(
nindex.php?page=tafseer&surano=55&ayano=12والحب ذو العصف والريحان nindex.php?page=tafseer&surano=55&ayano=13فبأي آلاء ربكما تكذبان )
ثم قال تعالى : (
nindex.php?page=tafseer&surano=55&ayano=12والحب ذو العصف والريحان ) اقتصر من الأشجار على النخل لأنها أعظمها ودخل في الحب القمح والشعير وكل حب يقتات به خبزا أو يؤدم به بينا أنه أخره في الذكر على سبيل الارتقاء درجة فدرجة ، فالحبوب أنفع من النخل وأعم وجودا في الأماكن . وقوله تعالى : (
nindex.php?page=tafseer&surano=55&ayano=12ذو العصف ) فيه وجوه :
أحدها : التبن الذي تنتفع به دوابنا التي خلقت لنا .
ثانيها : أوراق النبات الذي له ساق الخارجة من جوانب الساق كأوراق السنبلة من أعلاها إلى أسفلها .
ثالثها : العصف هو ورق ما يؤكل فحسب ، (
nindex.php?page=tafseer&surano=55&ayano=12والريحان ) فيه وجوه ، قيل : ما يشم وقيل : الورق ، وقيل : هو الريحان المعروف عندنا وبزره ينفع في الأدوية ، والأظهر أن رأسها كالزهر وهو أصل وجود المقصود ، فإن ذلك الزهر يتكون بذلك الحب وينعقد إلى أن يدرك فـ (
nindex.php?page=tafseer&surano=55&ayano=12العصف ) إشارة إلى ذلك الورق والريحان إلى ذلك الزهر ، وإنما ذكرهما لأنهما يؤولان إلى المقصود من أحدهما علف الدواب ، ومن الآخر دواء الإنسان ، وقرئ ( الريحان ) بالجر معطوفا على العصف ، وبالرفع عطفا على الحب ، وهذا يحتمل وجهين :
أحدهما : أن يكون المراد من الريحان : المشموم فيكون أمرا مغايرا للحب فيعطف عليه .
والثاني : أن يكون التقدير ذو الريحان بحذف المضاف ، وإقامة المضاف إليه مقامه كما في : (
nindex.php?page=tafseer&surano=12&ayano=82واسأل القرية ) [ يوسف : 82 ] وهذا مناسب للمعنى الذي ذكرنا ، ليكون الريحان الذي ختم به أنواع النعم الأرضية أعز وأشرف ، ولو كان المراد من الريحان هو المعروف أو المشمومات لما حصل ذلك الترتيب ، وقرئ : " والريحان " ولا يقرأ هذا إلا من يقرأ : (
nindex.php?page=tafseer&surano=55&ayano=12والحب ذو العصف ) ويعود الوجهان فيه .
ثم قال تعالى : (
nindex.php?page=tafseer&surano=55&ayano=13فبأي آلاء ربكما تكذبان ) وفيه مباحث :
الأول : الخطاب مع من ؟ نقول : فيه وجوه :
الأول : الإنس والجن وفيه ثلاثة أوجه :
أحدها : يقال : الأنام اسم للجن والإنس وقد سبق ذكره ، فعاد الضمير إلى ما في الأنام من الجنس .
ثانيها : الأنام اسم ( الإنسان ) و (
nindex.php?page=tafseer&surano=55&ayano=15الجان ) لما كان منويا وظهر من بعد بقوله : (
nindex.php?page=tafseer&surano=55&ayano=15وخلق الجان ) [ الرحمن : 15 ] جاز عود الضمير إليه ، وكيف لا وقد جاز عود الضمير إلى المنوي ، وإن لم يذكر منه شيء ، تقول : لا أدري أيهما خير من زيد وعمرو .
ثالثها : أن يكون المخاطب في النية لا في اللفظ كأنه قال (
nindex.php?page=tafseer&surano=55&ayano=13فبأي آلاء ربكما تكذبان ) أيها الثقلان .
الثاني : الذكر والأنثى . فعاد الضمير إليهما والخطاب معهما .
الثالث : فبأي آلاء ربك تكذب ، فبأي آلاء ربك تكذب ، بلفظ واحد والمراد التكرار للتأكيد .
الرابع : المراد العموم ، لكن العام يدخل فيه قسمان بهما ينحصر الكل ولا يبقى شيء من العام خارجا عنه . فإنك إذا قلت : إنه تعالى خلق من يعقل ومن لا يعقل ، أو قلت : الله يعلم ما ظهر وما لم يظهر إلى غير ذلك من التقاسيم الحاصرة يلزم التعميم ، فكأنه قال : يا أيها القسمان : (
nindex.php?page=tafseer&surano=55&ayano=13فبأي آلاء ربكما تكذبان ) واعلم أن التقسيم الحاصر لا يخرج عن أمرين أصلا ولا يحصل الحصر إلا بهما ، فإن زاد فهناك قسمان قد طوي أحدهما في الآخر ، مثاله إذا قلت : اللون إما سواد وإما بياض ، وإما حمرة وإما صفرة وإما غيرها ، فكأنك قلت : اللون إما أسود وإما ليس بسواد أو إما بياض وإما ليس ببياض ، ثم الذي ليس ببياض إما حمرة وإما ليس بحمرة وكذلك إلى جملة التقسيمات ، فأشار إلى القسمين الحاصرين على أن ليس لأحد ولا لشيء أن
nindex.php?page=treesubj&link=32409ينكر نعم الله .
الخامس : التكذيب قد يكون بالقلب دون اللسان ، كما في المنافقين ، وقد يكون باللسان دون القلب كما في المعاندين ، وقد يكون بهما جميعا ، فالكذب لا يخرج عن أن يكون باللسان أو
[ ص: 85 ] بالقلب فكأنه تعالى قال : يا أيها القلب واللسان فبأي آلاء ربكما تكذبان فإن النعم بلغت حدا لا يمكن المعاند أن يستمر على تكذيبها .
السادس : المكذب مكذب بالرسول والدلائل السمعية التي بالقرآن ، ومكذب بالعقل والبراهين والتي في الآفاق والأنفس ، فكأنه تعالى قال : يا أيها المكذبان بأي آلاء ربكما تكذبان ، وقد ظهرت آيات الرسالة فإن (
nindex.php?page=tafseer&surano=55&ayano=1الرحمن nindex.php?page=tafseer&surano=55&ayano=2علم القرآن ) ، وآيات الوحدانية فإنه تعالى خلق الإنسان وعلمه البيان ، ورفع السماء ووضع الأرض .
السابع : المكذب قد يكون مكذبا بالفعل وقد يكون التكذيب منه غير واقع بعد ، لكنه متوقع ، فالله تعالى قال : يا أيها المكذب تكذب وتتلبس بالكذب ، ويختلج في صدرك أنك تكذب (
nindex.php?page=tafseer&surano=55&ayano=13فبأي آلاء ربكما تكذبان ) . وهذه الوجوه قريبة بعضها من بعض . والظاهر منها الثقلان ، لذكرهما في الآيات من هذه السورة بقوله : (
nindex.php?page=tafseer&surano=55&ayano=31سنفرغ لكم أيها الثقلان ) [ الرحمن : 31 ] ، وبقوله : (
nindex.php?page=tafseer&surano=55&ayano=33يامعشر الجن والإنس ) [ الرحمن : 33 ] وبقوله : (
nindex.php?page=tafseer&surano=55&ayano=14خلق الإنسان من صلصال كالفخار nindex.php?page=tafseer&surano=55&ayano=15وخلق الجان ) إلى غير ذلك ، ( والزوجان ) لوروده في القرآن كثيرا والتعميم بإرادة نوعين حاصرين للجميع ، ويمكن أن يقال : التعميم أولى لأن المراد لو كان الإنس والجن اللذان خاطبهما بقوله : (
nindex.php?page=tafseer&surano=55&ayano=13فبأي آلاء ربكما تكذبان ) ما كان يقول بعد خلق الإنسان ، بل كان يخاطب ويقول : خلقناك يا أيها الإنسان (
nindex.php?page=tafseer&surano=55&ayano=14من صلصال ) وخلقناك يا أيها الجان أو يقول : خلقك يا أيها الإنسان لأن الكلام صار خطابا معهما ، ولما قال الإنسان ، دل على أن المخاطب غيره وهو العموم فيصير كأنه قال : يا أيها الخلق والسامعون إنا
nindex.php?page=treesubj&link=32405خلقنا الإنسان من صلصال كالفخار ، وخلقنا الجان من مارج من نار . وسيأتي باقي البيان في مواضع من تفسير هذه السورة إن شاء الله تعالى .
الثاني : ما الحكمة في الخطاب ولم يسبق ذكر مخاطب ، نقول : هو من باب الالتفات إذ مبنى افتتاح السورة على الخطاب مع كل من يسمع ، فكأنه لما قال : (
nindex.php?page=tafseer&surano=55&ayano=1الرحمن nindex.php?page=tafseer&surano=55&ayano=2علم القرآن ) قال : اسمعوا أيها السامعون ، والخطاب للتقريع والزجر كأنه تعالى نبه الغافل المكذب على أنه يفرض نفسه كالواقف بين يدي ربه يقول له ربه : أنعمت عليك بكذا وكذا ، ثم يقول : فبأي آلائي تكذب ولا شك أنه عند هذا يستحي استحياء لا يكون عنده فرض الغيبة .
الثالث : ما الفائدة في اختيار لفظة الرب وإذا خاطب أراد خطاب الواحد فلم قال : (
nindex.php?page=tafseer&surano=55&ayano=13ربكما تكذبان ) وهو الحاضر المتكلم فكيف يجعل التكذيب المسند إلى المخاطب واردا على الغائب ، ولو قال : بأي آلائي تكذبان كان أليق في الخطاب ؟ نقول : في السورة المتقدمة قال : (
nindex.php?page=tafseer&surano=54&ayano=23كذبت ثمود بالنذر ) [ القمر : 23 ] (
nindex.php?page=tafseer&surano=54&ayano=33كذبت قوم لوط بالنذر ) [ القمر : 33 ] وقال : (
nindex.php?page=tafseer&surano=54&ayano=42كذبوا بآياتنا ) [القمر : 42] وقال : (
nindex.php?page=tafseer&surano=54&ayano=42فأخذناهم ) وقال : (
nindex.php?page=tafseer&surano=54&ayano=16فكيف كان عذابي ونذر ) [ القمر : 16 ] كلها بالاستناد إلى ضمير المتكلم حيث كان ذلك للتخويف ، فالله تعالى أعظم من أن يخشى ، فلو قال : أخذهم القادر أو المهلك لما كان في التعظيم مثل قوله : (
nindex.php?page=tafseer&surano=6&ayano=42فأخذناهم ) [ الأنعام : 42 ] ولهذا قال تعالى : (
nindex.php?page=tafseer&surano=3&ayano=28ويحذركم الله نفسه ) [ آل عمران : 28 ] وهذا كما أن المشهور بالقوة يقول أنا الذي تعرفني فيكون في إثبات الوعيد فوق قوله أنا المعذب ، فلما كان الإسناد إلى النفس مستعملا في تلك السورة عند الإهلاك والتعذيب ذكر في هذه السورة عند بيان الرحمة لفظ يزيل الهيبة وهو لفظ الرب ، فكأنه تعالى قال (
nindex.php?page=tafseer&surano=55&ayano=13فبأي آلاء ربكما تكذبان ) وهو رباكما .
الرابع : ما الحكمة في تكرير هذه الآية وكونه إحدى وثلاثين مرة ؟ نقول : الجواب عنه من وجوه :
الأول : إن فائدة التكرير التقرير ، وأما هذا العدد الخاص فالأعداد توقيفية لا تطلع على تقدير المقدرات أذهان الناس ، والأولى أن لا يبالغ الإنسان في استخراج الأمور البعيدة في كلام الله تعالى تمسكا بقول
عمر [ ص: 86 ] رضي الله تعالى عنه حيث قال مع نفسه عند قراءته عبس : كل هذا قد عرفناه فما الأب ؟ ثم رفع عصا كانت بيده وقال هذا
لعمر الله التكليف وما عليك يا
عمر أن لا تدري ما الأب ، ثم قال : اتبعوا ما بين لكم من هذا الكتاب وما لا فدعوه ، وسيأتي فائدة كلامه تعالى في تفسير السورة إن شاء الله تعالى .
الجواب الثاني : ما قلناه : إنه تعالى ذكر في السورة المتقدمة : (
nindex.php?page=tafseer&surano=54&ayano=16فكيف كان عذابي ونذر ) أربع مرات لبيان ما في ذلك من المعنى ، وثلاث مرات للتقرير والتكرير ، وللثلاث والسبع من بين الأعداد فوائد ذكرناها في قوله تعالى : (
nindex.php?page=tafseer&surano=31&ayano=27والبحر يمده من بعده سبعة أبحر ) [ لقمان : 27 ] فلما ذكر العذاب ثلاث مرات ذكر الآلاء إحدى وثلاثين مرة لبيان ما فيه من المعنى ، وثلاثين مرة للتقرير ، فالآلاء مذكورة عشر مرات أضعاف مرات ذكر العذاب إشارة إلى معنى قوله تعالى : (
nindex.php?page=tafseer&surano=6&ayano=160من جاء بالحسنة فله عشر أمثالها ومن جاء بالسيئة فلا يجزى إلا مثلها ) [ الأنعام : 160 ] .
الثالث : أن الثلاثين مرة تكرير بعد البيان في المرة الأولى ؛ لأن الخطاب مع الجن والإنس ، والنعم منحصرة في دفع المكروه وتحصيل المقصود ، لكن أعظم المكروهات عذاب جهنم (
nindex.php?page=tafseer&surano=15&ayano=44لها سبعة أبواب ) [ الحجر : 44 ] وأتم المقاصد نعيم
nindex.php?page=treesubj&link=30393الجنة ولها ثمانية أبواب ، فإغلاق الأبواب السبعة وفتح الأبواب الثمانية جميعه نعمة وإكرام ، فإذا اعتبرت تلك النعم بالنسبة إلى جنسي الجن والإنس تبلغ ثلاثين مرة وهي مرات التكرير للتقرير ، والمرة الأولى لبيان فائدة الكلام ، وهذا منقول وهو ضعيف ، لأن الله تعالى ذكر نعم الدنيا والآخرة ، وما ذكره اقتصارا على بيان نعم الآخرة .
الرابع : هو أن
nindex.php?page=treesubj&link=30435أبواب النار سبعة والله تعالى ذكر سبع آيات تتعلق بالتخويف من النار ، من قوله تعالى : (
nindex.php?page=tafseer&surano=55&ayano=31سنفرغ لكم أيها الثقلان ) [ الرحمن : 31 ] ، إلى قوله تعالى : (
nindex.php?page=tafseer&surano=55&ayano=44يطوفون بينها وبين حميم آن ) [ الرحمن : 44 ] ثم إنه تعالى ذكر بعد ذلك جنتين حيث قال : (
nindex.php?page=tafseer&surano=55&ayano=46ولمن خاف مقام ربه جنتان ) [ الرحمن : 46 ] ولكل جنة ثمانية أبواب تفتح كلها للمتقين ، وذكر من أول السورة إلى ما ذكرنا من آيات التخويف ثماني مرات : (
nindex.php?page=tafseer&surano=55&ayano=13فبأي آلاء ربكما تكذبان ) سبع مرات للتقرير بالتكرير استيفاء للعدد الكثير الذي هو سبعة ، وقد بينا سبب اختصاصه في قوله تعالى : (
nindex.php?page=tafseer&surano=31&ayano=27سبعة أبحر ) وسنعيد منه طرفا إن شاء الله تعالى ، فصار المجموع ثلاثين مرة المرة الواحدة التي هي عقيب النعم الكثيرة لبيان المعنى وهو الأصل والتكثير تكرار فصار إحدى وثلاثين مرة .
(
nindex.php?page=tafseer&surano=55&ayano=12وَالْحَبُّ ذُو الْعَصْفِ وَالرَّيْحَانُ nindex.php?page=tafseer&surano=55&ayano=13فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ )
ثُمَّ قَالَ تَعَالَى : (
nindex.php?page=tafseer&surano=55&ayano=12وَالْحَبُّ ذُو الْعَصْفِ وَالرَّيْحَانُ ) اقْتَصَرَ مِنَ الْأَشْجَارِ عَلَى النَّخْلِ لِأَنَّهَا أَعْظَمُهَا وَدَخَلَ فِي الْحَبِّ الْقَمْحُ وَالشَّعِيرُ وَكُلُّ حَبٍّ يُقْتَاتُ بِهِ خُبْزًا أَوْ يُؤْدَمُ بِهِ بَيَّنَّا أَنَّهُ أَخَّرَهُ فِي الذِّكْرِ عَلَى سَبِيلِ الِارْتِقَاءِ دَرَجَةً فَدَرَجَةً ، فَالْحُبُوبُ أَنْفَعُ مِنَ النَّخْلِ وَأَعَمُّ وُجُودًا فِي الْأَمَاكِنِ . وَقَوْلُهُ تَعَالَى : (
nindex.php?page=tafseer&surano=55&ayano=12ذُو الْعَصْفِ ) فِيهِ وُجُوهٌ :
أَحَدُهَا : التِّبْنُ الَّذِي تَنْتَفِعُ بِهِ دَوَابُّنَا الَّتِي خُلِقَتْ لَنَا .
ثَانِيهَا : أَوْرَاقُ النَّبَاتِ الَّذِي لَهُ سَاقٌ الْخَارِجَةُ مِنْ جَوَانِبِ السَّاقِ كَأَوْرَاقِ السُّنْبُلَةِ مِنْ أَعْلَاهَا إِلَى أَسْفَلِهَا .
ثَالِثُهَا : الْعَصْفُ هُوَ وَرَقُ مَا يُؤْكَلُ فَحَسْبُ ، (
nindex.php?page=tafseer&surano=55&ayano=12وَالرَّيْحَانُ ) فِيهِ وُجُوهٌ ، قِيلَ : مَا يُشَمُّ وَقِيلَ : الْوَرَقُ ، وَقِيلَ : هُوَ الرَّيْحَانُ الْمَعْرُوفُ عِنْدَنَا وَبَزْرُهُ يَنْفَعُ فِي الْأَدْوِيَةِ ، وَالْأَظْهَرُ أَنَّ رَأْسَهَا كَالزَّهْرِ وَهُوَ أَصْلُ وُجُودِ الْمَقْصُودِ ، فَإِنَّ ذَلِكَ الزَّهْرَ يَتَكَوَّنُ بِذَلِكَ الْحَبِّ وَيَنْعَقِدُ إِلَى أَنْ يُدْرَكَ فَـ (
nindex.php?page=tafseer&surano=55&ayano=12الْعَصْفِ ) إِشَارَةٌ إِلَى ذَلِكَ الْوَرَقِ وَالرَّيْحَانُ إِلَى ذَلِكَ الزَّهْرِ ، وَإِنَّمَا ذَكَرَهُمَا لِأَنَّهُمَا يَؤُولَانِ إِلَى الْمَقْصُودِ مِنْ أَحَدِهِمَا عَلْفَ الدَّوَابِّ ، وَمِنَ الْآخَرِ دَوَاءَ الْإِنْسَانِ ، وَقُرِئَ ( الرَّيْحَانُ ) بِالْجَرِّ مَعْطُوفًا عَلَى الْعَصْفِ ، وَبِالرَّفْعِ عَطْفًا عَلَى الْحَبِّ ، وَهَذَا يَحْتَمِلُ وَجْهَيْنِ :
أَحَدُهُمَا : أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ مِنَ الرَّيْحَانِ : الْمَشْمُومَ فَيَكُونَ أَمْرًا مُغَايِرًا لِلْحَبِّ فَيُعْطَفَ عَلَيْهِ .
وَالثَّانِي : أَنْ يَكُونَ التَّقْدِيرُ ذُو الرَّيْحَانِ بِحَذْفِ الْمُضَافِ ، وَإِقَامَةِ الْمُضَافِ إِلَيْهِ مَقَامَهُ كَمَا فِي : (
nindex.php?page=tafseer&surano=12&ayano=82وَاسْأَلِ الْقَرْيَةَ ) [ يُوسُفَ : 82 ] وَهَذَا مُنَاسِبٌ لِلْمَعْنَى الَّذِي ذَكَرْنَا ، لِيَكُونَ الرَّيْحَانُ الَّذِي خَتَمَ بِهِ أَنْوَاعَ النِّعَمِ الْأَرْضِيَّةِ أَعَزَّ وَأَشْرَفَ ، وَلَوْ كَانَ الْمُرَادُ مِنَ الرَّيْحَانِ هُوَ الْمَعْرُوفَ أَوِ الْمَشْمُومَاتِ لَمَا حَصَلَ ذَلِكَ التَّرْتِيبُ ، وَقُرِئَ : " وَالرَّيْحَانِ " وَلَا يَقْرَأُ هَذَا إِلَّا مَنْ يَقْرَأُ : (
nindex.php?page=tafseer&surano=55&ayano=12وَالْحَبُّ ذُو الْعَصْفِ ) وَيَعُودُ الْوَجْهَانِ فِيهِ .
ثُمَّ قَالَ تَعَالَى : (
nindex.php?page=tafseer&surano=55&ayano=13فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ ) وَفِيهِ مَبَاحِثُ :
الْأَوَّلُ : الْخِطَابُ مَعَ مَنْ ؟ نَقُولُ : فِيهِ وُجُوهٌ :
الْأَوَّلُ : الْإِنْسُ وَالْجِنُّ وَفِيهِ ثَلَاثَةُ أَوْجُهٍ :
أَحَدُهَا : يُقَالُ : الْأَنَامُ اسْمٌ لِلْجِنِّ وَالْإِنْسِ وَقَدْ سَبَقَ ذِكْرُهُ ، فَعَادَ الضَّمِيرُ إِلَى مَا فِي الْأَنَامِ مِنَ الْجِنْسِ .
ثَانِيهَا : الْأَنَامُ اسْمُ ( الْإِنْسَانَ ) وَ (
nindex.php?page=tafseer&surano=55&ayano=15الْجَانَّ ) لَمَّا كَانَ مَنْوِيًّا وَظَهَرَ مِنْ بَعْدُ بِقَوْلِهِ : (
nindex.php?page=tafseer&surano=55&ayano=15وَخَلَقَ الْجَانَّ ) [ الرَّحْمَنِ : 15 ] جَازَ عَوْدُ الضَّمِيرِ إِلَيْهِ ، وَكَيْفَ لَا وَقَدْ جَازَ عَوْدُ الضَّمِيرِ إِلَى الْمَنْوِيِّ ، وَإِنْ لَمْ يُذْكَرْ مِنْهُ شَيْءٌ ، تَقُولُ : لَا أَدْرِي أَيَّهُمَا خَيْرٌ مِنْ زَيْدٍ وَعَمْرٍو .
ثَالِثُهَا : أَنْ يَكُونَ الْمُخَاطَبُ فِي النِّيَّةِ لَا فِي اللَّفْظِ كَأَنَّهُ قَالَ (
nindex.php?page=tafseer&surano=55&ayano=13فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ ) أَيُّهَا الثَّقَلَانِ .
الثَّانِي : الذَّكَرُ وَالْأُنْثَى . فَعَادَ الضَّمِيرُ إِلَيْهِمَا وَالْخِطَابُ مَعَهُمَا .
الثَّالِثُ : فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكَ تُكَذِّبُ ، فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكَ تُكَذِّبُ ، بِلَفْظٍ وَاحِدٍ وَالْمُرَادُ التَّكْرَارُ لِلتَّأْكِيدِ .
الرَّابِعُ : الْمُرَادُ الْعُمُومُ ، لَكِنَّ الْعَامَّ يَدْخُلُ فِيهِ قِسْمَانِ بِهِمَا يَنْحَصِرُ الْكُلُّ وَلَا يَبْقَى شَيْءٌ مِنَ الْعَامِّ خَارِجًا عَنْهُ . فَإِنَّكَ إِذَا قُلْتَ : إِنَّهُ تَعَالَى خَلَقَ مَنْ يَعْقِلُ وَمَنْ لَا يَعْقِلُ ، أَوْ قُلْتَ : اللَّهُ يَعْلَمُ مَا ظَهَرَ وَمَا لَمْ يَظْهَرْ إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ التَّقَاسِيمِ الْحَاصِرَةِ يَلْزَمُ التَّعْمِيمُ ، فَكَأَنَّهُ قَالَ : يَا أَيُّهَا الْقِسْمَانِ : (
nindex.php?page=tafseer&surano=55&ayano=13فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ ) وَاعْلَمْ أَنَّ التَّقْسِيمَ الْحَاصِرَ لَا يَخْرُجُ عَنْ أَمْرَيْنِ أَصْلًا وَلَا يَحْصُلُ الْحَصْرُ إِلَّا بِهِمَا ، فَإِنْ زَادَ فَهُنَاكَ قِسْمَانِ قَدْ طُوِيَ أَحَدُهُمَا فِي الْآخَرِ ، مِثَالُهُ إِذَا قُلْتَ : اللَّوْنُ إِمَّا سَوَادٌ وَإِمَّا بَيَاضٌ ، وَإِمَّا حُمْرَةٌ وَإِمَّا صُفْرَةٌ وَإِمَّا غَيْرُهَا ، فَكَأَنَّكَ قُلْتَ : اللَّوْنُ إِمَّا أَسْوَدُ وَإِمَّا لَيْسَ بِسَوَادٍ أَوْ إِمَّا بَيَاضٌ وَإِمَّا لَيْسَ بِبَيَاضٍ ، ثُمَّ الَّذِي لَيْسَ بِبَيَاضٍ إِمَّا حُمْرَةٌ وَإِمَّا لَيْسَ بِحُمْرَةٍ وَكَذَلِكَ إِلَى جُمْلَةِ التَّقْسِيمَاتِ ، فَأَشَارَ إِلَى الْقِسْمَيْنِ الْحَاصِرَيْنِ عَلَى أَنْ لَيْسَ لِأَحَدٍ وَلَا لِشَيْءٍ أَنْ
nindex.php?page=treesubj&link=32409يُنْكِرَ نِعَمَ اللَّهِ .
الْخَامِسُ : التَّكْذِيبُ قَدْ يَكُونُ بِالْقَلْبِ دُونَ اللِّسَانِ ، كَمَا فِي الْمُنَافِقِينَ ، وَقَدْ يَكُونُ بِاللِّسَانِ دُونَ الْقَلْبِ كَمَا فِي الْمُعَانِدِينَ ، وَقَدْ يَكُونُ بِهِمَا جَمِيعًا ، فَالْكَذِبُ لَا يَخْرُجُ عَنْ أَنْ يَكُونَ بِاللِّسَانِ أَوْ
[ ص: 85 ] بِالْقَلْبِ فَكَأَنَّهُ تَعَالَى قَالَ : يَا أَيُّهَا الْقَلْبُ وَاللِّسَانُ فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ فَإِنَّ النِّعَمَ بَلَغَتْ حَدًّا لَا يُمْكِنُ الْمُعَانِدُ أَنْ يَسْتَمِرَّ عَلَى تَكْذِيبِهَا .
السَّادِسُ : الْمُكَذِّبُ مُكَذِّبٌ بِالرَّسُولِ وَالدَّلَائِلِ السَّمْعِيَّةِ الَّتِي بِالْقُرْآنِ ، وَمُكَذِّبٌ بِالْعَقْلِ وَالْبَرَاهِينِ وَالَّتِي فِي الْآفَاقِ وَالْأَنْفُسِ ، فَكَأَنَّهُ تَعَالَى قَالَ : يَا أَيُّهَا الْمُكَذِّبَانِ بِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ ، وَقَدْ ظَهَرَتْ آيَاتُ الرِّسَالَةِ فَإِنَّ (
nindex.php?page=tafseer&surano=55&ayano=1الرَّحْمَنُ nindex.php?page=tafseer&surano=55&ayano=2عَلَّمَ الْقُرْآنَ ) ، وَآيَاتُ الْوَحْدَانِيَّةِ فَإِنَّهُ تَعَالَى خَلَقَ الْإِنْسَانَ وَعَلَّمَهُ الْبَيَانَ ، وَرَفَعَ السَّمَاءَ وَوَضَعَ الْأَرْضَ .
السَّابِعُ : الْمُكَذِّبُ قَدْ يَكُونُ مُكَذِّبًا بِالْفِعْلِ وَقَدْ يَكُونُ التَّكْذِيبُ مِنْهُ غَيْرَ وَاقِعٍ بَعْدُ ، لَكِنَّهُ مُتَوَقَّعٌ ، فَاللَّهُ تَعَالَى قَالَ : يَا أَيُّهَا الْمُكَذِّبُ تَكْذِبُ وَتَتَلَبَّسُ بِالْكَذِبِ ، وَيَخْتَلِجُ فِي صَدْرِكَ أَنَّكَ تَكْذِبُ (
nindex.php?page=tafseer&surano=55&ayano=13فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ ) . وَهَذِهِ الْوُجُوهُ قَرِيبَةٌ بَعْضُهَا مِنْ بَعْضٍ . وَالظَّاهِرُ مِنْهَا الثَّقَلَانِ ، لِذِكْرِهِمَا فِي الْآيَاتِ مِنْ هَذِهِ السُّورَةِ بِقَوْلِهِ : (
nindex.php?page=tafseer&surano=55&ayano=31سَنَفْرُغُ لَكُمْ أَيُّهَا الثَّقَلَانِ ) [ الرَّحْمَنِ : 31 ] ، وَبِقَوْلِهِ : (
nindex.php?page=tafseer&surano=55&ayano=33يَامَعْشَرَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ ) [ الرَّحْمَنِ : 33 ] وَبِقَوْلِهِ : (
nindex.php?page=tafseer&surano=55&ayano=14خَلَقَ الْإِنْسَانَ مِنْ صَلْصَالٍ كَالْفَخَّارِ nindex.php?page=tafseer&surano=55&ayano=15وَخَلَقَ الْجَانَّ ) إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ ، ( وَالزَّوْجَانِ ) لِوُرُودِهِ فِي الْقُرْآنِ كَثِيرًا وَالتَّعْمِيمُ بِإِرَادَةِ نَوْعَيْنِ حَاصِرَيْنِ لِلْجَمِيعِ ، وَيُمْكِنُ أَنْ يُقَالَ : التَّعْمِيمُ أَوْلَى لِأَنَّ الْمُرَادَ لَوْ كَانَ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ اللَّذَّانِ خَاطَبَهُمَا بِقَوْلِهِ : (
nindex.php?page=tafseer&surano=55&ayano=13فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ ) مَا كَانَ يَقُولُ بَعْدَ خَلْقِ الْإِنْسَانِ ، بَلْ كَانَ يُخَاطِبُ وَيَقُولُ : خَلَقْنَاكَ يَا أَيُّهَا الْإِنْسَانُ (
nindex.php?page=tafseer&surano=55&ayano=14مِنْ صَلْصَالٍ ) وَخَلَقْنَاكَ يَا أَيُّهَا الْجَانُّ أَوْ يَقُولُ : خَلَقَكَ يَا أَيُّهَا الْإِنْسَانُ لِأَنَّ الْكَلَامَ صَارَ خِطَابًا مَعَهُمَا ، وَلَمَّا قَالَ الْإِنْسَانُ ، دَلَّ عَلَى أَنَّ الْمُخَاطَبَ غَيْرُهُ وَهُوَ الْعُمُومُ فَيَصِيرُ كَأَنَّهُ قَالَ : يَا أَيُّهَا الْخَلْقُ وَالسَّامِعُونَ إِنَّا
nindex.php?page=treesubj&link=32405خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ مِنْ صَلْصَالٍ كَالْفَخَّارِ ، وَخَلَقْنَا الْجَانَّ مِنْ مَارِجٍ مِنْ نَارٍ . وَسَيَأْتِي بَاقِي الْبَيَانِ فِي مَوَاضِعَ مِنْ تَفْسِيرِ هَذِهِ السُّورَةِ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى .
الثَّانِي : مَا الْحِكْمَةُ فِي الْخِطَابِ وَلَمْ يَسْبِقْ ذِكْرُ مُخَاطَبٍ ، نَقُولُ : هُوَ مِنْ بَابِ الِالْتِفَاتِ إِذْ مَبْنَى افْتِتَاحِ السُّورَةِ عَلَى الْخِطَابِ مَعَ كُلِّ مَنْ يَسْمَعُ ، فَكَأَنَّهُ لَمَّا قَالَ : (
nindex.php?page=tafseer&surano=55&ayano=1الرَّحْمَنُ nindex.php?page=tafseer&surano=55&ayano=2عَلَّمَ الْقُرْآنَ ) قَالَ : اسْمَعُوا أَيُّهَا السَّامِعُونَ ، وَالْخِطَابُ لِلتَّقْرِيعِ وَالزَّجْرِ كَأَنَّهُ تَعَالَى نَبَّهَ الْغَافِلَ الْمُكَذِّبَ عَلَى أَنَّهُ يَفْرِضُ نَفْسَهُ كَالْوَاقِفِ بَيْنَ يَدَيِ رَبِّهِ يَقُولُ لَهُ رَبُّهُ : أَنْعَمْتُ عَلَيْكَ بِكَذَا وَكَذَا ، ثُمَّ يَقُولُ : فَبِأَيِّ آلَائِي تُكَذِّبُ وَلَا شَكَّ أَنَّهُ عِنْدَ هَذَا يَسْتَحِي اسْتِحْيَاءً لَا يَكُونُ عِنْدَهُ فَرْضُ الْغَيْبَةِ .
الثَّالِثُ : مَا الْفَائِدَةُ فِي اخْتِيَارِ لَفْظَةِ الرَّبِّ وَإِذَا خَاطَبَ أَرَادَ خِطَابَ الْوَاحِدِ فَلِمَ قَالَ : (
nindex.php?page=tafseer&surano=55&ayano=13رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ ) وَهُوَ الْحَاضِرُ الْمُتَكَلِّمُ فَكَيْفَ يَجْعَلُ التَّكْذِيبَ الْمُسْنَدَ إِلَى الْمُخَاطَبِ وَارِدًا عَلَى الْغَائِبِ ، وَلَوْ قَالَ : بِأَيِّ آلَائِي تُكَذِّبَانِ كَانَ أَلْيَقَ فِي الْخِطَابِ ؟ نَقُولُ : فِي السُّورَةِ الْمُتَقَدِّمَةِ قَالَ : (
nindex.php?page=tafseer&surano=54&ayano=23كَذَّبَتْ ثَمُودُ بِالنُّذُرِ ) [ الْقَمَرِ : 23 ] (
nindex.php?page=tafseer&surano=54&ayano=33كَذَّبَتْ قَوْمُ لُوطٍ بِالنُّذُرِ ) [ الْقَمَرِ : 33 ] وَقَالَ : (
nindex.php?page=tafseer&surano=54&ayano=42كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا ) [الْقَمَرِ : 42] وَقَالَ : (
nindex.php?page=tafseer&surano=54&ayano=42فَأَخَذْنَاهُمْ ) وَقَالَ : (
nindex.php?page=tafseer&surano=54&ayano=16فَكَيْفَ كَانَ عَذَابِي وَنُذُرِ ) [ الْقَمَرِ : 16 ] كُلُّهَا بِالِاسْتِنَادِ إِلَى ضَمِيرِ الْمُتَكَلِّمِ حَيْثُ كَانَ ذَلِكَ لِلتَّخْوِيفِ ، فَاللَّهُ تَعَالَى أَعْظَمُ مِنْ أَنْ يَخْشَى ، فَلَوْ قَالَ : أَخَذَهُمُ الْقَادِرُ أَوِ الْمُهْلِكُ لَمَا كَانَ فِي التَّعْظِيمِ مِثْلُ قَوْلِهِ : (
nindex.php?page=tafseer&surano=6&ayano=42فَأَخَذْنَاهُمْ ) [ الْأَنْعَامِ : 42 ] وَلِهَذَا قَالَ تَعَالَى : (
nindex.php?page=tafseer&surano=3&ayano=28وَيُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ ) [ آل عمران : 28 ] وَهَذَا كَمَا أَنَّ الْمَشْهُورَ بِالْقُوَّةِ يَقُولُ أَنَا الَّذِي تَعْرِفُنِي فَيَكُونُ فِي إِثْبَاتِ الْوَعِيدِ فَوْقَ قَوْلِهِ أَنَا الْمُعَذِّبُ ، فَلَمَّا كَانَ الْإِسْنَادُ إِلَى النَّفْسِ مُسْتَعْمَلًا فِي تِلْكَ السُّورَةِ عِنْدَ الْإِهْلَاكِ وَالتَّعْذِيبِ ذُكِرَ فِي هَذِهِ السُّورَةِ عِنْدَ بَيَانِ الرَّحْمَةِ لَفْظٌ يُزِيلُ الْهَيْبَةَ وَهُوَ لَفْظُ الرَّبِّ ، فَكَأَنَّهُ تَعَالَى قَالَ (
nindex.php?page=tafseer&surano=55&ayano=13فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ ) وَهُوَ رَبَّاكُمَا .
الرَّابِعُ : مَا الْحِكْمَةُ فِي تَكْرِيرِ هَذِهِ الْآيَةِ وَكَوْنِهِ إِحْدَى وَثَلَاثِينَ مَرَّةً ؟ نَقُولُ : الْجَوَابُ عَنْهُ مِنْ وُجُوهٍ :
الْأَوَّلُ : إِنَّ فَائِدَةَ التَّكْرِيرِ التَّقْرِيرُ ، وَأَمَّا هَذَا الْعَدَدُ الْخَاصُّ فَالْأَعْدَادُ تَوْقِيفِيَّةٌ لَا تَطَّلِعُ عَلَى تَقْدِيرِ الْمُقَدَّرَاتِ أَذْهَانُ النَّاسِ ، وَالْأَوْلَى أَنْ لَا يُبَالِغَ الْإِنْسَانُ فِي اسْتِخْرَاجِ الْأُمُورِ الْبَعِيدَةِ فِي كَلَامِ اللَّهِ تَعَالَى تَمَسُّكًا بِقَوْلِ
عُمَرَ [ ص: 86 ] رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ حَيْثُ قَالَ مَعَ نَفْسِهِ عِنْدَ قِرَاءَتِهِ عَبَسَ : كُلُّ هَذَا قَدْ عَرَفْنَاهُ فَمَا الْأَبُّ ؟ ثُمَّ رَفَعَ عَصًا كَانَتْ بِيَدِهِ وَقَالَ هَذَا
لَعَمْرُ اللَّهِ التَّكْلِيفُ وَمَا عَلَيْكَ يَا
عُمَرُ أَنْ لَا تَدْرِيَ مَا الْأَبُّ ، ثُمَّ قَالَ : اتَّبِعُوا مَا بُيِّنَ لَكُمْ مِنْ هَذَا الْكِتَابِ وَمَا لَا فَدَعُوهُ ، وَسَيَأْتِي فَائِدَةُ كَلَامِهِ تَعَالَى فِي تَفْسِيرِ السُّورَةِ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى .
الْجَوَابُ الثَّانِي : مَا قُلْنَاهُ : إِنَّهُ تَعَالَى ذَكَرَ فِي السُّورَةِ الْمُتَقَدِّمَةِ : (
nindex.php?page=tafseer&surano=54&ayano=16فَكَيْفَ كَانَ عَذَابِي وَنُذُرِ ) أَرْبَعَ مَرَّاتٍ لِبَيَانِ مَا فِي ذَلِكَ مِنَ الْمَعْنَى ، وَثَلَاثَ مَرَّاتٍ لِلتَّقْرِيرِ وَالتَّكْرِيرِ ، وَلِلثَّلَاثِ وَالسَّبْعِ مِنْ بَيْنِ الْأَعْدَادِ فَوَائِدُ ذَكَرْنَاهَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى : (
nindex.php?page=tafseer&surano=31&ayano=27وَالْبَحْرُ يَمُدُّهُ مِنْ بَعْدِهِ سَبْعَةُ أَبْحُرٍ ) [ لُقْمَانَ : 27 ] فَلَمَّا ذَكَرَ الْعَذَابَ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ ذَكَرَ الْآلَاءَ إِحْدَى وَثَلَاثِينَ مَرَّةً لِبَيَانِ مَا فِيهِ مِنَ الْمَعْنَى ، وَثَلَاثِينَ مَرَّةً لِلتَّقْرِيرِ ، فَالْآلَاءُ مَذْكُورَةٌ عَشْرَ مَرَّاتٍ أَضْعَافَ مَرَّاتِ ذِكْرِ الْعَذَابِ إِشَارَةً إِلَى مَعْنَى قَوْلِهِ تَعَالَى : (
nindex.php?page=tafseer&surano=6&ayano=160مَنْ جَاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثَالِهَا وَمَنْ جَاءَ بِالسَّيِّئَةِ فَلَا يُجْزَى إِلَّا مِثْلَهَا ) [ الْأَنْعَامِ : 160 ] .
الثَّالِثُ : أَنَّ الثَّلَاثِينَ مَرَّةً تَكْرِيرٌ بَعْدَ الْبَيَانِ فِي الْمَرَّةِ الْأُولَى ؛ لِأَنَّ الْخِطَابَ مَعَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ ، وَالنِّعَمُ مُنْحَصِرَةٌ فِي دَفْعِ الْمَكْرُوهِ وَتَحْصِيلِ الْمَقْصُودِ ، لَكِنَّ أَعْظَمَ الْمَكْرُوهَاتِ عَذَابُ جَهَنَّمَ (
nindex.php?page=tafseer&surano=15&ayano=44لَهَا سَبْعَةُ أَبْوَابٍ ) [ الْحِجْرِ : 44 ] وَأَتَمُّ الْمَقَاصِدِ نَعِيمُ
nindex.php?page=treesubj&link=30393الْجَنَّةِ وَلَهَا ثَمَانِيَةُ أَبْوَابٍ ، فَإِغْلَاقُ الْأَبْوَابِ السَّبْعَةِ وَفَتْحُ الْأَبْوَابِ الثَّمَانِيَةِ جَمِيعُهُ نِعْمَةٌ وَإِكْرَامٌ ، فَإِذَا اعْتَبَرْتَ تِلْكَ النِّعَمَ بِالنِّسْبَةِ إِلَى جِنْسَيِ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ تَبْلُغُ ثَلَاثِينَ مَرَّةً وَهِيَ مَرَّاتُ التَّكْرِيرِ لِلتَّقْرِيرِ ، وَالْمَرَّةُ الْأُولَى لِبَيَانِ فَائِدَةِ الْكَلَامِ ، وَهَذَا مَنْقُولٌ وَهُوَ ضَعِيفٌ ، لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى ذَكَرَ نِعَمَ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ ، وَمَا ذَكَرَهُ اقْتِصَارًا عَلَى بَيَانِ نِعَمِ الْآخِرَةِ .
الرَّابِعُ : هُوَ أَنَّ
nindex.php?page=treesubj&link=30435أَبْوَابَ النَّارِ سَبْعَةٌ وَاللَّهُ تَعَالَى ذَكَرَ سَبْعَ آيَاتٍ تَتَعَلَّقُ بِالتَّخْوِيفِ مِنَ النَّارِ ، مِنْ قَوْلِهِ تَعَالَى : (
nindex.php?page=tafseer&surano=55&ayano=31سَنَفْرُغُ لَكُمْ أَيُّهَا الثَّقَلَانِ ) [ الرَّحْمَنِ : 31 ] ، إِلَى قَوْلِهِ تَعَالَى : (
nindex.php?page=tafseer&surano=55&ayano=44يَطُوفُونَ بَيْنَهَا وَبَيْنَ حَمِيمٍ آنٍ ) [ الرَّحْمَنِ : 44 ] ثُمَّ إِنَّهُ تَعَالَى ذَكَرَ بَعْدَ ذَلِكَ جَنَّتَيْنِ حَيْثُ قَالَ : (
nindex.php?page=tafseer&surano=55&ayano=46وَلِمَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ جَنَّتَانِ ) [ الرَّحْمَنِ : 46 ] وَلِكُلِّ جَنَّةٍ ثَمَانِيَةُ أَبْوَابٍ تُفْتَحُ كُلُّهَا لِلْمُتَّقِينَ ، وَذَكَرَ مِنْ أَوَّلِ السُّورَةِ إِلَى مَا ذَكَرْنَا مِنْ آيَاتِ التَّخْوِيفِ ثَمَانِيَ مَرَّاتٍ : (
nindex.php?page=tafseer&surano=55&ayano=13فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ ) سَبْعَ مَرَّاتٍ لِلتَّقْرِيرِ بِالتَّكْرِيرِ اسْتِيفَاءً لِلْعَدَدِ الْكَثِيرِ الَّذِي هُوَ سَبْعَةٌ ، وَقَدْ بَيَّنَّا سَبَبَ اخْتِصَاصِهِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى : (
nindex.php?page=tafseer&surano=31&ayano=27سَبْعَةُ أَبْحُرٍ ) وَسَنُعِيدُ مِنْهُ طَرَفًا إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى ، فَصَارَ الْمَجْمُوعُ ثَلَاثِينَ مَرَّةً الْمَرَّةُ الْوَاحِدَةُ الَّتِي هِيَ عَقِيبَ النِّعَمِ الْكَثِيرَةِ لِبَيَانِ الْمَعْنَى وَهُوَ الْأَصْلُ وَالتَّكْثِيرُ تَكْرَارٌ فَصَارَ إِحْدَى وَثَلَاثِينَ مَرَّةً .