الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                                                                            ( والنهار إذا جلاها والليل إذا يغشاها والسماء وما بناها )

                                                                                                                                                                                                                                            قوله تعالى : ( والنهار إذا جلاها ) معنى التجلية الإظهار والكشف ، والضمير في جلاها إلى ماذا يعود ؟ فيه وجهان :

                                                                                                                                                                                                                                            أحدهما : وهو قول الزجاج : أنه عائد إلى الشمس وذلك لأن النهار عبارة عن نور الشمس . فكلما كان النهار أجلى ظهورا كانت الشمس أجلى ظهورا ; لأن قوة الأثر وكماله تدل على قوة المؤثر ، فكان النهار يبرز الشمس ويظهرها ، كقوله تعالى : ( لا يجليها لوقتها إلا هو ) [ الأعراف : 187 ] أي لا يخرجها .

                                                                                                                                                                                                                                            الثاني : وهو قول الجمهور أنه عائد إلى الظلمة ، أو إلى الدنيا ، أو إلى الأرض وإن لم يجر لها ذكر ، يقولون : أصبحت باردة يريدون الغداة ، وأرسلت يريدون السماء .

                                                                                                                                                                                                                                            قوله تعالى : ( والليل إذا يغشاها ) يعني يغشى الليل الشمس فيزيل ضوءها ، وهذه الآية تقوي القول الأول في الآية التي قبلها من وجهين :

                                                                                                                                                                                                                                            الأول : إنه لما جعل الليل يغشى الشمس ويزيل ضوءها حسن أن يقال : النهار يجليها ، على ضد ما ذكر في الليل .

                                                                                                                                                                                                                                            والثاني : أن الضمير في " يغشاها " للشمس بلا خلاف ، فكذا في جلاها يجب أن يكون للشمس حتى يكون الضمير في الفواصل من أول السورة إلى ههنا للشمس ، قال القفال : وهذه الأقسام الأربعة ليست إلا بالشمس في الحقيقة لكن بحسب أوصاف أربعة :

                                                                                                                                                                                                                                            أولها : الضوء الحاصل منها عند ارتفاع النهار ، وذلك هو الوقت الذي يكمل فيه انتشار الحيوان واضطراب الناس للمعاش ، ومنها تلو القمر لها وأخذه الضوء عنها ، ومنها تكامل طلوعها وبروزها بمجيء النهار ، ومنها وجود خلاف ذلك بمجيء الليل ، ومن تأمل قليلا في عظمة الشمس ثم شاهد بعين عقله فيها أثر المصنوعية والمخلوقية من المقدار المتناهي والتركب من الأجزاء انتقل منه إلى عظمة خالقها ، فسبحانه ما أعظم شأنه .

                                                                                                                                                                                                                                            ( والسماء وما بناها )

                                                                                                                                                                                                                                            فيه سؤالات :

                                                                                                                                                                                                                                            السؤال الأول : أن الذي ذكره صاحب " الكشاف " من أن ( ما ) ههنا لو كانت مصدرية لكان عطف ( فألهمها ) عليه يوجب فساد النظم حقا ، والذي ذكره القاضي من أنه لو كان هذا قسما بخالق السماء لما كان يجوز تأخيره عن ذكر الشمس ، فهو إشكال جيد ، والذي يخطر ببالي في الجواب عنه : أن أعظم المحسوسات هو الشمس ، فذكرها سبحانه مع أوصافها الأربعة الدالة على عظمتها ، ثم ذكر ذاته المقدسة بعد ذلك ووصفها بصفات ثلاثة وهي تدبيره سبحانه للسماء والأرض وللمركبات ، ونبه على المركبات بذكر أشرفها وهي النفس ، والغرض من هذا الترتيب هو أن يتوافق العقل والحس على عظمة جرم الشمس ثم يحتج العقل الساذج بالشمس ، بل بجميع السماويات والأرضيات والمركبات على إثبات مبدئ لها ، فحينئذ يحظى العقل ههنا بإدراك جلال الله وعظمته على ما يليق به ، والحس لا ينازعه فيه . فكان ذلك كالطريق إلى جذب العقل من حضيض عالم المحسوسات إلى يفاع عالم الربوبية وبيداء كبرياء الصمدية ، فسبحان من عظمت حكمته وكملت كلمته .

                                                                                                                                                                                                                                            السؤال الثاني : ما الفائدة في قوله : ( والسماء وما بناها ) ؟

                                                                                                                                                                                                                                            الجواب : أنه سبحانه لما وصف الشمس بالصفات الأربعة الدالة على عظمتها ، أتبعه ببيان ما يدل على حدوثها وحدوث جميع الأجرام السماوية ، فنبه بهذه الآية على تلك الدلالة ، وذلك لأن الشمس والسماء متناهية ، وكل متناه فإنه مختص بمقدار معين ، مع [ ص: 174 ] أنه كان يجوز في العقل وجود ما هو أعظم منه ، وما هو أصغر منه ، فاختصاص الشمس وسائر السماويات بالمقدار المعين لا بد وأن يكون لتقدير مقدر وتدبير مدبر ، وكما أن باني البيت يبنيه بحسب مشيئته ، فكذا مدبر الشمس وسائر السماويات قدرها بحسب مشيئته ، فقوله : ( وما بناها ) كالتنبيه على هذه الدقيقة الدالة على حدوث الشمس وسائر السماويات .

                                                                                                                                                                                                                                            السؤال الثالث : لم قال : ( وما بناها ) ولم يقل : ومن بناها ؟

                                                                                                                                                                                                                                            الجواب من وجهين :

                                                                                                                                                                                                                                            الأول : أن المراد هو الإشارة إلى الوصفية ، كأنه قيل : والسماء وذلك الشيء العظيم القادر الذي بناها ، ونفس والحكيم الباهر الحكمة الذي سواها .

                                                                                                                                                                                                                                            والثاني : أن " ما " تستعمل في موضع " من " كقوله : ( ولا تنكحوا ما نكح آباؤكم من النساء ) [ النساء : 22 ] والاعتماد على الأول .

                                                                                                                                                                                                                                            السؤال الرابع : لم ذكر في تعريف ذات الله تعالى هذه الأشياء الثلاثة وهي السماء والأرض والنفس ؟ والجواب : لأن الاستدلال على الغائب لا يمكن إلا بالشاهد ، والشاهد ليس إلا العالم الجسماني وهو قسمان : بسيط ومركب ، والبسيط قسمان : العلوية وإليه الإشارة بقوله : ( والسماء ) ، والسفلية وإليه الإشارة بقوله : ( والأرض ) ، والمركب هو أقسام ، وأشرفها ذوات الأنفس وإليه الإشارة بقوله : ( ونفس وما سواها ) .

                                                                                                                                                                                                                                            التالي السابق


                                                                                                                                                                                                                                            الخدمات العلمية