الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                                                                      صفحة جزء
                                                                                                                                                                                                                                      والسورة تحتشد بمشاهد هذا الكون وظواهره، الموحية للفطرة البشرية بحقيقة الألوهية، الدالة على التدبير الحكيم، والقصد المرسوم في بناء هذا الكون وتصريفه، وفي الموافقات المبثوثة فيه لنشأة الحياة [ ص: 1749 ] والأحياء، ولحياة الكائن الإنساني وتلبية حاجاته في حياته.. وقضية الألوهية يعرضها القرآن في هذه الصورة الحية الواقعية الموحية، ولا يعرضها في أسلوب الجدل الفلسفي والمنطق الذهني، والله خالق هذا الكون وخالق هذا الإنسان يعلم - سبحانه - أن بين فطرة هذا الإنسان ومشاهد هذا الكون وأسراره لغة مفهومة! وتجاوبا أعمق من منطق الذهن البارد الجاف، وأن هذه الفطرة يكفي أن توجه إلى مشاهد هذا الكون وأسراره; وأن تستجاش لتستيقظ فيها أجهزة الاستقبال والتلقي; وأنها عندئذ تهتز وتتفتح وتتلقى وتستجيب.. ومن ثم يكثر خطاب الفطرة البشرية - في القرآن - بهذه اللغة المفهومة.. وهذه نماذج من هذا الخطاب العميق الموحي:

                                                                                                                                                                                                                                      إن ربكم الله الذي خلق السماوات والأرض في ستة أيام، ثم استوى على العرش، يدبر الأمر، ما من شفيع إلا من بعد إذنه. ذلكم الله ربكم فاعبدوه. أفلا تذكرون؟ ..

                                                                                                                                                                                                                                      هو الذي جعل الشمس ضياء والقمر نورا، وقدره منازل لتعلموا عدد السنين والحساب. ما خلق الله ذلك إلا بالحق، يفصل الآيات لقوم يعلمون. إن في اختلاف الليل والنهار وما خلق الله في السماوات والأرض لآيات لقوم يتقون ..

                                                                                                                                                                                                                                      قل: من يرزقكم من السماء والأرض أمن يملك السمع والأبصار؟ ومن يخرج الحي من الميت ويخرج الميت من الحي؟ ومن يدبر الأمر؟ فسيقولون الله، فقل: أفلا تتقون؟ فذلكم الله ربكم الحق، فماذا بعد الحق إلا الضلال؟ فأنى تصرفون؟ .

                                                                                                                                                                                                                                      هو الذي جعل لكم الليل لتسكنوا فيه والنهار مبصرا، إن في ذلك لآيات لقوم يسمعون ..

                                                                                                                                                                                                                                      قل: انظروا ماذا في السماوات والأرض، وما تغني الآيات والنذر عن قوم لا يؤمنون ..

                                                                                                                                                                                                                                      وتحتشد بمشاهد الأحداث والتجارب التي يشهدونها بأعينهم ويعيشونها بأنفسهم; ولكنهم يمرون بها غافلين عن دلالتها على التدبير والتقدير، والتصريف والتسيير.. ويعرض السياق القرآني لهم مشاهد من واقعهم هم في استقبال تلك الأحداث والتجارب، كما ترفع المرآة للغافل عن نفسه فيرى فيها كيف هو على حقيقته! وهذه نماذج من ذلك المنهج القرآني الفريد:

                                                                                                                                                                                                                                      وإذا مس الإنسان الضر دعانا لجنبه أو قاعدا أو قائما. فلما كشفنا عنه ضره مر كأن لم يدعنا إلى ضر مسه! كذلك زين للمسرفين ما كانوا يعملون! ..

                                                                                                                                                                                                                                      وإذا أذقنا الناس رحمة من بعد ضراء مستهم إذا لهم مكر في آياتنا! قل: الله أسرع مكرا، إن رسلنا يكتبون ما تمكرون. هو الذي يسيركم في البر والبحر، حتى إذا كنتم في الفلك، وجرين بهم بريح طيبة وفرحوا بها جاءتها ريح عاصف، وجاءهم الموج من كل مكان، وظنوا أنهم أحيط بهم، دعوا الله مخلصين له الدين: لئن أنجيتنا من هذه لنكونن من الشاكرين. فلما أنجاهم إذا هم يبغون في الأرض بغير الحق. يا أيها الناس إنما بغيكم على أنفسكم متاع الحياة الدنيا، ثم إلينا مرجعكم فننبئكم بما كنتم تعملون ..

                                                                                                                                                                                                                                      وتحتشد بمصارع الغابرين من المكذبين. آنا في صورة الخبر، وآنا في صورة قصص بعض الرسل. وتلتقي كلها عند عرض مشاهد التدمير على المكذبين; وتهديدهم بمثل هذا المصير الذي لقيه من قبلهم. فلا تغرنهم الحياة الدنيا، فإن هي إلا فترة قصيرة للابتلاء. أو ساعة من نهار يتعارف فيها الناس، ثم يعودون إلى دار الإقامة في العذاب أو في النعيم!

                                                                                                                                                                                                                                      [ ص: 1750 ] ولقد أهلكنا القرون من قبلكم لما ظلموا وجاءتهم رسلهم بالبينات وما كانوا ليؤمنوا. كذلك نجزي القوم المجرمين. ثم جعلناكم خلائف في الأرض من بعدهم لننظر كيف تعملون ..

                                                                                                                                                                                                                                      واتل عليهم نبأ نوح إذ قال لقومه: يا قوم إن كان كبر عليكم مقامي وتذكيري بآيات الله فعلى الله توكلت، فأجمعوا أمركم وشركاءكم، ثم لا يكن أمركم عليكم غمة، ثم اقضوا إلي ولا تنظرون. فإن توليتم فما سألتكم من أجر إن أجري إلا على الله، وأمرت أن أكون من المسلمين. فكذبوه فنجيناه ومن معه في الفلك وجعلناهم خلائف وأغرقنا الذين كذبوا بآياتنا. فانظر كيف كان عاقبة المنذرين ..

                                                                                                                                                                                                                                      ثم بعثنا من بعدهم موسى وهارون إلى فرعون وملئه بآياتنا فاستكبروا وكانوا قوما مجرمين. فلما جاءهم الحق من عندنا قالوا: إن هذا لسحر مبين. قال موسى: أتقولون للحق لما جاءكم. أسحر هذا؟ ولا يفلح الساحرون .. إلى قوله تعالى في نهاية القصة: وجاوزنا ببني إسرائيل البحر فأتبعهم فرعون وجنوده - بغيا وعدوا - حتى إذا أدركه الغرق قال: آمنت أنه لا إله إلا الذي آمنت به بنو إسرائيل وأنا من المسلمين. آلآن؟ وقد عصيت قبل وكنت من المفسدين؟! فاليوم ننجيك ببدنك لتكون لمن خلفك آية، وإن كثيرا من الناس عن آياتنا لغافلون ..

                                                                                                                                                                                                                                      فهل ينتظرون إلا مثل أيام الذين خلوا من قبلهم؟ قل: فانتظروا إني معكم من المنتظرين. ثم ننجي رسلنا والذين آمنوا، كذلك حقا علينا ننج المؤمنين ..

                                                                                                                                                                                                                                      وتحتشد بمشاهد القيامة تعرض عاقبة المكذبين وعاقبة المؤمنين عرضا حيا متحركا مؤثرا عميق الإيقاع في القلوب. فتعرض مع مشاهد المصارع في الحياة الدنيا والتدمير على المجرمين ونجاة المؤمنين صفحتي الحياة في الدارين، وبدء المطاف ونهايته حيث لا مهرب ولا فوت:

                                                                                                                                                                                                                                      للذين أحسنوا الحسنى وزيادة، ولا يرهق وجوههم قتر ولا ذلة، أولئك أصحاب الجنة هم فيها خالدون والذين كسبوا السيئات جزاء سيئة بمثلها، وترهقهم ذلة، ما لهم من الله من عاصم، كأنما أغشيت وجوههم قطعا من الليل مظلما، أولئك أصحاب النار هم فيها خالدون ..

                                                                                                                                                                                                                                      ويوم نحشرهم جميعا، ثم نقول للذين أشركوا: مكانكم أنتم وشركاؤكم! فزيلنا بينهم، وقال شركاؤهم: ما كنتم إيانا تعبدون. فكفى بالله شهيدا بيننا وبينكم إن كنا عن عبادتكم لغافلين. هنالك تبلو كل نفس ما أسلفت، وردوا إلى الله مولاهم الحق، وضل عنهم ما كانوا يفترون ..

                                                                                                                                                                                                                                      ولو أن لكل نفس ظلمت ما في الأرض لافتدت به! وأسروا الندامة لما رأوا العذاب، وقضي بينهم بالقسط وهم لا يظلمون ..

                                                                                                                                                                                                                                      ومن المؤثرات التي تحتشد بها السورة تحدي المشركين المكذبين بالوحي، أن يأتوا بآية من مثل هذا القرآن.. ثم توجيه الرسول - صلى الله عليه وسلم - بعد دعوتهم وتحديهم، إلى تركهم ومصيرهم - وهو مصير المكذبين الظالمين من قبلهم - والمضي في طريقه المستقيم لا يحفلهم ولا يأبه لشأنهم.. والتحدي ثم المفاصلة والاستعلاء على هذا النحو مما يوقع في قلوبهم أن هذا النبي واثق من الحق الذي معه، واثق من ربه الذي يتولاه. وهذا بدوره يهز القلوب ويزلزل العناد:

                                                                                                                                                                                                                                      [ ص: 1751 ] وما كان هذا القرآن أن يفترى من دون الله ولكن تصديق الذي بين يديه، وتفصيل الكتاب لا ريب فيه من رب العالمين. أم يقولون افتراه؟ قل: فأتوا بسورة مثله وادعوا من استطعتم من دون الله إن كنتم صادقين. بل كذبوا بما لم يحيطوا بعلمه ولما يأتهم تأويله. كذلك كذب الذين من قبلهم. فانظر كيف كان عاقبة الظالمين ..

                                                                                                                                                                                                                                      قل: يا أيها الناس إن كنتم في شك من ديني فلا أعبد الذين تعبدون من دون الله. ولكن أعبد الله الذي يتوفاكم، وأمرت أن أكون من المؤمنين. وأن أقم وجهك للدين حنيفا، ولا تكونن من المشركين. ولا تدع من دون الله ما لا ينفعك ولا يضرك فإن فعلت فإنك إذا من الظالمين. وإن يمسسك الله بضر فلا كاشف له إلا هو، وإن يردك بخير فلا راد لفضله، يصيب به من يشاء من عباده، وهو الغفور الرحيم.. قل يا أيها الناس قد جاءكم الحق من ربكم. فمن اهتدى فإنما يهتدي لنفسه، ومن ضل فإنما يضل عليها، وما أنا عليكم بوكيل. واتبع ما يوحى إليك واصبر حتى يحكم الله، وهو خير الحاكمين ..

                                                                                                                                                                                                                                      وبهذه المفاصلة تختم السورة ويختم هذا الحشد من المؤثرات التي سقنا نماذج منها لا تستقصي ما في السورة من هذا المنهج القرآني الفريد في مخاطبة القلوب والعقول.

                                                                                                                                                                                                                                      التالي السابق


                                                                                                                                                                                                                                      الخدمات العلمية