الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                                                                            أما قوله تعالى : ( قل ياأيها الكافرون ) ففيه مسائل :

                                                                                                                                                                                                                                            المسألة الأولى : ( يا أيها ) ، قد تقدم القول فيها في مواضع ، والذي نزيده ههنا أنه روي عن علي عليه السلام أنه قال : " يا " نداء النفس و " أي " نداء القلب ، " وها " نداء الروح ، وقيل : " يا " نداء الغائب " وأي " للحاضر ، " وها " للتنبيه ، كأنه يقول : أدعوك ثلاثا ولا تجيبني مرة ما هذا إلا لجهلك الخفي ، ومنهم من قال : إنه تعالى جمع بين " يا " الذي هو للبعيد ، " وأي " الذي هو للقريب ، كأنه تعالى يقول : معاملتك معي وفرارك عني يوجب [ ص: 134 ] البعد البعيد ، لكن إحساني إليك ، ووصول نعمتي إليك توجب القرب القريب : ( ونحن أقرب إليه من حبل الوريد ) [ ق : 16 ] وإنما قدم ( يا ) الذي يوجب البعد على ( أي ) الذي يوجب القرب ، كأنه يقول : التقصير منك والتوفيق مني ، ثم ذكرها بعد ذلك ؛ لأن ( يا ) يوجب البعد الذي هو كالموت و ( أي ) يوجب القرب الذي هو كالحياة ، فلما حصلا حصلت حالة متوسطة بين الحياة والموت ، وتلك الحالة هي النوم ، والنائم لا بد وأن ينبه و ( ها ) كلمة تنبيه ، فلهذا السبب ختمت حروف النداء بهذا الحرف .

                                                                                                                                                                                                                                            المسألة الثانية : روي في سبب نزول هذه السورة أن الوليد بن المغيرة والعاص بن وائل والأسود بن عبد المطلب ، وأمية بن خلف ، قالوا لرسول الله : تعال حتى نعبد إلهك مدة ، وتعبد آلهتنا مدة ، فيحصل مصلحة بيننا وبينك ، وتزول العداوة من بيننا ، فإن كان أمرك رشيدا أخذنا منه حظا ، وإن كان أمرنا رشيدا أخذت منه حظا ، فنزلت هذه السورة ، ونزل أيضا قوله تعالى : ( قل أفغير الله تأمروني أعبد أيها الجاهلون ) [ الزمر : 64 ] فتارة وصفهم بالجهل وتارة بالكفر ، واعلم أن الجهل كالشجرة ، والكفر كالثمرة ، فلما نزلت السورة وقرأها على رءوسهم شتموه وأيسوا منه ، وههنا سؤالات :

                                                                                                                                                                                                                                            السؤال الأول : لم ذكرهم في هذه السورة بالكافرين ، وفي الأخرى بالجاهلين ؟ الجواب : لأن هذه السورة بتمامها نازلة فيهم ، فلا بد وأن تكون المبالغة ههنا أشد ، وليس في الدنيا لفظ أشنع ولا أبشع من لفظ الكافر ، وذلك لأنه صفة ذم عند جميع الخلق سواء كان مطلقا أو مقيدا ، أما لفظ الجهل فإنه عند التقييد قد لا يذم ، كقوله عليه السلام في علم الأنساب : علم لا ينفع وجهل لا يضر .

                                                                                                                                                                                                                                            السؤال الثاني : لما قال تعالى في سورة : ( لم تحرم ) : يا أيها الذين كفروا ولم يذكر " قل " ، وههنا ذكر " قل " وذكره باسم الفاعل .

                                                                                                                                                                                                                                            والجواب : الآية المذكورة في سورة " لم تحرم " : إنما تقال لهم يوم القيامة وثمة لا يكون الرسول رسولا إليهم فأزال الواسطة ، وفي ذلك الوقت يكونون مطيعين لا كافرين ، فلذلك ذكره بلفظ الماضي ، وأما ههنا فهم كانوا موصوفين بالكفر ، وكان الرسول رسولا إليهم ، فلا جرم قال : ( قل ياأيها الكافرون ) .

                                                                                                                                                                                                                                            السؤال الثالث : قوله ههنا : ( قل ياأيها الكافرون ) خطاب مع الكل أو مع البعض ؟

                                                                                                                                                                                                                                            الجواب : لا يجوز أن يكون قوله : ( لا أعبد ما تعبدون ) خطابا مع الكل ؛ لأن في الكفار من يعبد الله كاليهود والنصارى فلا يجوز أن يقول لهم : ( لا أعبد ما تعبدون ) ولا يجوز أيضا أن يكون قوله : ( ولا أنتم عابدون ما أعبد ) خطابا مع الكل ؛ لأن في الكفار من آمن وصار بحيث يعبد الله فإذن وجب أن يقال : إن قوله : ( ياأيها الكافرون ) خطاب مشافهة مع أقوام مخصوصين وهم الذين قالوا : نعبد إلهك سنة وتعبد آلهتنا سنة ، والحاصل أنا لو حملنا الخطاب على العموم دخل التخصيص ، ولو حملنا على أنه خطاب مشافهة لم يلزمنا ذلك ، فكان حمل الآية على هذا المحمل أولى .

                                                                                                                                                                                                                                            التالي السابق


                                                                                                                                                                                                                                            الخدمات العلمية