الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                                                                            المسألة الرابعة : ذكروا في : ( الفلق ) وجوها :

                                                                                                                                                                                                                                            أحدها : أنه الصبح وهو قول الأكثرين قال الزجاج : لأن الليل يفلق عنه الصبح ويفرق فعل بمعنى مفعول يقال : هو أبين من فلق الصبح ومن فرق الصبح وتخصيصه في التعوذ لوجوه :

                                                                                                                                                                                                                                            الأول : أن القادر على إزالة هذه الظلمات الشديدة عن كل هذا العالم يقدر أيضا أن يدفع عن العائذ كل ما يخافه ويخشاه .

                                                                                                                                                                                                                                            الثاني : أن طلوع الصبح كالمثال لمجيء الفرج ، فكما أن الإنسان في الليل يكون منتظرا لطلوع الصباح كذلك الخائف يكون مترقبا لطلوع صباح النجاح .

                                                                                                                                                                                                                                            الثالث : أن الصبح كالبشرى فإن الإنسان في الظلام يكون كلحم على وضم ، فإذا ظهر الصبح فكأنه صاح بالأمان وبشر بالفرج ، فلهذا السبب يجد كل مريض ومهموم خفة في وقت السحر ، فالحق سبحانه يقول : قل أعوذ برب يعطي إنعام فلق الصبح قبل السؤال ، فكيف بعد السؤال .

                                                                                                                                                                                                                                            الرابع : قال بعضهم : إن يوسف عليه السلام لما ألقي في الجب وجعت ركبته وجعا شديدا فبات ليلته ساهرا فلما قرب طلوع الصبح نزل جبريل عليه السلام بإذن الله يسليه ويأمره بأن يدعو ربه فقال : يا جبريل ادع أنت وأؤمن أنا فدعا جبريل وأمن يوسف فكشف الله ما كان به من الضر ، فلما طاب وقت يوسف قال جبريل : وأنا أدعو أيضا وتؤمن أنت ، فسأل يوسف ربه أن يكشف الضر عن جميع أهل البلاء في ذلك الوقت ، فلا جرم ما من مريض إلا ويجد نوع خفة في آخر الليل ، وروي أن دعاءه في الجب : يا عدتي في شدتي ويا مؤنسي في وحشتي ويا راحم غربتي ويا كاشف كربتي ويا مجيب دعوتي ، ويا إلهي وإله آبائي إبراهيم وإسحاق ويعقوب ارحم صغر سني وضعف ركني وقلة حيلتي يا حي يا قيوم يا ذا الجلال والإكرام .

                                                                                                                                                                                                                                            الخامس : لعل تخصيص الصبح بالذكر في هذا الموضع لأنه وقت دعاء المضطرين وإجابة الملهوفين فكأنه يقول : قل أعوذ برب الوقت الذي يفرج فيه عن كل مهموم .

                                                                                                                                                                                                                                            السادس : يحتمل أنه خص الصبح بالذكر لأنه أنموذج من يوم القيامة ؛ لأن الخلق كالأموات والدور كالقبور ، ثم منهم من يخرج من داره مفلسا عريانا لا يلتفت إليه ، ومنهم من كان مديونا فيجر إلى الحبس ، ومنهم من كان ملكا مطاعا فتقدم إليه المراكب ويقوم الناس بين يديه ، كذا في يوم القيامة بعضهم مفلس عن الثواب عار عن لباس التقوى يجر إلى الملك الجبار ، ومن عبد كان مطيعا لربه في الدنيا فصار ملكا مطاعا في العقبى [ ص: 176 ] يقدم إليه البراق .

                                                                                                                                                                                                                                            السابع : يحتمل أنه تعالى خص الصبح بالذكر لأنه وقت الصلاة الجامعة لأحوال القيامة ، فالقيام في الصلاة يذكر القيام يوم القيامة كما قال : ( يوم يقوم الناس لرب العالمين ) [ المطففين : 6 ] والقراءة في الصلاة تذكر قراءة الكتب ، والركوع في الصلاة يذكر من القيامة قوله : ( ناكسو رءوسهم ) [ السجدة : 12 ] والسجود في الصلاة يذكر قوله : ( ويدعون إلى السجود فلا يستطيعون ) [ القلم : 42 ] والقعود يذكر قوله : ( وترى كل أمة جاثية ) [ الجاثية : 28 ] فكان العبد يقول : إلهي كما خلصتني من ظلمة الليل فخلصني من هذه الأهوال ، وإنما خص وقت صلاة الصبح ؛ لأن لها مزيد شرف على ما قال : ( إن قرآن الفجر كان مشهودا ) [ الإسراء : 78 ] أي تحضرها ملائكة الليل والنهار .

                                                                                                                                                                                                                                            الثامن : أنه وقت الاستغفار والتضرع على ما قال : ( والمستغفرين بالأسحار ) [ آل عمران : 17 ] .

                                                                                                                                                                                                                                            القول الثاني في الفلق : أنه عبارة عن كل ما يفلقه الله كالأرض عن النبات : ( إن الله فالق الحب والنوى ) [ الأنعام : 95 ] والجبال عن العيون ، وإن من الأحجار لما يتفجر منه الأنهار ، والسحاب عن الأمطار والأرحام عن الأولاد ، والبيض عن الفرخ ، والقلوب عن المعارف ، وإذا تأملت الخلق تبين لك أن أكثره عن انقلاب ، بل العدم كأنه ظلمة والنور كأنه الوجود ، وثبت أنه كان الله في الأزل ولم يكن معه شيء البتة فكأنه سبحانه هو الذي فلق بحار ظلمات العدم بأنوار الإيجاد والتكوين والإبداع ، فهذا هو المراد من الفلق ، وهذا التأويل أقرب من وجوه :

                                                                                                                                                                                                                                            أحدها : هو أن الموجود إما الخالق وإما الخلق ، فإذا فسرنا الفلق بهذا التفسير صار كأنه قال : قل أعوذ برب جميع الممكنات ، ومكون كل المحدثات والمبدعات ، فيكون التعظيم فيه أعظم ، ويكون الصبح أحد الأمور الداخلة في هذا المعنى .

                                                                                                                                                                                                                                            وثانيها : أن كل موجود إما واجب لذاته أو ممكن لذاته ، والممكن لذاته يكون موجودا بغيره ، معدوما في حد ذاته ، فإذن كل ممكن فلا بد له من مؤثر يؤثر فيه حال حدوثه ويبقيه حال بقائه ، فإن الممكن حال بقائه يفتقر إلى المؤثر ، والتربية إشارة لا إلى حال الحدوث بل إلى حال البقاء ، فكأنه يقول : إنك لست محتاجا إلى حال الحدوث فقط بل في حال الحدوث وحال البقاء معا في الذات وفي جميع الصفات ، فقوله : ( برب الفلق ) يدل على احتياج كل ما عداه إليه حالتي الحدوث والبقاء في الماهية والوجود بحسب الذوات والصفات ، وسر التوحيد لا يصفو عن شوائب الشرك إلا عند مشاهدة هذه المعاني .

                                                                                                                                                                                                                                            وثالثها : أن التصوير والتكوين في الظلمة أصعب منه في النور ، فكأنه يقول : أنا الذي أفعل ما أفعله قبل طلوع الأنوار وظهور الأضواء ومثل ذلك مما لا يتأتى إلا بالعلم التام والحكمة البالغة وإليه الإشارة بقوله : ( هو الذي يصوركم في الأرحام كيف يشاء لا إله إلا هو العزيز الحكيم ) [ آل عمران : 6 ] .

                                                                                                                                                                                                                                            القول الثالث : أنه واد في جهنم أو جب فيها من قولهم لما اطمأن من الأرض : الفلق والجمع فلقان ، وعن بعض الصحابة أنه قدم الشام فرأى دور أهل الذمة وما هم فيه من خصب العيش ، فقال : لا أبالي ، أليس من ورائهم الفلق ، فقيل : وما الفلق ؟ قال : بيت في جهنم إذا فتح صاح جميع أهل النار من شدة حره ، وإنما خصه بالذكر ههنا ؛ لأنه هو القادر على مثل هذا التعذيب العظيم الخارج عن حد أوهام الخلق ، ثم قد ثبت أن رحمته أعظم وأكمل وأتم من عذابه ، فكأنه يقول : يا صاحب العذاب الشديد أعوذ برحمتك التي هي أعظم وأكمل وأتم وأسبق وأقدم من عذابك .

                                                                                                                                                                                                                                            التالي السابق


                                                                                                                                                                                                                                            الخدمات العلمية