الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                                                                            ( وما أدراك ما الحطمة نار الله الموقدة التي تطلع على الأفئدة إنها عليهم مؤصدة ) ( وما أدراك ما الحطمة نار الله الموقدة التي تطلع على الأفئدة إنها عليهم مؤصدة ) واعلم أن الفائدة في ذكر جهنم بهذا الاسم ههنا وجوه :

                                                                                                                                                                                                                                            أحدها : الاتحاد في الصورة كأنه تعالى يقول : إن كنت همزة لمزة فوراءك الحطمة .

                                                                                                                                                                                                                                            والثاني : أن الهامز بكسر عين ليضع قدره فيلقيه في الحضيض فيقول تعالى : وراءك الحطمة ، وفي الحطم كسر ، فالحطمة تكسرك وتلقيك في حضيض جهنم لكن الهمزة ليس إلا الكسر بالحاجب ، أما الحطمة فإنها تكسر كسرا لا تبقي ولا تذر .

                                                                                                                                                                                                                                            الثالث : أن الهماز اللماز يأكل لحم الناس والحطمة أيضا اسم للنار من حيث إنها تأكل الجلد واللحم ، ويمكن أن يقال : ذكر وصفين الهمز واللمز ، ثم قابلهما باسم واحد وقال : خذ واحدا مني بالاثنين منك فإنه يفي ويكفي ، فكأن السائل يقول : كيف يفي الواحد بالاثنين ؟ فقال : إنما تقول هذا لأنك لا تعرف هذا الواحد فلذلك قال : ( وما أدراك ما الحطمة ) .

                                                                                                                                                                                                                                            أما قوله تعالى : ( نار الله ) فالإضافة للتفخيم أي هي نار لا كسائر النيران : ( الموقدة ) التي لا تخمد أبدا أو : ( الموقدة ) بأمره أو بقدرته ومنه قول علي عليه السلام : عجبا ممن يعصي الله على وجه الأرض والنار تسعر من تحته ، وفي الحديث : أوقد عليها ألف سنة حتى احمرت ، ثم ألف سنة حتى ابيضت ، ثم ألف سنة حتى اسودت فهي الآن سوداء مظلمة .

                                                                                                                                                                                                                                            أما قوله تعالى : ( التي تطلع على الأفئدة ) . فاعلم أنه يقال : طلع الجبل واطلع عليه إذا علاه ، ثم في تفسير الآية وجهان :

                                                                                                                                                                                                                                            الأول : أن النار تدخل في أجوافهم حتى تصل إلى صدورهم وتطلع على أفئدتهم ، ولا شيء في بدن الإنسان ألطف من الفؤاد ، ولا أشد تألما منه بأدنى أذى يماسه ، فكيف إذا اطلعت نار جهنم واستولت عليه . ثم إن الفؤاد مع استيلاء النار عليه لا يحترق إذ لو احترق لمات ، وهذا هو المراد من قوله : ( لا يموت فيها ولا يحيا ) [ الأعلى : 13 ] ومعنى الاطلاع هو أن النار تنزل من اللحم إلى الفؤاد .

                                                                                                                                                                                                                                            والثاني : أن سبب تخصيص الأفئدة بذلك هو أنها مواطن الكفر والعقائد الخبيثة والنيات الفاسدة ، واعلم أنه روي عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أن النار تأكل أهلها حتى إذا اطلعت على أفئدتهم انتهت ، ثم إن الله تعالى يعيد لحمهم وعظمهم مرة أخرى .

                                                                                                                                                                                                                                            أما قوله تعالى : ( إنها عليهم مؤصدة ) فقال الحسن : " مؤصدة " أي مطبقة من أصدت الباب وأوصدته لغتان ، ولم يقل : مطبقة لأن المؤصدة هي الأبواب المغلقة ، والإطباق لا يفيد معنى الباب .

                                                                                                                                                                                                                                            واعلم أن الآية تفيد المبالغة في العذاب من وجوه :

                                                                                                                                                                                                                                            أحدها : أن قوله : ( لينبذن ) يقتضي أنه موضع له قعر عميق جدا كالبئر .

                                                                                                                                                                                                                                            وثانيها : أنه لو شاء يجعل ذلك الموضع بحيث لا يكون له باب لكنه بالباب يذكرهم الخروج ، فيزيد في حسرتهم .

                                                                                                                                                                                                                                            وثالثها : أنه قال : ( عليهم مؤصدة ) ولم يقل : مؤصدة عليهم لأن قوله : ( عليهم مؤصدة ) يفيد أن المقصود أولا كونهم بهذه الحالة ، وقوله مؤصدة عليهم لا يفيد هذا المعنى بالقصد الأول .

                                                                                                                                                                                                                                            التالي السابق


                                                                                                                                                                                                                                            الخدمات العلمية