الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                                                                      صفحة جزء
                                                                                                                                                                                                                                      وفي نهاية هذه المحاجة يوجه الله سبحانه رسوله صلى الله عليه وسلم أن يتحداهم ويتحدى آلهتهم العاجزة - كلها - وأن يعلن عن عقيدته الناصعة في تولي الله - وحده - له:

                                                                                                                                                                                                                                      قل: ادعوا شركاءكم ثم كيدون فلا تنظرون. إن وليي الله الذي نزل الكتاب، وهو يتولى الصالحين. والذين تدعون من دونه لا يستطيعون نصركم ولا أنفسهم ينصرون.. وإن تدعوهم إلى الهدى لا يسمعوا، وتراهم ينظرون إليك وهم لا يبصرون ..

                                                                                                                                                                                                                                      إنها كلمة صاحب الدعوة، في وجه الجاهلية.. ولقد قالها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كما أمره ربه وتحدى بها المشركين في زمانه وآلهتهم المدعاة:

                                                                                                                                                                                                                                      قل ادعوا شركاءكم ثم كيدون فلا تنظرون ..

                                                                                                                                                                                                                                      لقد قذف في وجوههم ووجوه آلهتهم المدعاة بهذا التحدي.. وقال لهم: ألا يألوا جهدا في جمع كيدهم وكيد آلهتهم بلا إمهال ولا إنظار! وقالها في لهجة الواثق المطمئن إلى السند الذي يرتكن إليه. ويحتمي به من كيدهم جميعا: [ ص: 1416 ] إن وليي الله، الذي نزل الكتاب، وهو يتولى الصالحين ..

                                                                                                                                                                                                                                      فأعلن بها عمن إليه يرتكن. إنه يرتكن إلى الله.. الذي نزل الكتاب.. فدل بتنزيله على إرادته - سبحانه - في أن يواجه رسوله الناس بالحق الذي فيه كما قدر أن يعلي هذا الحق على باطل المبطلين.. وأن يحمي عباده الصالحين الذين يبلغونه ويحملونه ويثقون فيه.

                                                                                                                                                                                                                                      وإنها لكلمة صاحب الدعوة إلى الله - بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم - في كل مكان وفي كل زمان:

                                                                                                                                                                                                                                      قل: ادعوا شركاءكم ثم كيدون فلا تنظرون .. إن وليي الله الذي نزل الكتاب وهو يتولى الصالحين .

                                                                                                                                                                                                                                      إنه لا بد لصاحب الدعوة إلى الله أن يتجرد من أسناد الأرض وأن يستهين كذلك بأسناد الأرض..

                                                                                                                                                                                                                                      إنها في ذاتها واهية واهنة، مهما بدت قوية قادرة: يا أيها الناس ضرب مثل فاستمعوا له: إن الذين تدعون من دون الله لن يخلقوا ذبابا ولو اجتمعوا له، وإن يسلبهم الذباب شيئا لا يستنقذوه منه. ضعف الطالب والمطلوب! .. مثل الذين اتخذوا من دون الله أولياء كمثل العنكبوت اتخذت بيتا، وإن أوهن البيوت لبيت العنكبوت لو كانوا يعلمون! ..

                                                                                                                                                                                                                                      وصاحب الدعوة إلى الله يرتكن إلى الله. فما هذه الأولياء والأسناد الأخرى إذن؟ وماذا تساوي في حسه حتى لو قدرت على أذاه؟! إنما تقدر على أذاه بإذن ربه الذي يتولاه. لا عجزا من ربه عن حمايته من أذاها - سبحانه وتعالى! - ولا تخليا منه سبحانه عن نصرة أوليائه.. ولكن ابتلاء لعباده الصالحين للتربية والتمحيص والتدريب. واستدراجا لعباده الطالحين للإعذار والإمهال والكيد المتين! لقد كان أبو بكر - رضي الله عنه - يردد، والمشركون يتناولونه بالأذى ويضربون وجهه الكريم بالنعال المخصوفة يحرفونها إلى عينيه ووجهه، حتى تركوه وما يعرف له فم من عين! .. كان يردد طوال هذا الاعتداء المنكر الفاجر على أكرم من أقلت الأرض بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم: " رب ما أحلمك! رب ما أحلمك! رب ما أحلمك! ... " كان يعرف في قرارة نفسه ما وراء هذا الأذى من حلم ربه! لقد كان واثقا أن ربه لا يعجز عن التدمير على أعدائه كما كان واثقا أن ربه لا يتخلى عن أوليائه! ولقد كان عبد الله بن مسعود - رضي الله عنه - يقول، وقد تناوله المشركون بالأذى - لأنه أسمعهم القرآن في ناديهم إلى جوار الكعبة - حتى تركوه وهو يترنح لا يصلب قامته! .. كان يقول بعد هذا الأذى المنكر الفاجر الذي ناله: " والله ما كانوا أهون علي منهم حينذاك! " .. كان يعرف أنهم يحادون الله - سبحانه - وكان يستيقن أن الذي يحاد الله مغلوب هين على الله. فينبغي أن يكون مهينا عند أولياء الله.

                                                                                                                                                                                                                                      ولقد كان عبد الله بن مظعون - رضي الله عنه - يقول، وقد خرج من جوار عتبة بن ربيعة المشرك، لأنه لم يستسغ لنفسه أن يحتمي بجوار مشرك فيكف عنه الأذى، وإخوان له في الله يؤذون في سبيل الله.

                                                                                                                                                                                                                                      وقد تجمع عليه المشركون - بعد خروجه من جوار عتبة - فآذوه حتى خسروا عينه.. كان يقول لعتبة وهو يراه في هذه الحال فيدعوه أن يعود إلى جواره: " لأنا في جوار من هو أعز منك! " .. وكان يرد على عتبة إذ قال له: " يا ابن أخي لقد كانت عينك في غنى عما أصابها! " .. يقول: " لا والله. وللأخرى أحق لما يصلحها في سبيل الله! " .. كان يعلم أن جوار ربه أعز من جوار العبيد. وكان يستيقن أن ربه لا يتخلى عنه، ولو تركه يؤذى في سبيله هذا الأذى لترتفع نفسه إلى هذا الأفق العجيب: " لا والله. وللأخرى أحق لما يصلحها في سبيل الله " .. [ ص: 1417 ] هذه نماذج من ذلك الجيل السامق الذي تربى بالقرآن في حجر محمد - صلى الله عليه وسلم - في ظلال ذلك التوجيه الرباني الكريم:

                                                                                                                                                                                                                                      قل: ادعوا شركاءكم ثم كيدون فلا تنظرون. إن وليي الله الذي نزل الكتاب، وهو يتولى الصالحين ..

                                                                                                                                                                                                                                      ثم ماذا كان بعد هذا الأذى الذي احتملوه من كيد المشركين. وهذا الاعتصام بالله الذي نزل الكتاب وهو يتولى الصالحين؟

                                                                                                                                                                                                                                      كان ما يعرفه التاريخ! كانت الغلبة والعزة والتمكين لأولياء الله. وكانت الهزيمة والهوان والدثور للطواغيت الذين قتلهم الصالحون. وكانت التبعية ممن بقي منهم - ممن شرح الله صدره للإسلام - لهؤلاء السابقين، الذين احتملوا الأذى بثقة في الله لا تتزعزع، وبعزمة في الله لا تلين! إن صاحب الدعوة إلى الله - في كل زمان وفي كل مكان - لن يبلغ شيئا إلا بمثل هذه الثقة، وإلا بمثل هذه العزمة، وإلا بمثل ذلك اليقين:

                                                                                                                                                                                                                                      إن وليي الله الذي نزل الكتاب وهو يتولى الصالحين ..

                                                                                                                                                                                                                                      لقد أمر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن يتحدى المشركين. فتحداهم. وأمر أن يبين لهم عجز آلهتهم وسخف الشرك بها فبين لهم:

                                                                                                                                                                                                                                      والذين تدعون من دونه لا يستطيعون نصركم ولا أنفسهم ينصرون ..

                                                                                                                                                                                                                                      وإن تدعوهم إلى الهدى لا يسمعوا، وتراهم ينظرون إليك وهم لا يبصرون ..

                                                                                                                                                                                                                                      وإذا كان هذا التقرير ينطبق على آلهة الوثنية الساذجة في جاهلية العرب القديمة.. فإنه ينطبق كذلك على كل الآلهة المدعاة في الجاهلية الحديثة..

                                                                                                                                                                                                                                      إن هؤلاء المشركين الجدد يدعون من دون الله أولياء من أصحاب السلطان الظاهر في الأرض! ولكن هؤلاء الأولياء لا يستطيعون نصرهم ولا أنفسهم ينصرون. حين يجري قدر الله بما يشاء في أمر العباد في الموعد المرسوم.

                                                                                                                                                                                                                                      وإذا كانت آلهة العرب الساذجة لا تسمع، وعيونها المصنوعة من الخرز أو الجوهر تنظر ولا تبصر! فإن بعض الآلهة الجديدة كذلك لا تسمع ولا تبصر.. الوطن. والقوم. والإنتاج. والآلة. وحتمية التاريخ! إلى آخر تلك الآلهة المدعاة في الجاهلية الحديثة! والذي يبصر منها ويسمع - وهي الآلهة المدعاة من البشر، التي تعطى خصائص الألوهية فتشرع بأمرها وتحكم - هي كذلك لا تسمع ولا تبصر.. هي من الذين يقول الله فيهم: ولقد ذرأنا لجهنم كثيرا من الجن والإنس، لهم قلوب لا يفقهون بها، ولهم أعين لا يبصرون بها، ولهم آذان لا يسمعون بها.. أولئك كالأنعام بل هم أضل، أولئك هم الغافلون ! إن صاحب الدعوة إلى الله، إنما يصادف حالة واحدة من الجاهليات المتعددة.. وإنما ينبغي أن يقول ما أمر الله سبحانه نبيه صلى الله عليه وسلم أن يقول:

                                                                                                                                                                                                                                      قل: ادعوا شركاءكم ثم كيدون فلا تنظرون. إن وليي الله الذي نزل الكتاب وهو يتولى الصالحين. والذين تدعون من دونه لا يستطيعون نصركم ولا أنفسهم ينصرون. وإن تدعوهم إلى الهدى لا يسمعوا وتراهم ينظرون إليك وهم لا يبصرون .. فإنما هم هم.. في كل أرض وفي كل حين!!!

                                                                                                                                                                                                                                      التالي السابق


                                                                                                                                                                                                                                      الخدمات العلمية