الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                      صفحة جزء
                                                                                      ذكر محنته :

                                                                                      الواقدي : حدثنا عبد الله بن جعفر ، وغيره من أصحابنا ، قالوا : استعمل ابن الزبير جابر بن الأسود بن عوف الزهري على المدينة ، فدعا الناس إلى البيعة لابن الزبير فقال سعيد بن المسيب : لا ، حتى يجتمع الناس . فضربه ستين سوطا ، فبلغ ذلك ابن الزبير ، فكتب إلى جابر يلومه ويقول : ما لنا ولسعيد ، دعه .

                                                                                      وعن عبد الواحد بن أبي عون ، قال : كان جابر بن الأسود عامل ابن الزبير على المدينة قد تزوج الخامسة قبل انقضاء عدة الرابعة ، فلما ضرب سعيد بن المسيب صاح به سعيد والسياط تأخذه : والله ما ربعت على كتاب الله ، وإنك تزوجت الخامسة قبل انقضاء عدة الرابعة ، وما هي إلا ليال فاصنع ما بدا لك ، فسوف يأتيك ما تكره . فما مكث إلا يسيرا حتى قتل ابن الزبير .

                                                                                      الواقدي : حدثنا عبد الله بن جعفر وغيره أن عبد العزيز بن مروان توفي [ ص: 230 ] بمصر سنة أربع وثمانين ، فعقد عبد الملك لابنيه : الوليد وسليمان بالعهد ، وكتب بالبيعة لهما إلى البلدان ، وعامله يومئذ على المدينة هشام بن إسماعيل المخزومي ، فدعا الناس إلى البيعة ، فبايعوا ، وأبى سعيد بن المسيب أن يبايع لهما وقال : حتى أنظر ، فضربه هشام ستين سوطا ، وطاف به في تبان من شعر ، حتى بلغ به رأس الثنية ، فلما كروا به قال : أين تكرون بي؟ قالوا : إلى السجن . فقال : والله لولا أني ظننته الصلب ، ما لبست هذا التبان أبدا . فردوه إلى السجن ، فحبسه وكتب إلى عبد الملك يخبره بخلافه . فكتب إليه عبد الملك يلومه فيما صنع به ويقول : سعيد ، كان والله أحوج إلى أن تصل رحمه من أن تضربه ، وإنا لنعلم ما عنده خلاف .

                                                                                      وحدثني أبو بكر بن أبي سبرة ، عن المسور بن رفاعة ، قال : دخل قبيصة بن ذؤيب على عبد الملك بكتاب هشام بن إسماعيل يذكر أنه ضرب سعيدا وطاف به . قال قبيصة : يا أمير المؤمنين ، يفتات عليك هشام بمثل هذا ، والله لا يكون سعيد أبدا أمحل ولا ألج منه حين يضرب ، لو لم يبايع سعيد ما كان يكون منه ، وما هو ممن يخاف فتقه ، يا أمير المؤمنين اكتب إليه .

                                                                                      فقال عبد الملك : اكتب أنت إليه عني تخبره برأيي فيه ، وما خالفني من ضرب هشام إياه . فكتب قبيصة بذلك إلى سعيد . فقال سعيد حين قرأ الكتاب : الله بيني وبين من ظلمني .

                                                                                      حدثني عبد الله بن يزيد الهذلي ، قال : دخلت على سعيد بن المسيب السجن فإذا هو قد ذبحت له شاة ، فجعل الإهاب على ظهره ، ثم جعلوا له بعد ذلك قضبا رطبا ، وكان كلما نظر إلى عضديه قال : اللهم انصرني من هشام .

                                                                                      [ ص: 231 ] شيبان بن فروخ : حدثنا سلام بن مسكين ، حدثنا عمران بن عبد الله الخزاعي قال : دعي سعيد بن المسيب للوليد وسليمان بعد أبيهما فقال : لا أبايع اثنين ما اختلف الليل والنهار . فقيل : ادخل واخرج من الباب الآخر ، قال : والله لا يقتدي بي أحد من الناس ، قال : فجلده مائة وألبسه المسوح .

                                                                                      ضمرة بن ربيعة : حدثنا رجاء بن جميل ، قال : قال عبد الرحمن بن عبد القاري لسعيد بن المسيب حين قامت البيعة للوليد وسليمان بالمدينة : إني مشير عليك بخصال ، قال : ما هن؟ قال : تعتزل مقامك ، فإنك تقوم حيث يراك هشام بن إسماعيل ، قال : ما كنت لأغير مقاما قمته منذ أربعين سنة .

                                                                                      قال : تخرج معتمرا . قال : ما كنت لأنفق مالي وأجهد بدني في شيء ليس لي فيه نية ، قال : فما الثالثة؟ قال : تبايع ، قال : أرأيت إن كان الله أعمى قلبك كما أعمى بصرك فما علي؟ قال -وكان أعمى- قال رجاء : فدعاه هشام بن إسماعيل إلى البيعة ، فأبى ، فكتب فيه إلى عبد الملك . فكتب إليه عبد الملك : ما لك ولسعيد ، ما كان علينا منه شيء نكرهه ، فأما إذ فعلت فاضربه ثلاثين سوطا وألبسه تبان شعر ، وأوقفه للناس لئلا يقتدي به الناس . فدعاه هشام فأبى وقال : لا أبايع لاثنين . فألبسه تبان شعر ، وضربه ثلاثين سوطا ، وأوقفه للناس . فحدثني الأيليون الذين كانوا في الشرط بالمدينة قالوا : علمنا أنه لا يلبس التبان طائعا ، قلنا له : يا أبا محمد ، إنه القتل ، فاستر عورتك ، قال : فلبسه ، فلما ضرب تبين له أنا خدعناه ، قال : يا معجلة أهل أيلة ; لولا أني ظننت أنه القتل ما لبسته .

                                                                                      وقال هشام بن زيد : رأيت ابن المسيب حين ضرب في تبان شعر .

                                                                                      [ ص: 232 ] يحيى بن غيلان : حدثنا أبو عوانة ، عن قتادة ، قال : أتيت سعيد بن المسيب وقد ألبس تبان شعر وأقيم في الشمس ، فقلت لقائدي : أدنني منه فأدناني ، فجعلت أسأله خوفا من أن يفوتني ، وهو يجيبني حسبة والناس يتعجبون .

                                                                                      قال أبو المليح الرقي : حدثني غير واحد أن عبد الملك ضرب سعيد بن المسيب خمسين سوطا ، وأقامه بالحرة وألبسه تبان شعر ، فقال سعيد : لو علمت أنهم لا يزيدوني على الضرب ما لبسته ; إنما تخوفت من أن يقتلوني ، فقلت : تبان أستر من غيره .

                                                                                      قبيصة : حدثنا سفيان عن رجل من آل عمر ، قال : قلت لسعيد بن المسيب : ادع على بني أمية ، قال : اللهم أعز دينك ، وأظهر أولياءك ، واخز أعداءك في عافية لأمة محمد صلى الله عليه وسلم .

                                                                                      أبو عاصم النبيل : عن أبي يونس القوي قال : دخلت مسجد المدينة ، فإذا سعيد بن المسيب جالس وحده ، فقلت : ما شأنه؟ قيل : نهي أن يجالسه أحد .

                                                                                      همام : عن قتادة ، أن ابن المسيب كان إذا أراد أحد أن يجالسه قال : إنهم قد جلدوني ، ومنعوا الناس أن يجالسوني .

                                                                                      عن أبي عيسى الخراساني ، عن ابن المسيب ، قال : لا تملئوا أعينكم من أعوان الظلمة إلا بإنكار من قلوبكم ، لكيلا تحبط أعمالكم .

                                                                                      [ ص: 233 ]

                                                                                      التالي السابق


                                                                                      الخدمات العلمية