الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                                                                            ( يا أيها الإنسان إنك كادح إلى ربك كدحا فملاقيه )

                                                                                                                                                                                                                                            قوله تعالى : ( ياأيها الإنسان إنك كادح إلى ربك كدحا فملاقيه )

                                                                                                                                                                                                                                            اعلم أن قوله تعالى : ( إذا السماء انشقت ) إلى قوله : ( ياأيها الإنسان ) شرط ولا بد له من جزاء واختلفوا فيه على وجوه :

                                                                                                                                                                                                                                            أحدها : قال صاحب الكشاف : حذف جواب إذا ليذهب الوهم إلى كل شيء فيكون أدخل في التهويل .

                                                                                                                                                                                                                                            وثانيها : قال الفراء : إنما ترك الجواب لأن هذا المعنى معروف قد تردد في القرآن معناه فعرف ، ونظيره قوله : ( إنا أنزلناه في ليلة القدر ) [ القدر : 1 ] ترك ذكر القرآن لأن التصريح به قد تقدم في سائر المواضع .

                                                                                                                                                                                                                                            وثالثها : قال بعض المحققين : الجواب هو قوله : ( فملاقيه ) وقوله : ( ياأيها الإنسان إنك كادح إلى ربك كدحا ) معترض ، وهو كقول القائل : إذا كان كذا وكذا يا أيها الإنسان ترى عند ذلك ما عملت من خير أو شر ، فكذا هاهنا . والتقدير إذا كان يوم القيامة لقي الإنسان عمله .

                                                                                                                                                                                                                                            ورابعها : أن المعنى محمول على التقديم والتأخير فكأنه قيل : ( ياأيها الإنسان إنك كادح إلى ربك كدحا فملاقيه ) ، ( إذا السماء انشقت ) وقامت القيامة .

                                                                                                                                                                                                                                            وخامسها : قال الكسائي : إن الجواب في قوله : ( فأما من أوتي كتابه ) واعترض في الكلام قوله : ( ياأيها الإنسان إنك كادح ) والمعنى إذا السماء انشقت ، وكان كذا وكذا ( فمن أوتي كتابه بيمينه ) فهو كذا ومن أوتي كتابه وراء ظهره فهو كذا ، ونظيره قوله تعالى : ( فإما يأتينكم مني هدى فمن تبع هداي فلا خوف عليهم ) [ البقرة : 38 ] .

                                                                                                                                                                                                                                            وسادسها : قال القاضي : إن الجواب ما دل عليه قوله : ( إنك كادح ) كأنه تعالى قال : يا أيها الإنسان ترى ما عملت فاكدح لذلك اليوم أيها الإنسان لتفوز بالنعيم أما قوله : ( ياأيها الإنسان ) ففيه قولان : الأول : أن المراد جنس الناس كما يقال : أيها الرجل ، [ ص: 96 ] وكلكم ذلك الرجل ، فكذا هاهنا . وكأنه خطاب خص به كل واحد من الناس ، قال القفال : وهو أبلغ من العموم لأنه قائم مقام التخصيص على مخاطبة كل واحد منهم على التعيين بخلاف اللفظ العام فإنه لا يكون كذلك .

                                                                                                                                                                                                                                            والثاني : أن المراد منه رجل بعينه ، وهاهنا فيه قولان .

                                                                                                                                                                                                                                            الأول : أن المراد به محمد - صلى الله عليه وسلم - والمعنى أنك تكدح في إبلاغ رسالات الله وإرشاد عباده وتحمل الضرر من الكفار ، فأبشر فإنك تلقى الله بهذا العمل وهو غير ضائع عنده .

                                                                                                                                                                                                                                            الثاني : قال ابن عباس : هو أبي بن خلف ، وكدحه جده واجتهاده في طلب الدنيا ، وإيذاء الرسول عليه السلام ، والإصرار على الكفر ، والأقرب أنه محمول على الجنس لأنه أكثر فائدة ، ولأن قوله : ( فأما من أوتي كتابه بيمينه ) ، ( وأما من أوتي كتابه وراء ظهره ) كالنوعين له ، وذلك لا يتم إلا إذا كان جنسا ، أما قوله : ( إنك كادح ) فاعلم أن الكدح جهد الناس في العمل والكدح فيه حتى يؤثر فيها من كدح جلده إذا خدشه ، أما قوله : ( إلى ربك ) ففيه ثلاثة أوجه .

                                                                                                                                                                                                                                            أحدها : إنك كادح إلى لقاء ربك وهو الموت أي هذا الكدح يستمر ويبقى إلى هذا الزمان ، وأقول في هذا التفسير نكتة لطيفة ، وذلك لأنها تقتضي أن الإنسان لا ينفك في هذه الحياة الدنيوية من أولها إلى آخرها عن الكدح والمشقة والتعب ، ولما كانت كلمة " إلى " لانتهاء الغاية ، فهي تدل على وجوب انتهاء الكدح والمشقة بانتهاء هذه الحياة ، وأن يكون الحاصل بعد هذه الدنيا محض السعادة والرحمة ، وذلك معقول ، فإن نسبة الآخرة إلى الدنيا كنسبة الدنيا إلى رحم الأم ، فكما صح أن يقال : يا أيها الجنين إنك كادح إلى أن تنفصل من الرحم ، فكان ما بعد الانفصال عن الرحم بالنسبة إلى ما قبله خالصا عن الكدح والظلمة فنرجو من فضل الله أن يكون الحال فيما بعد الموت كذلك .

                                                                                                                                                                                                                                            وثانيها : قال القفال : التقدير إنك كادح في دنياك كدحا تصير به إلى ربك فبهذا التأويل حسن استعمال حرف إلى هاهنا .

                                                                                                                                                                                                                                            وثالثها : يحتمل أن يكون دخول إلى على معنى أن الكدح هو السعي ، فكأنه قال : ساع بعملك ( إلى ربك ) أما قوله تعالى : ( فملاقيه ) ففيه قولان .

                                                                                                                                                                                                                                            الأول : قال الزجاج : فملاق ربك أي ملاق حكمه لا مفر لك منه ، وقال آخرون : الضمير عائد إلى الكدح ، إلا أن الكدح عمل وهو عرض لا يبقى فملاقاته ممتنعة ، فوجب أن يكون المراد ملاقاة الكتاب الذي فيه بيان تلك الأعمال ، ويتأكد هذا التأويل بقوله بعد هذه الآية : ( فأما من أوتي كتابه بيمينه ) .

                                                                                                                                                                                                                                            التالي السابق


                                                                                                                                                                                                                                            الخدمات العلمية