الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
صفحة جزء
فصل كما انقسم الإيجاز إلى إيجاز قصر وإيجاز حذف، كذلك انقسم الإطناب إلى بسط وزيادة. فالأول الإطناب بتكثير الجمل، كقوله: إن في خلق السماوات والأرض . في سورة البقرة، أبلغ في إطنابها لكون الخطاب مع الثقلين وفي كل عصر وحين، للعالم منهم والجاهل، والموافق والمنافق. وقوله: الذين يحملون العرش ومن حوله يسبحون بحمد ربهم ويؤمنون به ويستغفرون . فقوله: ويؤمنون به إطناب، لأن إيمان حملة العرش معلوم وحسنه إظهار شرف الإيمان ترغيبا فيه. وويل للمشركين الذين لا يؤتون الزكاة ، وليس من المشركين مزك، والنكتة الحث للمؤمنين على أدائها، والتحذير من المنع منها حيث جعلها من أوصاف المشركين. والثاني يكون بأنواع: أحدها: دخول حرف فأكثر من حروف التأكيد الآتية في نوع الأدوات. وهي: إن، وأن، ولام الابتداء، والقسم، وألا الاستفتاحية، وأما، وها التنبيه، وكأن في تأكيد التشبيه، ولكن في تأكيد الاستدراك، وليت في تأكيد التمني، ولعل في تأكيد الترجي، وضمير الشأن، وضمير الفصل، وإما في تأكيد الشرط، وقد، والسين، وسوف، والنونان في تأكيد الفعلية، ولا التبرئة، ولن ولما في تأكيد النفي. وإنما يحسن تأكيد الكلام بها إذا كان المخاطب بها منكرا أو مترددا. [ ص: 253 ] ويتفاوت التأكيد بحسب قوة الإنكار وضعفه، كقوله تعالى حكاية عن رسل عيسى إذ كذبوا في المرة الأولى: إنا إليكم لمرسلون . فأكد بأن، واسمية الجملة. وفي المرة الثانية: ربنا يعلم إنا إليكم لمرسلون . فأكد بالقسم، وإن، واللام، واسمية الجملة، لمبالغة المخاطبين في الإنكار، حيث قالوا: ما أنتم إلا بشر مثلنا وما أنزل الرحمن من شيء إن أنتم إلا تكذبون . وقد يؤكد بها والمخاطب به غير منكر، لعدم جريه على مقتضى إقراره. فينزل منزلة المنكر. وقد يترك التأكيد وهو معه منكر، لأن معه أدلة ظاهرة لو تأملها لرجع عن إنكاره، وعلى ذلك يخرج: ثم إنكم بعد ذلك لميتون ثم إنكم يوم القيامة تبعثون . أكد الموت تأكيدين، وإن لم ينكر، لتنزيل المخاطبين - لتماديهم في الغفلة - تنزيل من ينكر الموت. وأكد إثبات البعث تأكيدا واحدا وإن كان أشد نكيرا، لأنه لما كانت أدلته ظاهرة كان جديرا بألا ينكر، فنزل المخاطبون منزلة غير المنكر، حثا لهم على النظر في أدلته الواضحة. ونظيره قوله تعالى: لا ريب فيه . نفى عنه الريب بلا على سبيل الاستغراق، مع أنه ارتاب فيه المرتابون، لكن نزل منزلة العدم، تعويلا على ما مر به من الأدلة الباهرة، كما نزل الإنكار منزلة عدمه لذلك. قال الزمخشري: بولغ في تأكيد الموت، تنبيها للإنسان على أن يكون الموت نصب عينيه، ولا يغفل عن ترقبه، فإن مآله إليه، فكأنه أكد جملته ثلاث مرات لهذا المعنى، لأن الإنسان في الدنيا يسعى فيها غاية السعي حتى كأنه يخلد، ولم [ ص: 254 ] يؤكد جملة البعث إلا بأن أبرز في صورة المقطوع به الذي لا يمكن فيه نزاع ولا يقبل إنكارا. وقال التاج بن الفركاح: أكد الموت ردا على الدهرية القائلين ببقاء النوع الإنساني خلفا عن سلف، واستغنى عن تأكيد البعث هنا، لتأكيده، والرد على منكره - في مواضع، كقوله تعالى: بلى وربي لتبعثن . وقال غيره: لما كان العطف يقتضي الاشتراك استغني عن إعادة اللام لذكرها في الأول. وقد يؤكد بها للمستشرف الطالب الذي قدم له ما يلوح بالخبر، فاستشرفت نفسه إليه، نحو: ولا تخاطبني في الذين ظلموا أي لا تدعني يا نوح في شأن قومك، فهذا الكلام يلوح بالخبر تلويحا، ويشعر بأنه قد حق عليهم العذاب، فصار المقام مقام أن يتردد المخاطب في أنهم هل صاروا محكوما عليهم بذلك أم لا. فقيل: إنهم مغرقون - بالتأكيد. وكذا قوله: يا أيها الناس اتقوا ربكم . لما أمرهم بالتقوى، وظهور ثمرتها، والعقاب على تركها محله الآخرة، تشوفت نفوسهم إلى وصف حال الساعة، فقال: إن زلزلة الساعة شيء عظيم - بالتأكيد، ليتقرر عليه الوجوب. وكذا قوله: وما أبرئ نفسي ، فيه تحيير للمخاطب، وتردد في أنه كيف لا يبرئ نفسه، وهي بريئة زكية ثبتت عصمتها وعدم مواقعتها السوء، فأكده بقوله: إن النفس لأمارة بالسوء . وقد يؤكد لقصد الترغيب، نحو: فتاب عليه إنه هو التواب الرحيم أكد بأربع تأكيدات، ترغيبا للعباد في التوبة. [ ص: 255 ] وسيأتي الكلام في أدوات التأكيد ومعانيها ومواقعها في حروف المعجم.

فائدة إذا اجتمعت إن واللام كان بمنزلة تكرير الجملة ثلاث مرات، لأن إن أفادت التكرير مرتين، فإذا دخلت اللام صارت ثلاثا. وعن الكسائي أن اللام لتوكيد الخبر، وإن لتوكيد الاسم، وفيه تجوز، لأن التوكيد للنسبة، لا للاسم ولا للخبر، وكذلك نون التوكيد الشديدة بمنزلة تكرير الفعل ثلاثا، والخفيفة بمنزلة تكريره مرتين. وقال سيبويه - في نحو: " يا أيها ": الألف والهاء لحقت " أيا " توكيدا. فكأنك كررت " يا " مرتين، وصار الاسم تنبيها. هذا كلامه، وتبعه الزمخشري. فائدة قوله تعالى: ويقول الإنسان أإذا ما مت لسوف أخرج حيا . قال الجرجاني في نظم القرآن: ليست اللام فيه للتأكيد، فإنه منكر. فكيف يحقق ما ينكر، وإنما قاله حكاية لكلام النبي - صلى الله عليه وسلم - الصادر منه بأداة التأكيد، فحكاه، فنزلت الآية على ذلك.

النوع الثاني: دخول الأحرف الزائدة : قال ابن جني: كل حرف زيد في كلام العرب فهو قائم مقام إعادة الجملة مرة أخرى. وقال الزمخشري في كشافه القديم: الباء في خبر ما وليس لتأكيد النفي، كما أن اللام لتأكيد الإيجاب. وسئل بعضهم عن التأكيد بالحرف وما معناه إذ إسقاطه لا يخل بالمعنى. فقال: هذا يعرفه أهل الطباع، يجدون من زيادة الحرف معنى لا يجدونه بإسقاطه. قال: ونظيره العارف بوزن الشعر طبعا إذا تغير عليه البيت بنقص أنكره، [ ص: 256 ] وقال: أجد في نفسي خلاف ما أجدها في إقامة الوزن، فكذلك هذه الحروف تتغير نفس المطبوع بنقصانها ويجد في نفسه بزيادتها على معنى بخلاف ما يجدها بنقصانها. ثم باب الزيادة للحروف وزيادة الأفعال قليل، والأسماء أقل. أما الحروف فيزاد منها إن، وأن، وإذ، وإذا، وإلى، وأم، والباء، والفاء. وفي، واللام، ولا، وما، ومن، والواو، وستأتي في حروف المعجم مشروحة. وأما الأفعال فزيد منها " كان "، وخرج عليه: كيف نكلم من كان في المهد صبيا . وأصبح، وخرج عليه: فأصبحوا خاسرين . وقال الرماني: العادة أن من به علة تزاد في الليل أن يرجو الفرج عند الصباح، فاستعمل أصبح، لأن الخسران حصل في الوقت الذي يرجو فيه الفرج، فليست زائدة. وأما الأسماء فنص أكثر النحويين على أنها لا تزاد، ووقع في كلام المفسرين الحكم عليها بالزيادة في مواضع، كلفظ " مثل " في قوله: فإن آمنوا بمثل ما آمنتم به ، أي بما. النوع الثالث: التأكيد الصناعي ، وهو أربعة أقسام: أحدها: التوكيد المعنوي بكل، وأجمع، وكلا، وكلتا، نحو: فسجد الملائكة كلهم أجمعون .

وفائدته رفع توهم المجاز وعدم الشمول، وادعى الفراء أن " كلهم " أفادت ذلك، وأجمعون أفادت اجتماعهم على السجود، وأنهم لم يسجدوا متفرقين. ثانيها: التأكيد اللفظي، وهو تكرار اللفظ الأول إما بمرادفه، نحو: " ضيقا حرجا " . - بكسر الراء. " غرابيب سود " . وجعل منه الصفار: فيما إن مكناكم فيه ، على القول بأن كليهما للنفي. [ ص: 257 ] وجعل منه غيره: قيل ارجعوا وراءكم فالتمسوا نورا . فوراء ليست ها هنا ظرفا، لأن لفط ارجعوا ينبئ عنه، بل هو اسم فعل بمعنى ارجعوا، فكأنه قال: ارجعوا ارجعوا. وإما بلفظه، فيكون في الاسم والفعل والحرف والجملة. فالاسم نحو: قواريرا قوارير دكا دكا ، صفا صفا . والفعل، نحو: فمهل الكافرين أمهلهم رويدا . واسم الفعل، نحو: هيهات هيهات لما توعدون . والحرف، نحو: ففي الجنة خالدين فيها . أيعدكم أنكم إذا متم وكنتم ترابا وعظاما أنكم مخرجون . والجملة، نحو: فإن مع العسر يسرا إن مع العسر يسرا . والأحسن اقتران الثانية بثم، نحو: وما أدراك ما يوم الدين ثم ما أدراك ما يوم الدين . كلا سوف تعلمون ثم كلا سوف تعلمون . ومن هذا النوع تأكيد الضمير المتصل بالمنفصل، نحو: اسكن أنت وزوجك الجنة . فاذهب أنت وربك . وإما أن نكون نحن الملقين . ومنه تأكيد المنفصل بمثله: وهم بالآخرة هم كافرون . ثالثها: تأكيد الفعل بمصدره، وهو عوض من تكرار الفعل مرتين، وفائدته رفع توهم المجاز في الفعل، بخلاف التوكيد السابق، فإنه لرفع توهم المجاز في المسند إليه كذا فرق به ابن عصفور وغيره. ومن ثم رد بعض أهل السنة على بعض المعتزلة في دعواهم نفي التكليم حقيقة بقوله: وكلم الله موسى تكليما . لأن التوكيد رفع المجاز في الفعل. ومن أمثلته: وسلموا تسليما . يوم تمور السماء مورا وتسير الجبال سيرا . جزاؤكم جزاء موفورا . وليس منه: وتظنون بالله الظنونا ، بل هو جمع ظن، لاختلاف أنواعه. وأما [ ص: 258 ] إلا أن يشاء ربي شيئا ، فيحتمل أن يكون منه، وأن يكون الشيء بمعنى الأمر والشأن. والأصل في هذا النوع أن ينعت بالوصف المراد، نحو: اذكروا الله ذكرا كثيرا . وسرحوهن سراحا جميلا . وقد يضاف وصفه إليه، نحو: اتقوا الله حق تقاته . وقد يؤكد بمصدر فعل آخر، أو اسم عين نيابة عن المصدر، نحو: وتبتل إليه تبتيلا . والمصدر تبتلا، والتبتيل مصدر بتل. أنبتكم من الأرض نباتا ، أي إنباتا، إذ النبات اسم عين. رابعها: الحال المؤكدة، نحو: ويوم أبعث حيا . ولا تعثوا في الأرض مفسدين . وأرسلناك للناس رسولا . ثم توليتم إلا قليلا منكم وأنتم معرضون . وأزلفت الجنة للمتقين غير بعيد . وليس منه: ولى مدبرا ، لأن التولي قد لا يكون إدبارا، بدليل قوله: فول وجهك شطر المسجد الحرام ولا: فتبسم ضاحكا ، لأن التبسم قد لا يكون ضحكا. ولا: وهو الحق مصدقا ، لاختلاف المعنيين، إذ كونه حقا في نفسه غير كونه مصدقا لما قبله.

النوع الرابع: التكرير ، وهو أبلغ من التأكيد، وهو من محاسن الفصاحة. خلافا لبعض من غلط. وله فوائد: منها: التقرير، وقد قيل: إن الكلام إذا تكرر تقرر، وقد نبه تعالى على السبب الذي لأجله كرر القصص والإنذار بقوله: وصرفنا فيه من الوعيد لعلهم يتقون أو يحدث لهم ذكرا . ومنها: التأكيد. ومنها: زيادة التنبيه على ما ينفي التهمة، ليكمل تلقي الكلام بالقبول، ومنه: وقال الذي آمن يا قوم اتبعون أهدكم سبيل الرشاد يا قوم إنما هذه الحياة الدنيا [ ص: 259 ] متاع وإن الآخرة هي دار القرار فإنه كرر فيه النداء لذلك. ومنها: إذا طال الكلام وخشي تناسي الأول أعيد ثانيا تطرية له وتجديدا لعهده، ومنه: ثم إن ربك للذين عملوا السوء بجهالة ثم تابوا من بعد ذلك وأصلحوا إن ربك من بعدها لغفور رحيم . ثم إن ربك للذين هاجروا من بعد ما فتنوا ثم جاهدوا وصبروا إن ربك من بعدها لغفور رحيم . ولما جاءهم كتاب من عند الله مصدق لما معهم وكانوا من قبل يستفتحون على الذين كفروا فلما جاءهم ما عرفوا كفروا به . لا تحسبن الذين يفرحون بما أتوا ويحبون أن يحمدوا بما لم يفعلوا فلا تحسبنهم بمفازة من العذاب . إني رأيت أحد عشر كوكبا والشمس والقمر رأيتهم لي ساجدين . ومنها: التعظيم والتهويل، نحو: الحاقة ما الحاقة. القارعة ما القارعة. وأصحاب اليمين ما أصحاب اليمين. فإن قلت: هذا النوع أحد أقسام النوع قبله، فإن منها التوكيد بتكرار اللفظ، فلا يحسن عده نوعا مستقلا. قلت: هو يجامعه ويفارقه، ويزيد عليه وينقص عنه، فصار أصلا برأسه. فإنه قد يكون التأكيد تكرارا كما تقدم في أمثلته، وقد لا يكون تكرارا كما تقدم أيضا. وقد يكون التكرير غير تأكيد صناعة وإن كان مفيدا للتأكيد معنى. ومنه ما وقع فيه الفصل بين المكررين، فإن التأكيد لا يفصل بينه وبين مؤكده، نحو: اتقوا الله ولتنظر نفس ما قدمت لغد واتقوا الله . إن الله اصطفاك وطهرك واصطفاك على نساء العالمين . فالآيتان من باب التكرير، لا التأكيد اللفظي الصناعي. ومنه الآيات المتقدمة في التكرير للطول. [ ص: 260 ] ومنه ما كان لتعدد المتعلق، بأن يكون المكرر ثانيا متعلقا بغير ما تعلق به الأول. وهذا القسم يسمى بالترديد، كقوله: الله نور السماوات والأرض مثل نوره كمشكاة فيها مصباح المصباح في زجاجة الزجاجة كأنها كوكب دري يوقد من شجرة مباركة . وقد وقع فيها الترديد أربع مرات. وجعل منه قوله تعالى: فبأي آلاء ربكما تكذبان في سورة الرحمن. فإنها تكررت نيفا وثلاثين مرة، كل واحدة تتعلق بما قبلها، ولذلك زادت على ثلاثة، ولو كان عائدا على شيء واحد لما زاد على ثلاثة، لأن التأكيد لا يزيد عليها، قاله ابن عبد السلام وغيره. وإن كان بعضها ليس بنعمة فذكر النقمة للتحذير نعمة. وقد سئل: أي نعمة في قوله: كل من عليها فان ، فأجاب بأجوبة أحسنها النقلة من دار الهموم إلى دار السرور، وإراحة المؤمن من الكافر، والبار من الفاجر. وكذا قوله: ويل يومئذ للمكذبين ، في سورة المرسلات، لأنه تعالى ذكر قصصا مختلفة، وأتبع كل قصة بهذا القول، كأنه قال عقب كل قصة: ويل للمكذب بهذه القصة. وكذا قوله في سورة الشعراء: إن في ذلك لآية وما كان أكثرهم مؤمنين وإن ربك لهو العزيز الرحيم . كررت ثمان مرات، كل مرة عقب كل قصة، فالإشارة في كل واحدة بذلك إلى قصة النبي المذكور قبلها، وما اشتملت عليه من الآيات والعبر. وبقوله وما كان أكثرهم مؤمنين إلى قومه خاصة، ولما كان مفهومه أن الأقل من قومه آمنوا أتى بوصفي العزيز الرحيم، للإشارة إلى أن العزة على من لا يؤمن منهم والرحمة لمن آمن. وكذا قوله في سورة القمر: ولقد يسرنا القرآن للذكر فهل من مدكر . قال الزمخشري: كرر ليجددوا عند سماع كل نبأ منها اتعاظا وتنبيها، وأن كلا من تلك الأنباء مستحق لاعتبار يختص به، وأن يتنبهوا كي لا يغلبهم السرور والغفلة. [ ص: 261 ] قال في عروس الأفراح: فإن قلت: إذا كان المراد بكل ما قبله فليس بإطناب، بل هي ألفاظ، كل أريد به في ما أريد بالآخر. قلت: إذا قلنا العبرة بعموم اللفظ فكل واحد أريد به ما أريد بالآخر ولكن كرر ليكون نصا فيما يليه وظاهرا في غيره. فإن قلت: يلزم التأكيد. قلت: والأمر كذلك، ولا يرد عليه أن التأكيد لا يزاد عليه عن ذلك، لأن ذلك في التأكيد الذي هو تابع. أما ذكر الشيء في مقامات متعددة أكثر من ثلاثة فلا يمتنع. انتهى. ويقرب من ذلك ما ذكره ابن جرير في قوله تعالى: ولله ما في السماوات وما في الأرض ولقد وصينا الذين أوتوا الكتاب من قبلكم وإياكم أن اتقوا الله وإن تكفروا فإن لله ما في السماوات وما في الأرض وكان الله غنيا حميدا ولله ما في السماوات وما في الأرض وكفى بالله وكيلا . قال: فإن قيل: ما وجه تكرار قوله: " ولله ما في السماوات وما في الأرض " في آيتين إحداهما في أثر الأخرى؟. قلت: لاختلاف معنى الخبرين عما في السماوات والأرض، وذلك أن الخبر عنه في إحدى الآيتين ذكر حاجته إلى بارئه، وغنى بارئه عنه، وفي الأخرى حفظ بارئه إياه، وعلمه به وبتدبيره. قال: فإن قيل: أفلا قيل: وكان الله غنيا حميدا، وكفى بالله وكيلا؟. قيل: ليس في الآية الأولى ما يصلح أن تختم بوصفه معه بالحفظ والتدبير. انتهى. وقال تعالى: وإن منهم لفريقا يلوون ألسنتهم بالكتاب لتحسبوه من الكتاب وما هو من الكتاب . قال الراغب: الكتاب الأول ما كتبوه بأيديهم المذكور في قوله تعالى: [ ص: 262 ] فويل للذين يكتبون الكتاب بأيديهم . والكتاب الثاني التوراة. والثالث لجنس كتب الله كلها، أي ما هو من شيء من كتب الله وكلامه. ومن أمثلة ما يظن أنه تكرار وليس منه: قل يا أيها الكافرون لا أعبد ما تعبدون . فإن لا أعبد ما تعبدون أي في المستقبل، ولا أنتم عابدون أي في الحال، ما أعبد في المستقبل، ولا أنا عابد أي في الحال. ما عبدتم في الماضي. ولا أنتم عابدون، أي في المستقبل. ما أعبد أي في الحال. والحاصل أن القصد نفي عبادته لآلهتهم في الأزمنة الثلاثة، وكذا: فاذكروا الله عند المشعر الحرام واذكروه كما هداكم . ثم قال: فإذا قضيتم مناسككم فاذكروا الله كذكركم آباءكم أو أشد ذكرا . ثم قال: واذكروا الله في أيام معدودات . فإن المراد بكل واحد من هذه الأذكار غير المراد بالآخر، فالأول الذكر بالمزدلفة عند الوقوف بقزح، وقوله: واذكروه كما هداكم إشارة إلى تكرره ثانيا وثالثا. ويحتمل أن يراد به طواف الإفاضة، بدليل تعقيبه بقوله: فإذا قضيتم مناسككم . والذكر الثالث إشارة إلى رمي جمرة العقبة. والذكر الأخير لرمي أيام التشريق. ومنه تكرير حرف الإضراب في قوله: قالوا أضغاث أحلام بل افتراه بل هو شاعر . وقوله: بل ادارك علمهم في الآخرة بل هم في شك منها بل هم منها عمون . ومنه قوله: ومتعوهن على الموسع قدره وعلى المقتر قدره متاعا بالمعروف حقا على المحسنين . ثم قال: وللمطلقات متاع بالمعروف حقا على المتقين . فكرر الثاني ليعم كل مطلقة، فإن الآية الأولى في المطلقات قبل الفرض والمسيس خاصة. وقيل: لأن الأولى لا تشعر بالوجوب، ولهذا لما نزلت، قال بعض الصحابة: إن شئت أحسنت وإن شئت فلا، فنزلت الثانية، قاله ابن جرير. [ ص: 263 ] ومن ذلك تكرير الأمثال، كقوله: وما يستوي الأعمى والبصير ولا الظلمات ولا النور ولا الظل ولا الحرور وما يستوي الأحياء ولا الأموات. وكذلك ضرب مثل المنافقين أول البقرة، بالمستوقدين نارا، ثم ضربه بأصحاب الصيب، قال الزمخشري: والثاني أبلغ من الأول، لأنه أدل على فرط الحيرة وشدة الأمر وفظاعته، قال: ولذلك أخر، وهم يتدرجون في نحو هذا من الأهون إلى الأغلظ. ومن ذلك تكرير القصص، كقصة آدم وموسى ونوح وغيرهم من الأنبياء. قال بعضهم: ذكر الله موسى في كتابه في مائة وعشرين موضعا. وقال ابن العربي في القواصم: ذكر الله قصة نوح في خمسة وعشرين موضعا. وقصة موسى في تسعين آية. وقد ألف البدر بن جماعة كتابا سماه المقتنص في فوائد تكرير القصص. وذكر في فوائده: أن في كل موضع زيادة شيء لم يذكر في الذي قبله، أو إبدال كلمة بأخرى لنكتة، وهذه عادة البلغاء. ومنها: أن الرجل كان يسمع القصة من القرآن، ثم يعود إلى أهله ثم يهاجر بعده آخرون يحكون ما نزل بعد صدور من بعدهم، فلولا تكرار القصص لوقعت قصة موسى إلى قوم وقصة عيسى إلى آخرين، وكذا سائر القصص. فأراد الله اشتراك الجميع فيها، فيكون فيه إفادة لقوم وزيادة تأكيد لآخرين. ومنها: أن في إبراز الكلام الواحد في فنون كثيرة وأساليب مختلفة ما لا يخفى من الفصاحة. ومنها: أن الدواعي لا تتوفر على نقلها كتوفرها على نقل الأحكام، فلهذا كررت القصص دون الأحكام. [ ص: 264 ] ومنها: أنه تعالى أنزل هذا القرآن، وعجز القوم عن الإتيان بمثله، ثم أوضح الأمر في عجزهم بأن كرر ذكر القصة في مواضع إعلاما بأنهم عاجزون عن الإتيان بمثله بأي نظم جاءوا وبأي عبارة عبروا. ومنها: أنه لما تحداهم قال: فأتوا بسورة من مثله . فلو ذكرت القصة في موضع واحد، واكتفى بها لقال العربي: ائتونا أنتم بسورة من مثله، فأنزلها سبحانه في تعداد السور دفعا لحجتهم من كل وجه. ومنها: أن القصة الواحدة لما كررت كان في ألفاظها في كل موضع زيادة ونقصان، وتقديم وتأخير، وأتت على أسلوب غير أسلوب الأخرى، فأفاد ذلك ظهور الأمر العجيب في إخراج الأمر الواحد في صورة متباينة في النظم، وجذب النفوس إلى سماعهم لما جبلت عليه من حب التنقل بين الأشياء المتجددة، واستلذاذها بها، وإظهار خاصة القرآن، حيث لم يحصل - مع ذلك التكرير فيه - هجنة في اللفظ، ولا ملل عند سماعه، فباين بذلك كلام المخلوقين. وقد سئل: ما الحكمة في عدم تكرير قصة يوسف، وسوقها مساقا واحدا في موضع واحد دون غيرها من القصص، وأجيب بوجوه: أحدها: أن فيها تشبيب النسوة به، وحال امرأة ونسوة افتتنوا بأبدع الناس جمالا، فناسب عدم تكرارها لما فيها من الإغضاء والستر. وقد صحح الحاكم في مستدركه حديث النهي عن تعليم النساء سورة يوسف. ثانيها: أنها اختصت بحصول الفرج بعد الشدة، خلاف غيرها من القصص. فإن مآلها إلى الوبال، كقصة إبليس وقوم نوح وهود وصالح وغيرهم، فلما اختصت بذلك اتفقت الدواعي على نقلها لخروجها عن سمة القصص. ثالثها: قال الأستاذ أبو إسحاق الإسفرايني: إنما كرر الله قصص الأنبياء، وساق قصة يوسف مساقا واحدا إشارة إلى عجز العرب، كأن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال لهم: إن كان من تلقاء نفسي فافعلوا في قصة يوسف ما فعلته في سائر القصص. [ ص: 265 ] قلت: وظهر لي جواب رابع، وهو أن سورة يوسف نزلت بسبب طلب الصحابة أن يقص عليهم، كما رواه الحاكم في مستدركه، فنزلت مبسوطة تامة ليحصل لهم مقصود القصص من استيعاب القصة، وترويح النفس بها، والإحاطة بطرفيها. وجواب خامس: وهو أقوى ما يجاب به: أن قصص الأنبياء إنما كررت لأن المقصود بها إفادة إهلاك من كذبوا رسلهم، والحاجة داعية إلى ذلك لتكرير تكذيب الكفار للرسول - صلى الله عليه وسلم -، فلما كذبوا أنزلت قصة منذرة بحلول العذاب، كما حل على المكذبين، ولهذا قال تعالى في آيات: فقد مضت سنت الأولين . ألم يروا كم أهلكنا من قبلهم من قرن . وقصة يوسف لم ئقصد منها ذلك، وبهذا أيضا يحصل الجواب عن حكمة عدم تكرير قصة أهل الكهف، وقصة ذي القرنين، وقصة موسى مع الخضر، وقصة الذبيح. فإن قلت: قد تكررت قصة ولادة يحيى وولادة عيسى مرتين، وليست من قبيل ذلك؟ قلت: الأولى في سورة كهيعص، وهي مكية أنزلت خطابا لأهل مكة، والثانية في سورة آل عمران، وهي مدنية أنزلت خطابا لليهود ولنصارى نجران حين قدموا، ولهذا اتصل بها ذكر الحاجة والمباهلة. النوع الخامس: الصفة . وترد لأسباب: أحدها: التخصيص في النكرة، نحو: فتحرير رقبة مؤمنة . الثاني: التوضيح في المعرفة، أي زيادة البيان، نحو: ورسوله النبي الأمي . الثالث: المدح والثناء، ومنه صفات الله تعالى، نحو: بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين الرحمن الرحيم مالك يوم الدين [ ص: 266 ] هو الله الخالق البارئ المصور . ومنه: يحكم بها النبيون الذين أسلموا . فهذا الوصف للمدح، وإظهار شرف الإسلام والتعريض باليهود، وأنهم بعدوا عن ملة الإسلام الذي هو دين الأنبياء كلهم، وأنهم بمعزل عنها، قاله الزمخشري. الرابع: الذم، نحو: فاستعذ بالله من الشيطان الرجيم . الخامس: التأكيد لرفع الإيهام، نحو: لا تتخذوا إلهين اثنين . فإن إلهين للتثنية، فاثنين بعده صفة مؤكدة للنهي عن الإشراك، ولإفادة أن النهي عن اتخاذ إلهين، إنما هو لمحض كونهما اثنين فقط، لا لمعنى آخر من كونهما عاجزين أو غير ذلك، ولأن الوحدة تطلق ويراد بها النوعية، كقوله - صلى الله عليه وسلم -: إنما نحن وبنو المطلب شيء واحد. وتطلق ويراد بها نفي العدة بالتثنية باعتبارها. فلو قيل: لا تتخذوا إلهين فقط لتوهم أنه نهى عن اتخاذ جنسين آلهة. وإن جاز أن نتخذ من نوع واحد عددا آلهة، ولهذا أكد بالوحدة قوله: إنما هو إله واحد . ومثله: فاسلك فيها من كل زوجين اثنين - على قراءة تنوين كل. وقوله: فإذا نفخ في الصور نفخة واحدة . فهو تأكيد لرفع توهم تعدد النفخة، لأن هذه الصيغة قد تدل على الكثرة بدليل: وإن تعدوا نعمة الله لا تحصوها . ومن ذلك قوله: فإن كانتا اثنتين . فإن لفظ كانتا يفيد التثنية، فتفسيره باثنتين لم يفد زيادة عليه. وقد أجاب عن ذلك الأخفش والفارسي بأنه أفاد العدد المحض مجردا عن الصفة، لأنه قد كان يجوز أن يقال: فإن كانتا صغيرتين أو كبيرتين أو صالحتين أو غير ذلك من الصفات، فلما قال اثنتين أفهم أن فرض الثنتين تعلق بمجرد كونهما اثنتين فقط، وهذه فائدة لا تحصل من ضمير المثنى. [ ص: 267 ] وقيل: أراد فإن كانتا اثنتين فصاعدا، فعبر بالأدنى عنه وعما فوته اكتفاء. ونظيره: فإن لم يكونا رجلين فرجل وامرأتان . والأحسن - فيه أن الضمير عائد على الشهيدين المطلقين. ومن الصفات المؤكدة قوله: ولا طائر يطير بجناحيه . فقوله: يطير - لتأكيد أن المراد بالطائر حقيقته، فقد يطلق مجازا على غيره. وقوله: بجناحيه، لتأكيد حقيقة الطيران، لأنه يطلق مجازا على شدة العدو والإسراع في المشي. ونظيره: يقولون بألسنتهم ، لأن القول - يطلق مجازا على غير اللساني، بدليل: ويقولون في أنفسهم . وكذا: ولكن تعمى القلوب التي في الصدور ، لأن القلب قد يطلق مجازا على العين، كما أطلقت العين مجازا على القلب في قوله: الذين كانت أعينهم في غطاء عن ذكري .

قاعدة الصفة العامة لا تأتي بعد الخاصة، لا يقال رجل فصيح متكلم، بل متكلم فصيح. وأشكل على هذا قوله تعالى في إسماعيل: وكان رسولا نبيا . وأجيب بأنه حال لا صفة أي مرسلا في حال نبوته. وقد تقدم في وجه التقديم والتأخير أمثلة من هذا.

قاعدة إذا وقعت الصفة بعد متضايفين أولها عدد جاز إجراؤها على المضاف وعلى المضاف إليه، فمن الأول: سبع سماوات طباقا . ومن الثاني: سبع بقرات سمان . [ ص: 268 ] فائدة إذا تكررت النعوت لواحد فالأحسن إن تباعد معنى الصفات العطف، نحو: هو الأول والآخر والظاهر والباطن ، وإلا تركه، نحو ولا تطع كل حلاف مهين هماز مشاء بنميم مناع للخير معتد أثيم عتل بعد ذلك زنيم .

فائدة قطع النعوت في مقام المدح والذم أبلغ من إجرائها. قال الفارسي: إذا تكررت صفات في معرض المدح أو الذم فالأحسن أن يخالف في إعرابها، لأن المقام يقتضي الإطناب، فإذا خولف في الإعراب كان المقصود أكمل، لأن المعاني عند الاختلاف تتنوع وتتفنن، وعند الاتحاد تكون نوعا واحدا، مثاله في المدح: والمؤمنون يؤمنون بما أنزل إليك وما أنزل من قبلك والمقيمين الصلاة والمؤتون الزكاة . ولكن البر من آمن بالله واليوم الآخر ... إلى قوله: والموفون بعهدهم إذا عاهدوا والصابرين . وقرئ شاذا: الحمد لله رب العالمين - برفع رب ونصبه. ومثاله في الذم: وامرأته حمالة الحطب . النوع السادس - البدل : والقصد به الإيضاح بعد الإبهام. وفائدته البيان والتأكيد. أما الأول فواضح أنك إذا قلت رأيت زيدا أخاك بينت أنك تريد بزيد الأخ لا غير. وأما التأكيد فلأنه على نية تكرار العامل، فكأنه من جملتين، ولأنه دل على ما دل عليه الأول، إما بالمطابقة في بدل الكل، وإما بالتضمين في بدل البعض. أو بالاشتمال في بدل الاشتمال. مثال الأول: اهدنا الصراط المستقيم صراط الذين أنعمت عليهم [ ص: 269 ] إلى صراط العزيز الحميد الله . لنسفعا بالناصية ناصية كاذبة خاطئة . ومثال الثاني: ولله على الناس حج البيت من استطاع إليه سبيلا . ولولا دفع الله الناس بعضهم ببعض . ومثال الثالث: وما أنسانيه إلا الشيطان أن أذكره . يسألونك عن الشهر الحرام قتال فيه قل قتال فيه كبير . قتل أصحاب الأخدود النار ذات الوقود . لجعلنا لمن يكفر بالرحمن لبيوتهم . وزاد بعضهم بدل الكل من البعض، وقد وجدت له مثالا في القرآن، وهو قوله: فأولئك يدخلون الجنة ولا يظلمون شيئا جنات عدن . فجنات عدن بدل من الجنة التي هي بعض. وفائدته تقرير أنها جنات كثيرة لا جنة واحدة. وقال ابن السيد: وليس كل بدل يقصد به رفع الإشكال الذي يعرض في البدل منه، بل من البدل ما يراد به التأكيد، وإن كان ما قبله غنيا عنه، كقوله: وإنك لتهدي إلى صراط مستقيم صراط الله . ألا ترى أنه لو لم يذكر الصراط الثاني لم يشك أحد في أن الصراط المستقيم هو صراط الله. وقد نص سيبويه على أن من البدل ما الغرض منه التأكيد. انتهى. وجعل منه ابن عبد السلام: وإذ قال إبراهيم لأبيه آزر . - قال: ولا بيان فيه، لأن الأب لا يلتبس بغيره. ورد بأنه قد يطلق على الجد، فأبدل لبيان إرادة الأب حقيقة. النوع السابع: - عطف البيان : وهو كالصفة في الإيضاح، لكن يفارقها في أنه وضع ليدل على الإيضاح باسم مختص به، بخلافها فإنها وضعت لتدل على معنى حاصل في متبوعها. [ ص: 270 ] وفرق ابن كيسان بينه وبين البدل بأن البدل هو المقصود، وكأنك قررته في موضع المبدل منه، وعطف البيان وما عطف عليه كل منهما مقصود. وقال ابن مالك في شرح الكافية: عطف البيان يجري مجرى النعت في تكميل متبوعه، ويفارقه في أن تكميله بشرح وتبيين، لا بدلالة على معنى في المتبوع أو سببيه، ومجرى التوكيد في تقوية دلالته، ويفارقه في أنه لا يفارقه توهم مجاز، ومجرى البدل في صلاحيته للاستقبال، ويفارقه في أنه غير منوي الاطراح. ومن أمثلته: فيه آيات بينات مقام إبراهيم . من شجرة مباركة زيتونة . وقد يأتي لمجرد المدح والإيضاح. ومنه: جعل الله الكعبة البيت الحرام فالبيت الحرام عطف بيان للمدح والإيضاح. النوع الثامن: عطف أحد المترادفين على الآخر : والقصد منه التأكيد أيضا، وجعل منه: إنما أشكو بثي وحزني إلى الله . فما وهنوا لما أصابهم في سبيل الله وما ضعفوا ، فلا يخاف ظلما ولا هضما . لا تخاف دركا ولا تخشى . لا ترى فيها عوجا ولا أمتا . قال الخليل: العوج والأمت بمعنى واحد. سرهم ونجواهم . شرعة ومنهاجا . لا تبقي ولا تذر . إلا دعاء ونداء . أطعنا سادتنا وكبراءنا . لا يمسنا فيها نصب ولا يمسنا فيها لغوب . فإن نصب كلغب وزنا ومعنى - صلوات من ربهم ورحمة 157. عذرا أو نذرا . قال ثعلب: هما بمعنى واحد. وأنكر المبرد وجود هذا النوع في القرآن، وأول ما سبق على اختلاف المعنيين. وقال بعضهم: الملخص في هذا أن تعتقد أن مجموع المترادفين يحصل معنى لا [ ص: 271 ] يوجد عند انفرادها، فإن التركيب يحدث معنى زائدا. وإذا كانت كثرة الحروف تفيد زيادة المعنى فكذلك كثرة الألفاظ. النوع التاسع: عطف الخاص على العام: وفائدته التنبيه على فضله، حتى كأنه ليس من جنس العام، تنزيلا للتغاير في الوصف منزلة التغاير في الذات وحكى أبو حيان عن شيخه أبي جعفر بن الزبير أنه كان يقول: هذا العطف يسمى بالتجريد، كأنه جرد من الجملة، وأفرد بالذكر تفصيلا. ومن أمثلته: حافظوا على الصلوات والصلاة الوسطى . من كان عدوا لله وملائكته ورسله وجبريل وميكال . ولتكن منكم أمة يدعون إلى الخير ويأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر . والذين يمسكون بالكتاب وأقاموا الصلاة . وإنما إقامتها من جملة التمسك بالكتاب، وخصت بالذكر إظهارا لرتبتها، لكونها عماد الدين. وخص جبريل بالذكر ردا على اليهود في دعواهم عداوته. وضم إليه ميكائيل، لأنه ملك الرزق الذي هو حياة الأجساد، كما أن جبريل ملك الوحي الذي هو حياة القلوب والأرواح. وقيل: إن جبريل وميكائيل لما كانا أميري الملائكة لم يدخلا في لفظ الملائكة أولا، كما أن الأمير لا يدخل في مسمى الجند. حكاه الكرماني في العجائب. ومن ذلك: ومن يعمل سوءا أو يظلم نفسه . ومن أظلم ممن افترى على الله كذبا أو قال أوحي إلي ولم يوح إليه شيء . بناء على أنه لا يختص بالواو، كما هو رأي ابن مالك فيه وفيما قبله. وخص المعطوف في الثانية بالذكر تنبيها على زيادة قبحه.

تنبيه المراد بالخاص والعام هنا ما كان فيه الأول شاملا للثاني لا المصطلح عليه في الأصول. [ ص: 272 ] النوع العاشر: عطف العام على الخاص: وأنكر بعضهم وجوده فأخطأ. والفائدة فيه واضحة، وهو التعميم. وأفرد الأول بالذكر إهماما بشأنه. ومن أمثلته: إن صلاتي ونسكي . والنسك العبادة فهو أعلم. آتيناك سبعا من المثاني والقرآن العظيم . رب اغفر لي ولوالدي ولمن دخل بيتي مؤمنا وللمؤمنين والمؤمنات . فإن الله هو مولاه وجبريل وصالح المؤمنين والملائكة بعد ذلك ظهير . وجعل منه الزمخشري: ومن يدبر الأمر . - بعد قوله: قل من يرزقكم . النوع الحادي عشر: الإيضاح بعد الإبهام: قال أهل البيان: إذا أردت أن تبهم ثم توضح فإنك تطنب. وفائدته إما رؤية المعنى في صورتين مختلفتين: الإبهام، والإيضاح، أو ليتمكن المعنى في النفس تمكنا زائدا لوقوعه بعد الطلب، فإنه أعز من المنساق بلا تعب، أو لتكمل لذة العلم به، فإن الشيء إذا علم من وجه ما تشوفت النفس للعلم به من باقي وجوهه، وتأملت، فإذا حصل العلم من بقية الوجوه كانت لذته أشد من علمه من جميع وجوهه دفعة واحدة. ومن أمثلته: رب اشرح لي صدري ويسر لي أمري . فإن اشرح يفيد طلب شرح شيء ما له، وصدري يفيد تفسيره وبيانه. وكذلك: ويسر لي أمري . والمقام يقتضي التأكيد للإرسال المؤذن بتلقي الشدائد، وكذلك: ألم نشرح لك صدرك . فإن المقام يقتضي التأكيد، لأنه مقام امتنان وتفخيم. وكذا: وقضينا إليه ذلك الأمر أن دابر هؤلاء مقطوع مصبحين . [ ص: 273 ] ومنه التفصيل بعد الإجمال، نحو: إن عدة الشهور عند الله اثنا عشر شهرا في كتاب الله يوم خلق السماوات والأرض منها أربعة حرم . وعكسه، كقوله: ثلاثة أيام في الحج وسبعة إذا رجعتم تلك عشرة كاملة . أعيد ذكر العشرة لدفع توهم أن الواو في وسبعة بمعنى " أو " فتكون الثلاثة داخلة فيها، كما في قوله: خلق الأرض في يومين ، ثم قال: وجعل فيها رواسي من فوقها وبارك فيها وقدر فيها أقواتها في أربعة ، فإن من جلتها اليومين المذكورين أولا، وليست أربعة غيرهما. وهذا أحسن الأجوبة في الآية، وهو الذي أشار إليه الزمخشري، ورجحه ابن عبد السلام، وجزم به الزملكاني في أسرار التنزيل. قال: ونظيره: وواعدنا موسى ثلاثين ليلة وأتممناها بعشر فتم ميقات ربه أربعين ليلة . - فإنه رافع لاحتمال أن تكون تلك العشرة من غير مواعدة. قال ابن عسكر: وفائدة الوعد بثلاثين أولا ثم بعشر، ليتجدد له قرب انقضاء المواعدة، ويكون فيه متأهبا، مجتمع الرأي، حاضر الذهن، لأنه لو وعد بالأربعين أولا كانت متساوية، فلما فصلت استشعرت النفس قرب التمام، وتجدد بذلك عزم لم يتقدم. وقال الكرماني في العجائب: في قوله: تلك عشرة كاملة ثمانية أجوبة: جوابان من التفسير، وجواب من الفقه، وجواب من النحو، وجواب من اللغة، وجواب من المعنى، وجوابان من الحساب، وقد سقتها في أسرار التنزيل. النوع الثاني عشر: التفسير: قال أهل البيان: وهو أن يكون في الكلام لبس وخفاء، فيأتي بما يزيله ويفسره. ومن أمثلته: إن الإنسان خلق هلوعا إذا مسه الشر جزوعا وإذا مسه الخير منوعا . فقوله: إذا مسه ... الخ تفسير - للهلوع، كما قال أبو العالية وغيره. القيوم لا تأخذه سنة ولا نوم [ ص: 274 ] قال البيهقي في شرح الأسماء الحسنى: قوله: لا تأخذه سنة .. الخ تفسير للقيوم. يسومونكم سوء العذاب يذبحون . فيذبحون وما بعده تفسير للسوء. إن مثل عيسى عند الله كمثل آدم خلقه من تراب . فخلقه وما بعده تفسير للمثل. لا تتخذوا عدوي وعدوكم أولياء تلقون إليهم بالمودة . فتلقون ... الخ تفسير لاتخاذهم أولياء. الصمد لم يلد ولم يولد . قال محمد بن كعب القرظي: لم يلد ... الخ تفسير للصمد. وهو في القرآن كثير. قال ابن جني: ومتى كانت الجملة تفسيرا لم يحسن الوقف على ما قبلها دونها، لأن تفسير الشيء لاحق به ومتمم له، وجار له مجرى بعض أجزائه. النوع الثالث عشر: وضع الظاهر موضع المضمر: ورأيت فيه تأليفا مفردا لابن الصائغ، وله فوائد: منها: زيادة التقرير والتمكين، نحو: قل هو الله أحد الله الصمد . وبالحق أنزلناه وبالحق نزل . إن الله لذو فضل على الناس ولكن أكثر الناس لا يشكرون . لتحسبوه من الكتاب وما هو من الكتاب ويقولون هو من عند الله وما هو من عند الله . ومنها: قصد التعظيم، نحو: واتقوا الله ويعلمكم الله والله بكل شيء عليم . أولئك حزب الله ألا إن حزب الله هم المفلحون . وقرآن الفجر إن قرآن الفجر كان مشهودا . ولباس التقوى ذلك خير . ومنها: قصد الإهانة والتحقير، نحو: أولئك حزب الشيطان ألا إن حزب الشيطان هم الخاسرون إن [ ص: 275 ] الشيطان ينزغ بينهم إن الشيطان كان للإنسان عدوا مبينا . ومنها: إزالة اللبس حيث يوهم الضمير أنه غير الأول، نحو: قل اللهم مالك الملك تؤتي الملك من تشاء . لو قال تؤتيه أوهم أنه الأول، قاله ابن الخشاب: الظانين بالله ظن السوء عليهم دائرة السوء . لأنه لو قال: عليهم دائرته لأوهم أن الضمير عائد على الله. فبدأ بأوعيتهم قبل وعاء أخيه ثم استخرجها من وعاء أخيه . لم يقل منه، لئلا يتوهم عود الضمير إلى الأخ، فيصير كأنه مباشر يطلب خروجها، وليس كذلك، لما في المباشرة من الأذى الذي تأباه النفوس الأبية، فأعيد لفظ الظاهر، لنفي هذا. ولم يقل من وعائه، لئلا يتوهم عود الضمير إلى يوسف، لأنه العائد إليه ضمير استخراجها. ومنها: قصد تربية المهابة وإدخال الروع على ضمير السامع بذكر الاسم المقتضي لذلك، كما تقول: الخليفة أمير المؤمنين يأمرك بكذا. ومنه: إن الله يأمركم أن تؤدوا الأمانات إلى أهلها . إن الله يأمر بالعدل والإحسان . ومنها: قصد تقوية داعية الأمور، ومنه: فإذا عزمت فتوكل على الله إن الله يحب المتوكلين . ومنها: تعظيم الأمر، نحو: أولم يروا كيف يبدئ الله الخلق ثم يعيده إن ذلك على الله يسير . قل سيروا في الأرض فانظروا كيف بدأ الخلق . هل أتى على الإنسان حين من الدهر لم يكن شيئا مذكورا إنا خلقنا الإنسان . ومنها: الاستلذاذ بذكره، ومنه: وأورثنا الأرض نتبوأ من الجنة حيث نشاء . ولم يقل منها، ولهذا عدل عن ذكر الأرض إلى الجنة. [ ص: 276 ] ومنها: قصد التوصل بالظاهر إلى الوصف، ومنه: فآمنوا بالله ورسوله النبي الأمي الذي يؤمن بالله ، بعد قوله: إني رسول الله إليكم جميعا ، ولم يقل: فآمنوا بالله ربي، ليتمكن من إجراء الصفات التي ذكرها، ليعلم أن الذي وجب الإيمان به والاتباع له هو من وصف بهذه الصفات، ولو أتى بالضمير لم يمكن ذلك لأنه لا يوصف. ومنها: التنبيه على علية الحكم، نحو: فبدل الذين ظلموا قولا غير الذي قيل لهم . فأنزلنا على الذين ظلموا رجزا . فإن الله عدو للكافرين . ولم يقل لهم، إعلاما بأن من عادى هؤلاء فهو كافر، وإن الله إنما عاداه لكفره. فمن أظلم ممن افترى على الله كذبا أو كذب بآياته إنه لا يفلح المجرمون . والذين يمسكون بالكتاب وأقاموا الصلاة إنا لا نضيع أجر المصلحين . إن الذين آمنوا وعملوا الصالحات إنا لا نضيع أجر من أحسن عملا . ومنها: قصد العموم، نحو: وما أبرئ نفسي إن النفس لأمارة بالسوء إلا ما رحم ربي . ولم يقل إنها، لئلا يتوهم تخصيص ذلك بنفسه. أولئك هم الكافرون حقا وأعتدنا للكافرين عذابا مهينا . ومنها: قصد الخصوص، نحو: وامرأة مؤمنة إن وهبت نفسها للنبي . لم يقل لك تصريحا بأنه خاص به. ومنها: الإشارة إلى عدم دخول الجملة الأولى، نحو: فإن يشأ الله يختم على قلبك ويمح الله الباطل الشورى: 24. فإن ويمح الله استئناف لا داخل في حكم الشرط. ومنها: مراعاة الجناس، ومنه: قل أعوذ برب الناس . ذكره الشيخ عز الدين، ومثله ابن الصائغ بقوله: خلق الإنسان من علق . [ ص: 277 ] ثم قال: علم الإنسان ما لم يعلم كلا إن الإنسان ليطغى . فالمراد بالإنسان الأول الجنس، وبالثاني آدم، أو من يعلم الكتابة، أو إدريس، وبالثالث أبو جهل. ومنها: مراعاة الترصيع وتوازن الألفاظ في التركيب، ذكره بعضهم في قوله: أن تضل إحداهما فتذكر إحداهما الأخرى . ومنها: أن يتحمل ضميرا لا بد منه، ومنه: أتيا أهل قرية استطعما أهلها . لو قال استطعماها لم يصح، لأنها لم يستطعما القرية، أو استطعماهم فكذلك، لأن جملة استطعما صفة لقرية النكرة لا لأهل، فلا بد أن يكون فيها ضمير يعود إليها، ولا يمكن إلا مع التصريح بالظاهر، كذا حرره السبكي في جواب سأله الصلاح الصفدي في ذلك، قال الصفدي:

أسيدنا قاضي القضاة ومن إذا ... بدا وجهه استحيا له القمران     ومن كفه يوم الندى ومداده
... على طرسه بحران يلتقيان     ومن إن دجت في المشكلات مسائل
... جلاها بفكر دائم اللمعان     رأيت كتاب الله أكبر معجز
... لأفضل من يهدي به الثقلان     ومن جملة الإعجاز كون اختصاره
... بإيجاز ألفاظ وبسط معان     ولكنني في الكهف أبصرت آية
... بها الكفر في طول الزمان عناني     وما هي إلا "استطعما أهلها" فقد
... يرى استطعماهم مثله ببيان     فما الحكمة الغراء في وضع ظاهر
... مكان ضمير إن ذاك لشان     فأرشد على عادات فضلك حيرتي
... فمالي بها عند البيان يدان



تنبيه: إعادة الظاهر بمعناه أحسن من إعادته بلفظه، كما مر في آيات: إنا لا نضيع أجر من أحسن عملا . إنا لا نضيع أجر المصلحين ، ونحوهما. [ ص: 278 ] ومنه: ما يود الذين كفروا من أهل الكتاب ولا المشركين أن ينزل عليكم من خير من ربكم والله يختص برحمته من يشاء . فإن إنزال الخير مناسب للربوبية وأعاده بلفظ الله، لأن تخصيص الناس بالخير دون غيرهم مناسب للإلهية، لأن دائرة الربوبية أوسع. ومنه: الحمد لله الذي خلق السماوات والأرض ، إلى قوله: ثم الذين كفروا بربهم يعدلون . وإعادته في جملة أخرى أحسن منه في الجملة الواحدة لانفصالها، وبعد الطول أحسن من الإضمار، لئلا يبقى الذهن متشاغلا بسبب ما يعود عليه فيفوته ما شرع فيه، كقوله: وتلك حجتنا آتيناها إبراهيم على قومه نرفع درجات من نشاء . - بعد قوله: وإذ قال إبراهيم لأبيه آزر . النوع الرابع عشر: الإيغال: وهو الإمعان، وهو ختم الكلام بما يفيد نكتة يتم - المعنى بدونها. وزعم بعضهم أنه خاص بالشعر، ورد بأنه وقع في القرآن، من ذلك قوله: يا قوم اتبعوا المرسلين اتبعوا من لا يسألكم أجرا وهم مهتدون . فقوله بعده: " وهم مهتدون " إيغال، لأنه يتم المعنى بدونه، إذ الرسول مهتد لا محالة، لكن فيه زيادة مبالغة في الحث على اتباع الرسل والترغيب فيه. وجعل ابن أبي الإصبع منه: ولا تسمع الصم الدعاء إذا ولوا مدبرين . فإن قوله: إذا ولوا مدبرين زائد على المعنى، مبالغة في عدم انتفاعهم. ومن أحسن من الله حكما لقوم يوقنون . فإن قوله: لقوم يوقنون زائد على المعنى لمدح المؤمنين، - والتعريض بالذم لليهود، وأنهم بعيدون عن الإيمان. إنه لحق مثل ما أنكم تنطقون . فقوله: مثل ما . إيغال زائد على المعنى لتحقيق هذا الوعد، وأنه واقع معلوم ضرورة لا يرتاب فيه أحد. [ ص: 279 ] النوع الخامس عشر - التذييل : وهو أن يؤتى بجملة عقب جملة، والثانية تشتمل على معنى الأولى، لتأكيد منطوقه أو مفهومه، ليظهر المعنى لمن لا يفهمه، ويتقرر عند من فهمه، نحو: ذلك جزيناهم بما كفروا وهل نجازي إلا الكفور . وقل جاء الحق وزهق الباطل إن الباطل كان زهوقا . وما جعلنا لبشر من قبلك الخلد أفإن مت فهم الخالدون . ويوم القيامة يكفرون بشرككم ولا ينبئك مثل خبير . النوع السادس عشر: الطرد والعكس : قال الطيبي: وهو أن يأتي بكلامين يقرر الأول بمنطوقه مفهوم الثاني. وبالعكس، كقوله تعالى: ليستأذنكم الذين ملكت أيمانكم والذين لم يبلغوا الحلم منكم ثلاث مرات . إلى قوله: ليس عليكم ولا عليهم جناح بعدهن طوافون عليكم ، فمنطوق الأمر بالاستئذان في تلك الأوقات خاصة مقرر لمفهوم رفع الجناح فيما عداها، وبالعكس. وكذا قوله: لا يعصون الله ما أمرهم ويفعلون ما يؤمرون . قلت: وهذا النوع يقابله في الإيجاز نوع الاحتباك. النوع السابع عشر: التكميل : ويسمى بالاحتراس، وهو أن يؤتى في كلام يوهم خلاف المقصود بما يدفع ذلك الوهم، نحو: أذلة على المؤمنين أعزة على الكافرين . فإنه لو اقتصر على أذلة لتوهم أنه لضعفهم، فرفعه بقوله: أعزة . ومثله: أشداء على الكفار رحماء بينهم ، فإنه لو اقتصر على أشداء لتوهم أنه لغلظهم. تخرج بيضاء من غير سوء . لا يحطمنكم سليمان وجنوده وهم لا يشعرون . فقوله: وهم لا يشعرون - احتراس لئلا يتوهم نسبة الظلم إلى سليمان. ومثله: فتصيبكم منهم معرة بغير علم . وكذا: قالوا نشهد إنك [ ص: 280 ] لرسول الله والله يعلم إنك لرسوله والله يشهد إن المنافقين لكاذبون . فالجملة الوسطى احتراس لئلا يتوهم أن التكذيب في نفس الأمر. قال في عروس الأفراح: فإن قلت: كل من ذلك أفاد معنى جديدا، فلا يكون إطنابا. قلت: هو إطناب لما قبله من حيث رفع توهم غيره، وإن كان له معنى في نفسه. النوع الثامن عشر: التتميم : وهو أن يؤتى في كلام لا يوهم غير المراد بفضلة تفيد نكتة، كالمبالغة في قوله: ويطعمون الطعام على حبه ، أي مع حب الطعام أي اشتهائه، فإن الإطعام حينئذ أكثر أجرا. ومثله: وآتى المال على حبه . ومن يعمل من الصالحات من ذكر أو أنثى وهو مؤمن ، فقوله: وهو مؤمن تتميم في غاية الحسن. النوع التاسع عشر: الاستقصاء : وهو أن يتناول المتكلم معنى يستقصيه، فيأتي بجميع عوارضه ولوازمه بعد أن يستقصي جميع أوصافه الذاتية، بحيث لم يترك بعده فيه مقالا، كقوله تعالى: أيود أحدكم أن تكون له جنة من نخيل . فإنه لو اقتصر على قوله: جنة لكان كافيا، فلم يقف عند ذلك حتى قال في تفسيرها: من نخيل وأعناب ، فإن مصاب صاحبها بها أعظم، ثم زاد: تجري من تحتها الأنهار - متمما لوصفها بذلك، ثم كمل وصفها بعد التتميمين، فقال: له فيها من كل الثمرات ، فأتى بكل ما يكون في الجنان ليشتد الأسف على إفسادها. ثم قال في وصف صاحبها: وأصابه الكبر، ثم استقصى المعنى في ذلك بما يوجب تعظيم المصاب بقوله بعد وصفه بالكبر: وله ذرية ضعفاء . ولم يقف [ ص: 281 ] عند ذلك حتى وصف الذرية بالضعف، ثم ذكر استئصال الجنة التي ليس لهذا المصاب غيرها بالهلاك في أسرع وقت، حيث قال: فأصابها إعصار فيه نار فاحترقت . ولم يقتصر على ذكره للعلم بأنه لا يحصل به سرعة الهلاك، فقال: فيه نار فاحترقت . ثم لم يقف عند ذلك حتى أخبر باحتراقها، لاحتمال أن تكون النار ضعيفة لا تفي بإحراقها لما فيها من الأنهار ورطوبة الأشجار، فاحترس عن هذا الاحتمال بقوله: فاحترقت . فهذا أحسن استقصاء وقع في كلام وأتمه وأكمله. قال ابن أبي الإصبع: والفرق بين الاستقصاء والتتميم والتكميل أن التتميم يرد على المعنى الناقص ليتم. والتكميل يرد على المعنى التام فيكمل أوصافه. والاستقصاء يرد على المعنى التام الكامل فيستقصي لوازمه وعوارضه وأسبابه وأوصافه حتى يستوعب جميع ما تقع الخواطر عليه فلا يبقى لأحد فيه مساغ. النوع العشرون: الاعتراض : وسماه قدامه التفاتا، وهو الإتيان بجملة أو أكثر لا محل لها من الإعراب أثناء كلام أو كلامين اتصلا معنى لنكتة غير رفع الإيهام، كقوله: ويجعلون لله البنات سبحانه ولهم ما يشتهون . فقوله: سبحانه اعتراض لتنزيه الله عن البنات والشناعة على فاعليها. وقوله تعالى: لتدخلن المسجد الحرام إن شاء الله آمنين . فجملة الاستثناء اعتراض للتبرك. ومن وقوعه بأكثر من جملة: فأتوهن من حيث أمركم الله إن الله يحب التوابين ويحب المتطهرين نساؤكم حرث لكم . فقوله: نساؤكم متصل بقوله: فأتوهن، لأنه بيان له، وما بينهما اعتراض للحث على الطهارة وتجنب الأدبار. وقوله: وقيل يا أرض ابلعي ماءك ويا سماء أقلعي وغيض الماء وقضي الأمر واستوت على الجودي وقيل بعدا للقوم الظالمين . فيه اعتراض بثلاث جمل، وهي وغيض الماء ، وقضي الأمر ، واستوت على الجودي . [ ص: 282 ] قال في الأقصى القريب: ونكتته إفادة أن هذا الأمر واقع بين القولين لا محالة، ولو أتى به آخرا لكان الظاهر تأخيره، فبتوسطه ظهر كونه غير متأخر، ثم فيه اعتراض في اعتراض، فإن: وقضي الأمر معترض بين وغيض . واستوت، لأن الاستواء يحصل عقب الغيض. وقوله: ولمن خاف مقام ربه جنتان . إلى قوله: متكئين على فرش فيه اعتراض بسبع جمل إذا أعرب حالا منه. ومن وقوع اعتراض في اعتراض: فلا أقسم بمواقع النجوم وإنه لقسم لو تعلمون عظيم إنه لقرآن كريم . اعترض بين القسم وجوابه بقوله: وإنه لقسم ، وبين القسم وصفته بقوله: لو تعلمون ، تعظيما للمقسم به، وتحقيقا لإجلاله، وإعلاما لهم بأن له عظمة لا يعلمونها. قال الطيبي في التبيان: ووجه حسن الاعتراض حسن الإفادة مع مجيئه مجيء ما لا يترقب، فيكون كالحسنة تأتيك من حيث لا تحتسب. النوع الحادي والعشرون: التعليل : وفائدته التقرير والأبلغية، فإن النفوس أبعث على قبول الأحكام المعللة من غيرها، وغالب التعليل في القرآن على تقدير جواب سؤال اقتضته الجملة الأولى، وحروفه: اللام، وإن، وأن، وإذ، والباء، وكي، ومن، ولعل. وتأتي إن شاء الله في حروف المعجم. ومما يقتضي التعليل لفظ الحكمة، كقوله: حكمة بالغة . وذكر الغاية من الخلق، نحو: جعل لكم الأرض فراشا والسماء بناء . ألم نجعل الأرض مهادا والجبال أوتادا .

التالي السابق


الخدمات العلمية