستعاذة من الشيطان الذي يثير الغضب ويحنق الصدر: خذ العفو. وأمر بالعرف وأعرض عن الجاهلين. وإما ينزغنك من الشيطان نزغ فاستعذ بالله، إنه سميع عليم. إن الذين اتقوا إذا مسهم طائف من الشيطان تذكروا فإذا هم مبصرون. وإخوانهم يمدونهم في الغي ثم لا يقصرون. وإذا لم تأتهم بآية قالوا: لولا اجتبيتها! قل: إنما أتبع ما يوحى إلي من ربي، هذا بصائر من ربكم وهدى ورحمة لقوم يؤمنون ..

                                                                                                                                                                                                                                      وهذا التوجيه يذكرنا بما ورد في مطلع السورة: كتاب أنزل إليك، فلا يكن في صدرك حرج منه، لتنذر به وذكرى للمؤمنين .. فهو يشي بثقل هذا العبء - عبء دعوة الناس، ومواجهة ما في نفوسهم من رواسب وركام وعقابيل، والتواءات وأغراض وشهوات، وغفلة وثقلة وتقاعس.. وضرورة الصبر..

                                                                                                                                                                                                                                      وضرورة اليسر.. وضرورة السير أيضا في الطريق! ثم توجيه إلى الزاد المعين على مشاق الطريق.. الاستماع والإنصات إلى القرآن.. وذكر الله في كل آن وفي كل حال. والحذر من الغفلة. والاقتداء بالمقربين من الملائكة في الذكر والعبادة: وإذا قرئ القرآن فاستمعوا له وأنصتوا لعلكم ترحمون. واذكر ربك في نفسك تضرعا وخيفة، ودون الجهر من القول بالغدو والآصال، ولا تكن من الغافلين. إن الذين عند ربك لا يستكبرون عن عبادته ويسبحونه وله يسجدون ..

                                                                                                                                                                                                                                      إنه زاد الطريق. وأدب العبادة. ومنهج المقربين الموصولين..

                                                                                                                                                                                                                                      وحسبنا هذه الإشارات المجملة لنواجه النصوص بالتفصيل..

                                                                                                                                                                                                                                      قال الملأ الذين استكبروا من قومه ... [ ص: 1335 ]

                                                                                                                                                                                                                                      التالي السابق


                                                                                                                                                                                                                                      الخدمات العلمية