الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                                                                      صفحة جزء
                                                                                                                                                                                                                                      تنبيه:

                                                                                                                                                                                                                                      ظاهر النظم القرآني أن الثلثين فريضة الثلاث من البنات فصاعدا حيث لا ذكر معهن، ولم يسم للبنتين فريضة.

                                                                                                                                                                                                                                      وقد اختلف أهل العلم في فريضتهما، فذهب الجمهور إلى أن لهما - إذا انفردتا عن البنين – الثلثين.

                                                                                                                                                                                                                                      وذهب ابن عباس إلى أن فريضتهما النصف، احتج الجمهور بالقياس على الأختين، فإن الله سبحانه قال في شأنهما: فإن كانتا اثنتين فلهما الثلثان فألحقوا البنتين بالأختين في استحقاقهما الثلثين، كما ألحقوا الأخوات - إذا زدن على اثنتين - بالبنات، في الاشتراك في الثلثين.

                                                                                                                                                                                                                                      وقيل: في الآية ما يدل على أن للبنتين الثلثين، وذلك أنه لما كان للواحدة مع أخيها الثلث، كان للابنتين - إذا انفردتا - الثلثان، هكذا احتج بهذه الحجة إسماعيل بن عياش والمبرد.

                                                                                                                                                                                                                                      قال النحاس: وهذا الاحتجاج عند أهل النظر غلط؛ لأن الاختلاف في البنتين إذا انفردتا عن البنين، وأيضا للمخالف أن يقول: إذا ترك بنتين وابنا فللبنتين النصف، فهذا دليل على أن هذا فرضهما.

                                                                                                                                                                                                                                      ويمكن تأييد ما احتج به الجمهور بأن الله سبحانه لما فرض للبنت الواحدة النصف إذا انفردت بقوله: وإن كانت واحدة فلها النصف كان فرض البنتين - إذا انفردتا - فوق فرض الواحدة، وأوجب القياس على الأختين [ ص: 1141 ] الاقتصار للبنتين على الثلثين.

                                                                                                                                                                                                                                      وقيل إن (فوق) زائدة، والمعنى: إن كن نساء اثنتين كقوله تعالى: فاضربوا فوق الأعناق [الأنفال: من الآية 12] أي: الأعناق.

                                                                                                                                                                                                                                      ورد هذا النحاس وابن عطية فقالا: هو خطأ؛ لأن الظروف وجميع الأسماء لا يجوز في كلام العرب أن تزاد لغير معنى.

                                                                                                                                                                                                                                      قال ابن عطية: ولأن قوله (فوق الأعناق) هو الفصيح وليست (فوق) زائدة بل هي محكمة المعنى؛ لأن ضربة العنق إنما يجب أن تكون فوق العظام في المفصل دون الدماغ، كما قال دريد بن الصمة : اخفض عن الدماغ وارفع عن العظم، فهكذا كنت أضرب أعناق الأبطال، انتهى.

                                                                                                                                                                                                                                      وأيضا لو كان لفظ (فوق) زائدا كما قالوا، لقال: فلهما ثلثا ما ترك، ولم يقل: فلهن ثلثا ما ترك.

                                                                                                                                                                                                                                      وأوضح ما يحتج به للجمهور ما أخرجه ابن أبي شيبة وأحمد وأبو داود والترمذي وابن ماجه وأبو يعلى وابن أبي حاتم وابن حبان [ ص: 1142 ] والحاكم والبيهقي في: "سننه" عن جابر قال: جاءت امرأة سعد بن الربيع بابنتيها من سعد إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقالت: يا رسول الله هاتان ابنتا سعد بن الربيع ، قتل أبوهما معك يوم أحد شهيدا، وإن عمهما أخذ مالهما فلم يدع لهما مالا، ولا تنكحان إلا ولهما مال، فقال: يقضي الله في ذلك فنزلت آية الميراث، فبعث رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلى عمهما فقال: أعط ابنتي سعد الثلثين، وأمهما الثمن، وما بقي فهو لك أخرجوه من طرق، عن عبد الله بن محمد بن عقيل ، عن جابر .

                                                                                                                                                                                                                                      قال الترمذي : هذا حديث صحيح لا نعرفه إلا من حديث عبد الله بن محمد بن عقيل ، وقد رواه شريك أيضا عن عبد الله بن محمد بن عقيل من حديثه، كذا في: "فتح البيان".

                                                                                                                                                                                                                                      وإن كانت أي: المولودة واحدة أي: امرأة واحدة ليس معها أخ ولا أخت فلها النصف أي: نصف ما ترك، ولم يكمل لها لأنها ناقصة، ولذلك لم يجعل لها الثلثان اللذان هما نصيب الابن معها. ثم ذكر بعد ميراث الأولاد ميراث الوالدين فقال: ولأبويه أي: الميت، وهو كناية عن غير مذكور، وجاز ذلك لدلالة الكلام عليه، والمراد بالأبوين الأب والأم، والتثنية على لفظ الأب للتغليب لكل واحد منهما السدس مما ترك من المال إن كان له ولد ذكر أو أنثى فإن لم يكن له للميت ولد ذكر أو أنثى: وورثه أبواه فلأمه الثلث أي ثلث المال مما ترك، والباقي للأب للذكر مثل حظ الأنثيين، لكن قرر لها الثلث تنزيلا لها منزلة البنت مع الابن لا منفردة؛ حطا لها عن درجتها؛ لقيام البنت مقام الميت في الجملة، قاله المهايمي .

                                                                                                                                                                                                                                      فإن كان له أي: للميت إخوة من الأب والأم، أو من الأب أو من الأم، ذكورا أو إناثا فلأمه السدس يعني لأم الميت سدس التركة من بعد وصية يوصي بها أو دين خبر مبتدأ محذوف، أي: هذه الفروض المذكورة إنما تقسم للورثة من بعد إنفاذ وصية يوصي بها الميت إلى الثلث، ومن بعد قضاء دين على الميت.

                                                                                                                                                                                                                                      وقرئ في (السبع): يوصي مبنيا للمفعول وللفاعل.

                                                                                                                                                                                                                                      [ ص: 1143 ] قال الحافظ ابن كثير : أجمع العلماء من السلف والخلف على أن الدين مقدم على الوصية.

                                                                                                                                                                                                                                      وروى أحمد والترمذي وابن ماجه وأصحاب التفاسير من حديث ابن إسحاق ، عن الحارث بن عبد الله الأعور ، عن علي بن أبي طالب - رضي الله عنه - قال: إنكم تقرءون هذه الآية: من بعد وصية يوصي بها أو دين وإن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قضى بالدين قبل الوصية، وإن أعيان بني الأم يتوارثون دون بني العلات، الرجل يرث أخاه لأبيه وأمه دون أخيه لأبيه .

                                                                                                                                                                                                                                      ثم قال الترمذي : لا نعرفه إلا من حديث الحارث ، وقد تكلم فيه بعض أهل العلم، لكن كان حافظا للفرائض، معتنيا بها وبالحساب، فالله أعلم.

                                                                                                                                                                                                                                      قال السيوطي في: "الإكليل": في الآية أن الميراث إنما يقسم بعد قضاء الدين وتنفيذ الوصايا، وفيها مشروعية الوصية، واستدل بتقديمها في الذكر من قال بتقديمها على الدين في التركة، وأجاب من أخرها بأنها قدمت؛ لئلا يتهاون بها، واستدل بعمومها من أجاز الوصية بما قل أو كثر، ولو استغرق المال ، ومن أجازها للوارث والكافر، حربيا أو ذميا، واستدل بها من قال: إن الدين يمنع انتقال التركة إلى ملك الوارث ، ومن قال: إن دين الحج والزكاة مقدم على الميراث ، لعموم قوله: أو دين انتهى.

                                                                                                                                                                                                                                      وقد روى الإمام أحمد وابن ماجه بسند صحيح عن سعد بن الأطول أن أخاه مات وترك ثلاث مائة درهم، وترك عيالا فأردت أن أنفقها على عياله، فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: إن أخاك محتبس بدينه فاقض عنه فقال: يا رسول الله! قد أديت عنه، إلا دينارين ادعتهما امرأة وليس لها بينة، قال: فأعطها فإنها محقة .

                                                                                                                                                                                                                                      [ ص: 1144 ] لطيفة:

                                                                                                                                                                                                                                      (فائدة) وصف الوصية بقوله: يوصي بها هو الترغيب في الوصية والندب إليها.

                                                                                                                                                                                                                                      وإيثار (أو) المفيدة للإباحة في قوله: (أو دين) على (الواو) للدلالة على تساويهما في الوجوب، وتقدمهما على القسمة مجموعين أو منفردين، وتقديم الوصية على الدين - ذكرا مع تأخرها عنه حكما - ما قدمنا من إظهار كمال العناية بتنفيذها؛ لكونها مظنة التفريط في أدائها ولاطرادها، بخلاف الدين، أفاده أبو السعود .

                                                                                                                                                                                                                                      آباؤكم وأبناؤكم لا تدرون أيهم أقرب لكم نفعا أي: لا تعلمون من أنفع لكم ممن يرثكم من أصولكم وفروعكم في عاجلكم وآجلكم، والمعنى: فرض الله الفرائض - على ما هو - على حكمة، ولو وكل ذلك إليكم لم تعلموا أيهم أنفع لكم، فوضعتم أنتم الأموال على غير حكمة، والتفاوت في السهام بتفاوت المنافع، وأنتم لا تدرون تفاوتها، فتولى الله ذلك فضلا منه، ولم يكلها إلى اجتهادكم لعجزكم عن معرفة المقادير، وهذه الجملة اعتراضية مؤكدة لأمر القسمة، ورد لما كان في الجاهلية.

                                                                                                                                                                                                                                      قال السمرقندي : ويقال: معنى الآية أن الله تعالى علمكم قسمة المواريث، وأنكم لا تدرون أيهم أقرب موتا فيرث منه الآخر، انتهى.

                                                                                                                                                                                                                                      فريضة من الله نصبت نصب مصدر مؤكد لفعل محذوف، أي: فرض الله ذلك فرضا، أو لقوله تعالى: يوصيكم الله فإنه في معنى: يأمركم ويفرض عليكم.

                                                                                                                                                                                                                                      إن الله كان عليما أي: بالمصالح والرتب حكيما أي: في كل ما قضى وقدر، فيدخل فيه بيان أنصباء الذكر والأنثى دخولا أوليا.

                                                                                                                                                                                                                                      التالي السابق


                                                                                                                                                                                                                                      الخدمات العلمية