الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
ونيسرك لليسرى

عطف على سنقرئك فلا تنسى . وجملة إنه يعلم الجهر وما يخفى معترضة كما علمت . وهذا العطف من عطف الأعم على الأخص في المآل وإن كان مفهوم الجملة السابقة مغايرا لمفهوم التيسير ; لأن مفهومها الحفظ والصيانة ومفهوم المعطوفة تيسير الخير له .

والتيسير : جعل العمل يسيرا على عامله .

ومفعول فعل التيسير هو الشيء الذي يجعل يسيرا ، أي : غير صعب ويذكر مع المفعول الشيء المجعول الفعل يسيرا لأجله مجرورا باللام كقوله تعالى : ويسر لي أمري .

[ ص: 282 ] واليسرى : مؤنث الأيسر ، وصيغة فعلى تدل على قوة الوصف لأنها مؤنث أفعل .

والموصوف محذوف ، وتأنيث الوصف مشعر بأن الموصوف المحذوف مما يجري في الكلام على اعتبار اسمه مؤنثا بأن يكون مفردا فيه علامة تأنيث أو يكون جمعا إذ المجموع تعامل معاملة المؤنث . فكان الوصف المؤنث مناديا على تقدير موصوف مناسب للتأنيث في لفظه ، وسياق الكلام الذي قبله يهدي إلى أن يكون الموصوف المقدر معنى الشريعة ، فإن خطاب الرسول صلى الله عليه وسلم في القرآن مراعى فيه وصفه العنواني وهو أنه رسول ، فلا جرم أن يكون أول شئونه هو ما أرسل به وهو الشريعة .

وقوله : ونيسرك لليسرى إن حمل على ظاهر نظم الكلام وهو ما جرى عليه المفسرون ، فالتيسير مستعار للتهيئة والتسخير ، أي : قوة تمكينه صلى الله عليه وسلم من اليسرى وتصرفه فيها بما يأمر الله به ، أي : نهيئك للأمور اليسرى في أمر الدين وعواقبه من تيسير حفظ القرآن لك ، وتيسير الشريعة التي أرسلت بها ، وتيسير الخير لك في الدنيا والآخرة . وهذه الاستعارة تحسنها المشاكلة .

ومعنى اللام في قوله : لليسرى العلة ، أي : لأجل اليسرى ، أي : لقبولها ، ونحوه قول النبيء صلى الله عليه وسلم كل ميسر لما خلق له وتكون هذه الآية على مهيع قوله تعالى : فسنيسره لليسرى وقوله : فسنيسره للعسرى في سورة الليل .

ويجوز أن يجعل الكلام جاريا على خلاف مقتضى الظاهر بسلوك أسلوب القلب وأن الأصل : ونيسر لك اليسرى ، أي : نجعلها سهلة لك فلا تشق عليك فيبقى فعل نيسرك على حقيقته ، وإنما خولف عمله في مفعوله والمجرور المتعلق به على عكس الشائع في مفعوله والمجرور المتعلق به .

وفي وصفها بـ اليسرى إيماء إلى استتباب تيسره لها بما أنها جعلت يسرى ، فلم يبق إلا حفظه من الموانع التي يشق معها تلقي اليسرى .

فاشتمل الكلام على تيسيرين : تيسير ما كلف به النبيء صلى الله عليه وسلم ، أي : جعله يسيرا مع وفائه بالمقصود منه ، وتيسير النبيء صلى الله عليه وسلم للقيام بما كلف به .

[ ص: 283 ] ويوجه العدول على مقتضى ظاهر النظم إلى ما جاء النظم عليه ، بأن فيه تنزيل الشيء الميسر منزلة الشيء الميسر له والعكس للمبالغة في ثبوت الفعل للمفعول على طريقة القلب المقبول ، كقول العرب : عرضت الناقة على الحوض ، وقول العجاج :


ومهمه مغبرة أرجـاؤه كأن لون أرضه سماؤه



وقد ورد القلب في آيات من القرآن ومنها قوله تعالى : ما إن مفاتحه لتنوء بالعصبة أولي القوة ومنه القلب التشبيه المقلوب .

والمعنى : وعد الله إياه بأنه يسره لتلقي أعباء الرسالة فلا تشق عليه ولا تحرجه تطمينا له ، إذ كان في أول أمر إرساله مشفقا أن لا يفي بواجباتها ، أي أن الله جعله قابلا لتلقي الكمالات وعظائم تدبير الأمة التي من شأنها أن تشق على القائمين بأمثالها .

ومن آثار هذا التيسير ما ورد في الحديث أن رسول الله صلى الله عليه وسلم ما خير بين أمرين إلا اختار أيسرها ، وقوله صلى الله عليه وسلم لأصحابه إنما بعثتم ميسرين لا معسرين .

التالي السابق


الخدمات العلمية