[ ص: 27 ] [ سورة القدر ]
خمس آيات مكية
بسم الله الرحمن الرحيم
(
nindex.php?page=tafseer&surano=97&ayano=1إنا أنزلناه في ليلة القدر )
بسم الله الرحمن الرحيم
(
nindex.php?page=tafseer&surano=97&ayano=1إنا أنزلناه في ليلة القدر ) وفيه مسائل :
المسألة الأولى : أجمع المفسرون على أن المراد : إنا أنزلنا القرآن في ليلة القدر ، ولكنه تعالى ترك التصريح بالذكر ، لأن هذا التركيب يدل على
nindex.php?page=treesubj&link=34077_28900عظم القرآن من ثلاثة أوجه :
أحدها : أنه أسند إنزاله إليه وجعله مختصا به دون غيره .
والثاني : أنه جاء بضميره دون اسمه الظاهر ؛ شهادة له بالنباهة والاستغناء عن التصريح ، ألا ترى أنه في السورة المتقدمة لم يذكر اسم
أبي جهل ولم يخف على أحد لاشتهاره ، وقوله : (
nindex.php?page=tafseer&surano=56&ayano=83فلولا إذا بلغت الحلقوم ) [الواقعة : 83] لم يذكر الموت لشهرته ، فكذا ههنا .
والثالث : تعظيم الوقت الذي أنزل فيه .
المسألة الثانية : أنه تعالى قال في بعض المواضع : ( إني ) كقوله : (
nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=30إني جاعل في الأرض خليفة ) [البقرة : 30] وفي بعض المواضع " إنا " كقوله : (
nindex.php?page=tafseer&surano=97&ayano=1إنا أنزلناه في ليلة القدر ) . (
nindex.php?page=tafseer&surano=15&ayano=9إنا نحن نزلنا الذكر ) [الحجر : 9] ، (
nindex.php?page=tafseer&surano=71&ayano=1إنا أرسلنا نوحا ) [نوح : 1] ، (
nindex.php?page=tafseer&surano=108&ayano=1إنا أعطيناك الكوثر ) [الكوثر : 1] .
واعلم أن قوله : ( إنا ) تارة يراد به التعظيم ، وحمله على الجمع محال لأن
nindex.php?page=treesubj&link=28658الدلائل دلت على وحدة الصانع ، ولأنه لو كان في الآلهة كثرة لانحطت رتبة كل واحد منهم عن الإلهية ، لأنه لو كان كل واحد منهم قادرا على الكمال لاستغنى بكل واحد منهم عن كل واحد منهم ، وكونه مستغنى عنه نقص في حقه فيكون الكل ناقصا ، وإن لم يكن كل واحد منهم قادرا على الكمال كان ناقصا ، فعلمنا أن قوله : ( إنا ) محمول على التعظيم لا على الجمع .
المسألة الثالثة : إن قيل :
nindex.php?page=treesubj&link=28900_28864_28863ما معنى أنه أنزل في ليلة القدر ، مع العلم بأنه أنزل نجوما ؟ قلنا فيه وجوه :
[ ص: 28 ]
أحدها : قال
nindex.php?page=showalam&ids=14577الشعبي : ابتدأ بإنزاله ليلة القدر لأن البعث كان في رمضان .
والثاني : قال
nindex.php?page=showalam&ids=11ابن عباس : أنزل إلى سماء الدنيا جملة ليلة القدر ، ثم إلى الأرض نجوما ، كما قال : (
nindex.php?page=tafseer&surano=56&ayano=75فلا أقسم بمواقع النجوم ) [الواقعة : 75] وقد ذكرنا هذه المسألة في قوله : (
nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=185شهر رمضان الذي أنزل فيه القرآن ) [البقرة : 185] لا يقال : فعلى هذا القول لم لم يقل : أنزلناه إلى السماء ؟ لأن إطلاقه يوهم الإنزال إلى الأرض ، لأنا نقول : إن إنزاله إلى السماء كإنزاله إلى الأرض ، لأنه لم يكن ليشرع في أمر ثم لا يتمه ، وهو كغائب جاء إلى نواحي البلد . يقال : جاء فلان ، أو يقال : الغرض من تقريبه وإنزاله إلى سماء الدنيا أن يشوقهم إلى نزوله كمن يسمع الخبر بمجيء منشور لوالده أو أمه ، فإنه يزداد شوقه إلى مطالعته كما قال :
وأبرح ما يكون الشوق يوما إذا دنت الديار من الديار
وهذا لأن السماء كالمشترك بيننا وبين الملائكة ، فهي لهم مسكن ولنا سقف وزينة ، كما قال : (
nindex.php?page=tafseer&surano=21&ayano=32وجعلنا السماء سقفا ) [الأنبياء : 32] فإنزاله القرآن هناك كإنزاله ههنا .
والوجه الثالث في الجواب : أن التقدير أنزلنا هذا الذكر : (
nindex.php?page=tafseer&surano=97&ayano=1في ليلة القدر ) أي في
nindex.php?page=treesubj&link=26777فضيلة ليلة القدر وبيان شرفها .
المسألة الرابعة :
nindex.php?page=treesubj&link=28775القدر مصدر قدرت أقدر قدرا ، والمراد به ما يمضيه الله من الأمور ، قال : (
nindex.php?page=tafseer&surano=54&ayano=49إنا كل شيء خلقناه بقدر ) [القمر : 49] والقدر والقدر واحد إلا أنه بالتسكين مصدر وبالفتح اسم ، قال
الواحدي : القدر في اللغة بمعنى التقدير ، وهو جعل الشيء على مساواة غيره من غير زيادة ولا نقصان ، واختلفوا في أنه لم سميت هذه الليلة ليلة القدر ، على وجوه :
أحدها : أنها ليلة تقدير الأمور والأحكام ، قال
عطاء ، عن
nindex.php?page=showalam&ids=11ابن عباس : إن الله قدر ما يكون في كل تلك السنة من مطر ورزق وإحياء وإماتة إلى مثل هذه الليلة من السنة الآتية ، ونظيره قوله تعالى : (
nindex.php?page=tafseer&surano=44&ayano=4فيها يفرق كل أمر حكيم ) [الدخان : 4] واعلم أن تقدير الله لا يحدث في تلك الليلة ، فإنه تعالى قدر المقادير قبل أن يخلق السماوات والأرض في الأزل ، بل المراد إظهار تلك الليلة المقادير للملائكة في تلك الليلة بأن يكتبها في اللوح المحفوظ ، وهذا القول اختيار عامة العلماء .
الثاني : نقل عن
nindex.php?page=showalam&ids=12300الزهري أنه قال : ليلة القدر ليلة العظمة والشرف من قولهم لفلان قدر عند فلان ، أي منزلة وشرف ، ويدل عليه قوله : (
nindex.php?page=tafseer&surano=97&ayano=3ليلة القدر خير من ألف شهر ) ثم هذا يحتمل وجهين :
أحدهما : أن يرجع ذلك إلى الفاعل أي من أتى فيها بالطاعات صار ذا قدر وشرف .
وثانيهما : إلى الفعل أي الطاعات لها في تلك الليلة قدر زائد وشرف زائد ، وعن
أبي بكر الوراق : سميت ليلة القدر ؛ لأنه نزل فيها كتاب ذو قدر ، على لسان ملك ذي قدر ، على أمة لها قدر ، ولعل الله تعالى إنما ذكر لفظة القدر في هذه السورة ثلاث مرات لهذا السبب .
والقول الثالث : ليلة القدر ؛ أي الضيق فإن الأرض تضيق عن الملائكة .
المسألة الخامسة : أنه تعالى أخفى هذه الليلة لوجوه :
أحدها : أنه تعالى أخفاها ، كما أخفى سائر الأشياء ، فإنه أخفى رضاه في الطاعات ، حتى يرغبوا في الكل ، وأخفى غضبه في المعاصي ليحترزوا عن الكل ، وأخفى وليه فيما بين الناس حتى يعظموا الكل ، وأخفى الإجابة في الدعاء ليبالغوا في كل الدعوات ، وأخفى الاسم الأعظم ليعظموا كل الأسماء ، وأخفى الصلاة الوسطى ليحافظوا على الكل ، وأخفى قبول التوبة ليواظب المكلف على جميع أقسام التوبة ، وأخفى وقت الموت ليخاف المكلف ، فكذا أخفى هذه
[ ص: 29 ] الليلة ليعظموا جميع ليالي رمضان .
وثانيها : كأنه تعالى يقول : لو عينت ليلة القدر ، وأنا عالم بتجاسركم على المعصية ، فربما دعتك الشهوة في تلك الليلة إلى المعصية ، فوقعت في الذنب ، فكانت معصيتك مع علمك أشد من معصيتك لا مع علمك ، فلهذا السبب أخفيتها عليك ، روي
أنه عليه السلام دخل المسجد فرأى نائما ، فقال : يا علي نبهه ليتوضأ ، فأيقظه علي ، ثم قال علي : يا رسول الله إنك سباق إلى الخيرات ، فلم لم تنبهه ؟ قال : لأن رده عليك ليس بكفر ، ففعلت ذلك لتخف جنايته لو أبى ، فإذا كان هذا رحمة الرسول ، فقس عليه رحمة الرب تعالى ، فكأنه تعالى يقول : إذا علمت ليلة القدر فإن أطعت فيها اكتسبت ثواب ألف شهر ، وإن عصيت فيها اكتسبت عقاب ألف شهر ، ودفع العقاب أولى من جلب الثواب .
وثالثها : أني أخفيت هذه الليلة حتى يجتهد المكلف في طلبها ، فيكتسب ثواب الاجتهاد .
ورابعها : أن العبد إذا لم يتيقن ليلة القدر ، فإنه يجتهد في الطاعة في جميع ليالي رمضان ، على رجاء أنه ربما كانت هذه الليلة هي ليلة القدر ، فيباهي الله تعالى بهم ملائكته ، ويقول : كنتم تقولون فيهم يفسدون ويسفكون الدماء . فهذا جده واجتهاده في الليلة المظنونة ، فكيف لو جعلتها معلومة له فحينئذ يظهر سر قوله : (
nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=30إني أعلم ما لا تعلمون ) [ البقرة : 30] .
المسألة السادسة : اختلفوا في أن هذه الليلة هل تستتبع اليوم ؟ قال
nindex.php?page=showalam&ids=14577الشعبي : نعم يومها كليلتها ، ولعل الوجه فيه أن ذكر الليالي يستتبع الأيام ، ومنه إذا نذر اعتكاف ليلتين ألزمناه بيوميهما قال تعالى : (
nindex.php?page=tafseer&surano=25&ayano=62وهو الذي جعل الليل والنهار خلفة ) [الفرقان : 62] أي اليوم يخلف ليلته وبالضد .
[ ص: 27 ] [ سُورَةُ الْقَدْرِ ]
خَمْسُ آيَاتٍ مَكِّيَّةٌ
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
(
nindex.php?page=tafseer&surano=97&ayano=1إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ )
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
(
nindex.php?page=tafseer&surano=97&ayano=1إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ ) وَفِيهِ مَسَائِلُ :
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى : أَجْمَعَ الْمُفَسِّرُونَ عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ : إِنَّا أَنْزَلْنَا الْقُرْآنَ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ ، وَلَكِنَّهُ تَعَالَى تَرَكَ التَّصْرِيحَ بِالذِّكْرِ ، لِأَنَّ هَذَا التَّرْكِيبَ يَدُلُّ عَلَى
nindex.php?page=treesubj&link=34077_28900عِظَمِ الْقُرْآنِ مِنْ ثَلَاثَةِ أَوْجُهٍ :
أَحَدُهَا : أَنَّهُ أَسْنَدَ إِنْزَالَهُ إِلَيْهِ وَجَعَلَهُ مُخْتَصًّا بِهِ دُونَ غَيْرِهِ .
وَالثَّانِي : أَنَّهُ جَاءَ بِضَمِيرِهِ دُونَ اسْمِهِ الظَّاهِرِ ؛ شَهَادَةً لَهُ بِالنَّبَاهَةِ وَالِاسْتِغْنَاءِ عَنِ التَّصْرِيحِ ، أَلَا تَرَى أَنَّهُ فِي السُّورَةِ الْمُتَقَدِّمَةِ لَمْ يَذْكُرِ اسْمَ
أَبِي جَهْلٍ وَلَمْ يَخْفَ عَلَى أَحَدٍ لِاشْتِهَارِهِ ، وَقَوْلُهُ : (
nindex.php?page=tafseer&surano=56&ayano=83فَلَوْلَا إِذَا بَلَغَتِ الْحُلْقُومَ ) [الْوَاقِعَةِ : 83] لَمْ يَذْكُرِ الْمَوْتَ لِشُهْرَتِهِ ، فَكَذَا هَهُنَا .
وَالثَّالِثُ : تَعْظِيمُ الْوَقْتِ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ .
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ : أَنَّهُ تَعَالَى قَالَ فِي بَعْضِ الْمَوَاضِعِ : ( إِنِّي ) كَقَوْلِهِ : (
nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=30إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً ) [الْبَقَرَةِ : 30] وَفِي بَعْضِ الْمَوَاضِعِ " إِنَّا " كَقَوْلِهِ : (
nindex.php?page=tafseer&surano=97&ayano=1إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ ) . (
nindex.php?page=tafseer&surano=15&ayano=9إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ ) [الْحِجْرِ : 9] ، (
nindex.php?page=tafseer&surano=71&ayano=1إِنَّا أَرْسَلْنَا نُوحًا ) [نُوحٍ : 1] ، (
nindex.php?page=tafseer&surano=108&ayano=1إِنَّا أَعْطَيْنَاكَ الْكَوْثَرَ ) [الْكَوْثَرِ : 1] .
وَاعْلَمْ أَنَّ قَوْلَهُ : ( إِنَّا ) تَارَةً يُرَادُ بِهِ التَّعْظِيمُ ، وَحَمْلُهُ عَلَى الْجَمْعِ مُحَالٌ لِأَنَّ
nindex.php?page=treesubj&link=28658الدَّلَائِلَ دَلَّتْ عَلَى وَحْدَةِ الصَّانِعِ ، وَلِأَنَّهُ لَوْ كَانَ فِي الْآلِهَةِ كَثْرَةٌ لَانْحَطَّتْ رُتْبَةُ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ عَنِ الْإِلَهِيَّةِ ، لِأَنَّهُ لَوْ كَانَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ قَادِرًا عَلَى الْكَمَالِ لَاسْتَغْنَى بِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ عَنْ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ ، وَكَوْنُهُ مُسْتَغْنًى عَنْهُ نَقْصٌ فِي حَقِّهِ فَيَكُونُ الْكُلُّ نَاقِصًا ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ قَادِرًا عَلَى الْكَمَالِ كَانَ نَاقِصًا ، فَعَلِمْنَا أَنَّ قَوْلَهُ : ( إِنَّا ) مَحْمُولٌ عَلَى التَّعْظِيمِ لَا عَلَى الْجَمْعِ .
الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ : إِنْ قِيلَ :
nindex.php?page=treesubj&link=28900_28864_28863مَا مَعْنَى أَنَّهُ أُنْزِلَ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ ، مَعَ الْعِلْمِ بِأَنَّهُ أُنْزِلَ نُجُومًا ؟ قُلْنَا فِيهِ وُجُوهٌ :
[ ص: 28 ]
أَحَدُهَا : قَالَ
nindex.php?page=showalam&ids=14577الشَّعْبِيُّ : ابْتَدَأَ بِإِنْزَالِهِ لَيْلَةَ الْقَدْرِ لِأَنَّ الْبَعْثَ كَانَ فِي رَمَضَانَ .
وَالثَّانِي : قَالَ
nindex.php?page=showalam&ids=11ابْنُ عَبَّاسٍ : أُنْزِلَ إِلَى سَمَاءِ الدُّنْيَا جُمْلَةً لَيْلَةَ الْقَدْرِ ، ثُمَّ إِلَى الْأَرْضِ نُجُومًا ، كَمَا قَالَ : (
nindex.php?page=tafseer&surano=56&ayano=75فَلَا أُقْسِمُ بِمَوَاقِعِ النُّجُومِ ) [الْوَاقِعَةِ : 75] وَقَدْ ذَكَرْنَا هَذِهِ الْمَسْأَلَةَ فِي قَوْلِهِ : (
nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=185شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ ) [الْبَقَرَةِ : 185] لَا يُقَالُ : فَعَلَى هَذَا الْقَوْلِ لِمَ لَمْ يَقُلْ : أَنْزَلْنَاهُ إِلَى السَّمَاءِ ؟ لِأَنَّ إِطْلَاقَهُ يُوهِمُ الْإِنْزَالَ إِلَى الْأَرْضِ ، لِأَنَّا نَقُولُ : إِنَّ إِنْزَالَهُ إِلَى السَّمَاءِ كَإِنْزَالِهِ إِلَى الْأَرْضِ ، لِأَنَّهُ لَمْ يَكُنْ لِيَشْرَعَ فِي أَمْرٍ ثُمَّ لَا يُتِمُّهُ ، وَهُوَ كَغَائِبٍ جَاءَ إِلَى نَوَاحِي الْبَلَدِ . يُقَالُ : جَاءَ فُلَانٌ ، أَوْ يُقَالُ : الْغَرَضُ مِنْ تَقْرِيبِهِ وَإِنْزَالِهِ إِلَى سَمَاءِ الدُّنْيَا أَنْ يُشَوِّقَهُمْ إِلَى نُزُولِهِ كَمَنْ يَسْمَعُ الْخَبَرَ بِمَجِيءِ مَنْشُورٍ لِوَالِدِهِ أَوْ أُمِّهِ ، فَإِنَّهُ يَزْدَادُ شَوْقُهُ إِلَى مُطَالَعَتِهِ كَمَا قَالَ :
وَأَبْرَحُ مَا يَكُونُ الشَّوْقُ يَوْمًا إِذَا دَنَتِ الدِّيَارُ مِنَ الدِّيَارِ
وَهَذَا لِأَنَّ السَّمَاءَ كَالْمُشْتَرِكِ بَيْنَنَا وَبَيْنَ الْمَلَائِكَةِ ، فَهِيَ لَهُمْ مَسْكَنٌ وَلَنَا سَقْفٌ وَزِينَةٌ ، كَمَا قَالَ : (
nindex.php?page=tafseer&surano=21&ayano=32وَجَعَلْنَا السَّمَاءَ سَقْفًا ) [الْأَنْبِيَاءِ : 32] فَإِنْزَالُهُ الْقُرْآنَ هُنَاكَ كَإِنْزَالِهِ هَهُنَا .
وَالْوَجْهُ الثَّالِثُ فِي الْجَوَابِ : أَنَّ التَّقْدِيرَ أَنْزَلْنَا هَذَا الذِّكْرَ : (
nindex.php?page=tafseer&surano=97&ayano=1فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ ) أَيْ فِي
nindex.php?page=treesubj&link=26777فَضِيلَةِ لَيْلَةِ الْقَدْرِ وَبَيَانِ شَرَفِهَا .
الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ :
nindex.php?page=treesubj&link=28775الْقَدْرُ مَصْدَرُ قَدَرْتُ أَقْدِرُ قَدْرًا ، وَالْمُرَادُ بِهِ مَا يُمْضِيهِ اللَّهُ مِنَ الْأُمُورِ ، قَالَ : (
nindex.php?page=tafseer&surano=54&ayano=49إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ ) [الْقَمَرِ : 49] وَالْقَدَرُ وَالْقَدْرُ وَاحِدٌ إِلَّا أَنَّهُ بِالتَّسْكِينِ مَصْدَرٌ وَبِالْفَتْحِ اسْمٌ ، قَالَ
الْوَاحِدِيُّ : الْقَدْرُ فِي اللُّغَةِ بِمَعْنَى التَّقْدِيرِ ، وَهُوَ جَعْلُ الشَّيْءِ عَلَى مُسَاوَاةِ غَيْرِهِ مِنْ غَيْرِ زِيَادَةٍ وَلَا نُقْصَانٍ ، وَاخْتَلَفُوا فِي أَنَّهُ لِمَ سُمِّيَتْ هَذِهِ اللَّيْلَةُ لَيْلَةَ الْقَدْرِ ، عَلَى وُجُوهٍ :
أَحَدُهَا : أَنَّهَا لَيْلَةُ تَقْدِيرِ الْأُمُورِ وَالْأَحْكَامِ ، قَالَ
عَطَاءٌ ، عَنِ
nindex.php?page=showalam&ids=11ابْنِ عَبَّاسٍ : إِنَّ اللَّهَ قَدَّرَ مَا يَكُونُ فِي كُلِّ تِلْكَ السَّنَةِ مِنْ مَطَرٍ وَرِزْقٍ وَإِحْيَاءٍ وَإِمَاتَةٍ إِلَى مِثْلِ هَذِهِ اللَّيْلَةِ مِنَ السَّنَةِ الْآتِيَةِ ، وَنَظِيرُهُ قَوْلُهُ تَعَالَى : (
nindex.php?page=tafseer&surano=44&ayano=4فِيهَا يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ ) [الدُّخَانِ : 4] وَاعْلَمْ أَنَّ تَقْدِيرَ اللَّهِ لَا يَحْدُثُ فِي تِلْكَ اللَّيْلَةِ ، فَإِنَّهُ تَعَالَى قَدَّرَ الْمَقَادِيرَ قَبْلَ أَنْ يَخْلُقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي الْأَزَلِ ، بَلِ الْمُرَادُ إِظْهَارُ تِلْكَ اللَّيْلَةِ الْمَقَادِيرَ لِلْمَلَائِكَةِ فِي تِلْكَ اللَّيْلَةِ بِأَنْ يَكْتُبَهَا فِي اللَّوْحِ الْمَحْفُوظِ ، وَهَذَا الْقَوْلُ اخْتِيَارُ عَامَّةِ الْعُلَمَاءِ .
الثَّانِي : نُقِلَ عَنِ
nindex.php?page=showalam&ids=12300الزُّهْرِيِّ أَنَّهُ قَالَ : لَيْلَةُ الْقَدْرِ لَيْلَةُ الْعَظَمَةِ وَالشَّرَفِ مِنْ قَوْلِهِمْ لِفُلَانٍ قَدْرٌ عِنْدَ فُلَانٍ ، أَيْ مَنْزِلَةٌ وَشَرَفٌ ، وَيَدُلُّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ : (
nindex.php?page=tafseer&surano=97&ayano=3لَيْلَةُ الْقَدْرِ خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ شَهْرٍ ) ثُمَّ هَذَا يَحْتَمِلُ وَجْهَيْنِ :
أَحَدُهُمَا : أَنْ يَرْجِعَ ذَلِكَ إِلَى الْفَاعِلِ أَيْ مَنْ أَتَى فِيهَا بِالطَّاعَاتِ صَارَ ذَا قَدْرٍ وَشَرَفٍ .
وَثَانِيهِمَا : إِلَى الْفِعْلِ أَيِ الطَّاعَاتُ لَهَا فِي تِلْكَ اللَّيْلَةِ قَدْرٌ زَائِدٌ وَشَرَفٌ زَائِدٌ ، وَعَنْ
أَبِي بَكْرٍ الْوَرَّاقِ : سُمِّيَتْ لَيْلَةَ الْقَدْرِ ؛ لِأَنَّهُ نَزَلَ فِيهَا كِتَابٌ ذُو قَدْرٍ ، عَلَى لِسَانِ مَلَكٍ ذِي قَدْرٍ ، عَلَى أُمَّةٍ لَهَا قَدْرٌ ، وَلَعَلَّ اللَّهَ تَعَالَى إِنَّمَا ذَكَرَ لَفْظَةَ الْقَدْرِ فِي هَذِهِ السُّورَةِ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ لِهَذَا السَّبَبِ .
وَالْقَوْلُ الثَّالِثُ : لَيْلَةُ الْقَدْرِ ؛ أَيِ الضِّيقِ فَإِنَّ الْأَرْضَ تَضِيقُ عَنِ الْمَلَائِكَةِ .
الْمَسْأَلَةُ الْخَامِسَةُ : أَنَّهُ تَعَالَى أَخْفَى هَذِهِ اللَّيْلَةَ لِوُجُوهٍ :
أَحَدُهَا : أَنَّهُ تَعَالَى أَخْفَاهَا ، كَمَا أَخْفَى سَائِرَ الْأَشْيَاءِ ، فَإِنَّهُ أَخْفَى رِضَاهُ فِي الطَّاعَاتِ ، حَتَّى يَرْغَبُوا فِي الْكُلِّ ، وَأَخْفَى غَضَبَهُ فِي الْمَعَاصِي لِيَحْتَرِزُوا عَنِ الْكُلِّ ، وَأَخْفَى وَلِيَّهُ فِيمَا بَيْنَ النَّاسِ حَتَّى يُعَظِّمُوا الْكُلَّ ، وَأَخْفَى الْإِجَابَةَ فِي الدُّعَاءِ لِيُبَالِغُوا فِي كُلِّ الدَّعَوَاتِ ، وَأَخْفَى الِاسْمَ الْأَعْظَمَ لِيُعَظِّمُوا كُلَّ الْأَسْمَاءِ ، وَأَخْفَى الصَّلَاةَ الْوُسْطَى لِيُحَافِظُوا عَلَى الْكُلِّ ، وَأَخْفَى قَبُولَ التَّوْبَةِ لِيُوَاظِبَ الْمُكَلَّفُ عَلَى جَمِيعِ أَقْسَامِ التَّوْبَةِ ، وَأَخْفَى وَقْتَ الْمَوْتِ لِيَخَافَ الْمُكَلَّفُ ، فَكَذَا أَخْفَى هَذِهِ
[ ص: 29 ] اللَّيْلَةَ لِيُعَظِّمُوا جَمِيعَ لَيَالِي رَمَضَانَ .
وَثَانِيهَا : كَأَنَّهُ تَعَالَى يَقُولُ : لَوْ عَيَّنْتُ لَيْلَةَ الْقَدْرِ ، وَأَنَا عَالِمٌ بِتَجَاسُرِكُمْ عَلَى الْمَعْصِيَةِ ، فَرُبَّمَا دَعَتْكَ الشَّهْوَةُ فِي تِلْكَ اللَّيْلَةِ إِلَى الْمَعْصِيَةِ ، فَوَقَعْتَ فِي الذَّنْبِ ، فَكَانَتْ مَعْصِيَتُكَ مَعَ عِلْمِكَ أَشَدَّ مِنْ مَعْصِيَتِكَ لَا مَعَ عِلْمِكَ ، فَلِهَذَا السَّبَبِ أَخْفَيْتُهَا عَلَيْكَ ، رُوِيَ
أَنَّهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ دَخَلَ الْمَسْجِدَ فَرَأَى نَائِمًا ، فَقَالَ : يَا عَلِيُّ نَبِّهْهُ لِيَتَوَضَّأَ ، فَأَيْقَظَهُ عَلِيٌّ ، ثُمَّ قَالَ عَلِيٌّ : يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنَّكَ سَبَّاقٌ إِلَى الْخَيْرَاتِ ، فَلِمَ لَمْ تُنَبِّهْهُ ؟ قَالَ : لِأَنَّ رَدَّهُ عَلَيْكَ لَيْسَ بِكُفْرٍ ، فَفَعَلْتُ ذَلِكَ لِتَخِفَّ جِنَايَتُهُ لَوْ أَبَى ، فَإِذَا كَانَ هَذَا رَحْمَةَ الرَّسُولِ ، فَقِسْ عَلَيْهِ رَحْمَةَ الرَّبِّ تَعَالَى ، فَكَأَنَّهُ تَعَالَى يَقُولُ : إِذَا عَلِمْتَ لَيْلَةَ الْقَدْرِ فَإِنْ أَطَعْتَ فِيهَا اكْتَسَبْتَ ثَوَابَ أَلْفِ شَهْرٍ ، وَإِنْ عَصَيْتَ فِيهَا اكْتَسَبْتَ عِقَابَ أَلْفِ شَهْرٍ ، وَدَفْعُ الْعِقَابِ أَوْلَى مِنْ جَلْبِ الثَّوَابِ .
وَثَالِثُهَا : أَنِّي أَخْفَيْتُ هَذِهِ اللَّيْلَةَ حَتَّى يَجْتَهِدَ الْمُكَلَّفُ فِي طَلَبِهَا ، فَيَكْتَسِبَ ثَوَابَ الِاجْتِهَادِ .
وَرَابِعُهَا : أَنَّ الْعَبْدَ إِذَا لَمْ يَتَيَقَّنْ لَيْلَةَ الْقَدْرِ ، فَإِنَّهُ يَجْتَهِدُ فِي الطَّاعَةِ فِي جَمِيعِ لَيَالِي رَمَضَانَ ، عَلَى رَجَاءِ أَنَّهُ رُبَّمَا كَانَتْ هَذِهِ اللَّيْلَةُ هِيَ لَيْلَةَ الْقَدْرِ ، فَيُبَاهِي اللَّهُ تَعَالَى بِهِمْ مَلَائِكَتَهُ ، وَيَقُولُ : كُنْتُمْ تَقُولُونَ فِيهِمْ يُفْسِدُونَ وَيَسْفِكُونَ الدِّمَاءَ . فَهَذَا جِدُّهُ وَاجْتِهَادُهُ فِي اللَّيْلَةِ الْمَظْنُونَةِ ، فَكَيْفَ لَوْ جَعَلْتُهَا مَعْلُومَةً لَهُ فَحِينَئِذٍ يَظْهَرُ سِرُّ قَوْلِهِ : (
nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=30إِنِّي أَعْلَمُ مَا لَا تَعْلَمُونَ ) [ الْبَقَرَةِ : 30] .
الْمَسْأَلَةُ السَّادِسَةُ : اخْتَلَفُوا فِي أَنَّ هَذِهِ اللَّيْلَةَ هَلْ تَسْتَتْبِعُ الْيَوْمَ ؟ قَالَ
nindex.php?page=showalam&ids=14577الشَّعْبِيُّ : نَعَمْ يَوْمُهَا كَلَيْلَتِهَا ، وَلَعَلَّ الْوَجْهَ فِيهِ أَنَّ ذِكْرَ اللَّيَالِي يَسْتَتْبِعُ الْأَيَّامَ ، وَمِنْهُ إِذَا نَذَرَ اعْتِكَافَ لَيْلَتَيْنِ أَلْزَمْنَاهُ بِيَوْمَيْهِمَا قَالَ تَعَالَى : (
nindex.php?page=tafseer&surano=25&ayano=62وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ خِلْفَةً ) [الْفُرْقَانِ : 62] أَيِ الْيَوْمُ يَخْلُفُ لَيْلَتَهُ وَبِالضِّدِّ .