الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                                                                            ثم قال تعالى : ( خلق الإنسان علمه البيان ) وفيه مسائل :

                                                                                                                                                                                                                                            المسألة الأولى : في وجه الترتيب وهو على وجهين : أحدهما : ما ذكرنا أن المراد من " علم " علم الملائكة ، وتعليمه الملائكة قبل خلق الإنسان ، فعلم تعالى ملائكته المقربين القرآن حقيقة يدل عليه قوله تعالى : ( إنه لقرآن كريم في كتاب مكنون لا يمسه إلا المطهرون ) [ الواقعة : 78 ] ثم قال تعالى : ( تنزيل من رب العالمين ) [ الواقعة : 80 ] إشارة إلى تنزيله بعد تعليمه ، وعلى هذا ففي النظم حسن زائد ، وذلك من حيث إنه تعالى ذكر أمورا علوية وأمورا سفلية ، وكل علوي قابله بسفلي ، وقدم العلويات على السفليات إلى آخر الآيات ، فقال : ( علم القرآن ) إشارة إلى تعليم العلويين ، وقال : ( علمه البيان ) إشارة إلى تعليم [ ص: 76 ] السفليين ، وقال : ( الشمس والقمر ) [ الرحمن : 5 ] في العلويات . وقال في مقابلتهما من السفليات : ( والنجم والشجر يسجدان ) [ الرحمن : 6 ] .

                                                                                                                                                                                                                                            ثم قال تعالى : ( والسماء رفعها ) [ الرحمن : 7 ] وفي مقابلتها : ( والأرض وضعها ) [ الرحمن : 10 ] ، وثانيهما : أن تقديم تعليم القرآن إشارة إلى كونه أتم نعمة وأعظم إنعاما ، ثم بين كيفية تعليم القرآن ، فقال : ( خلق الإنسان علمه البيان ) وهو كقول القائل : علمت فلانا الأدب حملته عليه ، وأنفقت عليه مالي ، فقوله : حملته وأنفقت بيان لما تقدم ، وإنما قدم ذلك لأنه الإنعام العظيم .

                                                                                                                                                                                                                                            المسألة الثانية : ما الفرق بين هذه السورة وسورة العلق ، حيث قال هناك : ( اقرأ باسم ربك الذي خلق ) [ العلق : 1 ] ثم قال : ( وربك الأكرم الذي علم بالقلم ) [ العلق : 3 ، 4 ] فقدم الخلق على التعليم ؟ نقول : في تلك السورة لم يصرح بتعليم القرآن فهو كالتعليم الذي ذكره في هذه السورة بقوله : ( علمه البيان ) بعد قوله : ( خلق الإنسان ) .

                                                                                                                                                                                                                                            المسألة الثالثة : ما المراد من الإنسان ؟ نقول : هو الجنس ، وقيل : المراد محمد صلى الله عليه وسلم ، وقيل : المراد آدم والأول أصح نظرا إلى اللفظ في ( خلق ) ويدخل فيه محمد وآدم وغيرهما من الأنبياء .

                                                                                                                                                                                                                                            المسألة الرابعة : ما البيان وكيف تعليمه ؟ نقول : من المفسرين من قال : البيان المنطق فعلمه ما ينطق به ويفهم غيره ما عنده ، فإن به يمتاز الإنسان عن غيره من الحيوانات ، وقوله : ( خلق الإنسان ) إشارة إلى تقدير خلق جسمه الخاص ، و ( علمه البيان ) إشارة إلى تميزه بالعلم عن غيره . وقد خرج ما ذكرنا أولا أن البيان هو القرآن ، وأعاده ليفصل ما ذكره إجمالا بقوله تعالى : ( علم القرآن ) كما قلنا في المثال حيث يقول القائل : علمت فلانا الأدب حملته عليه ، وعلى هذا فالبيان مصدر أريد به ما فيه المصدر ، وإطلاق البيان بمعنى القرآن على القرآن في القرآن كثير ، قال تعالى : ( هذا بيان للناس ) [ آل عمران : 138 ] وقد سمى الله تعالى القرآن فرقانا وبيانا ، والبيان فرقان بين الحق والباطل ، فصح إطلاق البيان ، وإرادة القرآن .

                                                                                                                                                                                                                                            المسألة الخامسة : كيف صرح بذكر المفعولين في علمه البيان ولم يصرح بهما في علم القرآن نقول : أما إن قلنا : إن المراد من قوله علم القرآن هو أنه علم الإنسان القرآن ، فنقول حذفه لعظم نعمة التعليم وقدم ذكره على من علمه وعلى بيان خلقه ، ثم فصل بيان كيفية تعليم القرآن ، فقال : ( خلق الإنسان علمه ) وقد بين ذلك ، وأما إن قلنا : المراد ( علم القرآن ) الملائكة فلأن المقصود تعديد النعم على الإنسان ومطالبته بالشكر ومنعه من التكذيب به ، وتعليمه للملائكة لا يظهر للإنسان أنه فائدة راجعة إلى الإنسان ، وأما تعليم الإنسان فهي نعمة ظاهرة ، فقال : ( علمه البيان ) أي علم الإنسان تعديدا للنعم عليه ومثل هذا قال في : ( اقرأ ) [ العلق : 1 ] قال مرة : ( علم بالقلم ) [ العلق : 1 ] من غير بيان المعلم ، ثم قال مرة أخرى : ( علم الإنسان ما لم يعلم ) [ العلق : 4 ] وهو البيان ، ويحتمل أن يتمسك بهذه الآية على أن اللغات توقيفية حصل العلم بها بتعليم الله .

                                                                                                                                                                                                                                            التالي السابق


                                                                                                                                                                                                                                            الخدمات العلمية