القول في تأويل قوله تعالى:
nindex.php?page=treesubj&link=19059_29778_30532_31048_31931_31951_32423_32429_32431_33678_28975nindex.php?page=tafseer&surano=4&ayano=47يا أيها الذين أوتوا الكتاب آمنوا بما نـزلنا مصدقا لما معكم من قبل أن نطمس وجوها فنردها على أدبارها أو نلعنهم كما لعنا أصحاب السبت وكان أمر الله مفعولا [47]
nindex.php?page=tafseer&surano=4&ayano=47يا أيها الذين أوتوا الكتاب آمنوا بما نـزلنا يعني القرآن:
nindex.php?page=tafseer&surano=4&ayano=47مصدقا لما معكم [ ص: 1283 ] أي: موافقا للتوراة:
nindex.php?page=tafseer&surano=4&ayano=47من قبل أن نطمس وجوها أي: نمحو تخطيط صورها من عين وحاجب وأنف وفم، وقال
العوفي عن
nindex.php?page=showalam&ids=11ابن عباس : طمسها أن تعمى.
nindex.php?page=tafseer&surano=4&ayano=47فنردها على أدبارها أي: فنجعلها على هيئة أدبارها وهي الأقفاء مطموسة مثلها جزاء على الكفر، فالفاء للتسبيب، أو ننكسها بعد الطمس فنردها إلى موضع الأقفاء والأقفاء إلى موضعها، وقد اكتفي بذكر أشدهما، فالفاء للتعقيب.
قال
الرازي : وهذا المعنى إنما جعله الله عقوبة لما فيه من التشويه في الخلقة والمثلة والفضيحة؛ لأن عند ذلك يعظم الغم والحسرة.
nindex.php?page=tafseer&surano=4&ayano=47أو نلعنهم كما لعنا أصحاب السبت أي: أو نفعل بهم أبلغ من ذلك، وهو أن نطردهم عن الإنسانية بالمسخ الكلي جزاء على اعتدائهم بترك الإيمان، كما أخزينا به أوائلهم أصحاب السبت جزاء على اعتدائهم على السبت بالحيلة على الاصطياد، فمسخناهم قردة.
nindex.php?page=tafseer&surano=4&ayano=47وكان أمر الله أي: ما أمر به
nindex.php?page=tafseer&surano=4&ayano=47مفعولا أي: نافذا كائنا لا محالة، هذا وفي الآية تأويل آخر وهو أن المراد من طمس الوجوه مجازه، وهو صرفهم عن الحق وردهم إلى الباطل ورجوعهم عن المحجة البيضاء إلى سبيل الضلالة، يهرعون ويمشون القهقرى على أدبارهم.
قال
nindex.php?page=showalam&ids=16456ابن كثير : وهذا كما قال بعضهم في قوله تعالى:
nindex.php?page=tafseer&surano=36&ayano=8إنا جعلنا في أعناقهم أغلالا فهي إلى الأذقان فهم مقمحون nindex.php?page=tafseer&surano=36&ayano=9وجعلنا من بين أيديهم سدا ومن خلفهم سدا فأغشيناهم فهم لا يبصرون [يس: 8 - 9]: أي: هذا مثل سوء ضربه الله لهم في ضلالهم ومنعهم عن الهدى.
قال
nindex.php?page=showalam&ids=16879مجاهد :
nindex.php?page=tafseer&surano=4&ayano=47من قبل أن نطمس وجوها يقول: عن صراط الحق
nindex.php?page=tafseer&surano=4&ayano=47فنردها على أدبارها أي: في الضلال.
قال
nindex.php?page=showalam&ids=11970ابن أبي حاتم : وروي عن
nindex.php?page=showalam&ids=11ابن عباس nindex.php?page=showalam&ids=14102والحسن نحو هذا.
قال
nindex.php?page=showalam&ids=14468السدي :
nindex.php?page=tafseer&surano=4&ayano=47فنردها على أدبارها فنمنعها عن الحق، نرجعها كفارا.
قال
الرازي : المقصود على هذا بيان إلقائها في أنواع الخذلان وظلمات الضلالات، ونظيره قوله تعالى:
nindex.php?page=tafseer&surano=8&ayano=24يا أيها الذين آمنوا استجيبوا لله وللرسول إذا دعاكم لما يحييكم واعلموا أن الله يحول بين المرء وقلبه وأنه إليه تحشرون [الأنفال: 24]
[ ص: 1284 ] تحقيق القول فيه أن الإنسان في مبدأ خلقته ألف هذا العالم المحسوس، ثم إنه عند الفكر والعبودية كأنه يسافر من عالم المحسوسات إلى عالم المعقولات، فقدامه عالم المعقولات، ووراءه عالم المحسوسات، فالمخذول هو الذي يرد عن قدامه إلى خلفه، كما قال تعالى في صفتهم:
nindex.php?page=tafseer&surano=32&ayano=12ناكسو رءوسهم [السجدة: 12].
ثم قال
الرازي : قال
عبد الرحمن بن زيد : هذا الوعيد قد لحق اليهود ومضى، وتأول ذلك في إجلاء قريظة والنضير إلى
الشام ، فرد الله وجوههم على أدبارهم حين عادوا إلى
أذرعات وأريحاء من أرض
الشام ، كما جاءوا منها و(طمس الوجوه) على هذا التأويل يحتمل معنيين:
أحدهما: تقبيح صورتهم، يقال: طمس الله صورته، كقوله: قبح الله وجهه.
والثاني: إزالة آثارهم عن بلاد العرب ومحو أحوالهم عنها، وثمة تأويل آخر، وهو: أن المراد بالوجوه الوجهاء، على أن الطمس بمعنى مطلق التغيير، أي: من قبل أن نغير أحوال وجهائهم، فنسلب إقبالهم ووجاهتهم، ونكسوهم صغارا وإدبارا.
وقال بعضهم: الأظهر حمل قوله:
nindex.php?page=tafseer&surano=4&ayano=47أو نلعنهم إلخ على اللعن المتعارف، قال: ألا ترى إلى قوله تعالى:
nindex.php?page=tafseer&surano=5&ayano=60قل هل أنبئكم بشر من ذلك مثوبة عند الله من لعنه الله وغضب عليه وجعل منهم القردة والخنازير [المائدة: 60]، ففصل تعالى بين اللعن وبين مسخهم قردة وخنازير.
وأقول: لا يخفى أن جميع ما ذكر من التأويلات - غير الأول - لا يساعده مقام تشديد
[ ص: 1285 ] الوعيد، وتعميم التهديد، فإن المتبادر من اللفظ الحقيقة، ولا يصار إلى المجاز إلا إذا تعذر إرادتها، ولا تعذر هنا، كما أن المتبادر من اللعن - المشبه بلعن أصحاب السبت - هو المسخ، وهو الذي تقتضيه بلاغة التنزيل، إذ فيه الترقي إلى الوعيد الأفظع، ولا ننكر أن تكون هذه التأويلات مما يشمله لفظ الآية، وإنما البحث في دعوى إرادتها دون سابقها، فالحق أن المتبادر من النظم الكريم هو الأول؛ لأنه أدخل في الزجر.
ويؤيده ما روي أن
nindex.php?page=showalam&ids=16850كعب الأحبار أسلم حين سمع هذه الآية، رواه
nindex.php?page=showalam&ids=16935ابن جرير nindex.php?page=showalam&ids=11970وابن أبي حاتم ، ولفظه بعد إسناده: عن
nindex.php?page=showalam&ids=11811أبي إدريس عائذ الله الخولاني قال : كان
أبو مسلم الجليلي معلم كعب، وكان يلومه في إبطائه عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال فبعثه إليه ينظر أهو هو؟ قال كعب: فركبت حتى أتيت
المدينة ، فإذا تال يقرأ القرآن يقول:
nindex.php?page=tafseer&surano=4&ayano=47يا أيها الذين أوتوا الكتاب آمنوا بما نـزلنا مصدقا لما معكم من قبل أن نطمس وجوها فنردها على أدبارها فاغتسلت، وإني لأمس وجهي مخافة أن أطمس، ثم أسلمت.
وروي من غير طريق نحوه أيضا.
فإن قيل: قرينة المجاز عدم وقوع المتوعد به، فالجواب: أن عدم وقوعه لا يعين إرادة المجاز، إذ ليس في الآية دلالة على تحتم وقوعه إن لم يؤمنوا، ولو فهم منها هذا فهما أوليا لكان إيمانهم بعدها إيمان إلجاء واضطرار، وهو ينافي التكليف الشرعي، إذ لم تجر سنته تعالى بهذا، بل النظم الكريم في هذا المقام محتمل ابتداء للقطع بوقوعه المتوعد به، ولوقوعه معلقا بأمره تعالى ومشيئته بذلك، وهو المراد، كما ينبئ عنه قوله تعالى:
nindex.php?page=tafseer&surano=4&ayano=47وكان أمر الله مفعولا [الأحزاب: من الآية 37] أي: ما يأمر به، ويريد وقوعه، وإذا كان الوعيد منوطا بأمره سبحانه فله أن
[ ص: 1286 ] يمضيه على حقيقته، وله أن يصرفه لما هو أعلم به، إلا أن ورود نظم الآية بهذا الخطاب المتبادر في الوقوع غير المعلق؛ ليكون أدخل في الترهيب، ومزجرة عن مخالفة الأمر، هكذا ظهر لنا الآن، وهو أقرب مما نحاه المفسرون هنا من أن العقاب منتظر، أو أنه مشروط بعدم الإيمان، إلى غير ذلك، فقد زيفها جميعها العلامة
أبو السعود ، ثم اختار أن المراد من الوعيد الأخروي، قال: لأنه لم يتضح وقوعه، وهذا فيه بعد أيضا لنبو مثل هذا الخطاب عن إرادة الوعيد الأخروي، لا سيما والجملة الثانية التي هددوا بها - أعني لعنهم كأصحاب السبت - كان عقابها دنيويا، فالوجه ما قررناه، وما أشبه هذه الآية في وعيدها بآية يس، أعني قوله تعالى:
nindex.php?page=tafseer&surano=36&ayano=66ولو نشاء لطمسنا على أعينهم فاستبقوا الصراط فأنى يبصرون nindex.php?page=tafseer&surano=36&ayano=67ولو نشاء لمسخناهم على مكانتهم فما استطاعوا مضيا ولا يرجعون [يس: 66 - 67] بل هذه عندي تفسير لتلك، والقرآن يفسر بعضه بعضا، فبرح الخفاء، والحمد لله.
لطيفة:
الضمير في (نلعنهم) لأصحاب الوجوه، أو (للذين) على طريقة الالتفات أو (للوجوه) إن أريد بها الوجهاء.
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى:
nindex.php?page=treesubj&link=19059_29778_30532_31048_31931_31951_32423_32429_32431_33678_28975nindex.php?page=tafseer&surano=4&ayano=47يَا أَيُّهَا الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ آمِنُوا بِمَا نَـزَّلْنَا مُصَدِّقًا لِمَا مَعَكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَطْمِسَ وُجُوهًا فَنَرُدَّهَا عَلَى أَدْبَارِهَا أَوْ نَلْعَنَهُمْ كَمَا لَعَنَّا أَصْحَابَ السَّبْتِ وَكَانَ أَمْرُ اللَّهِ مَفْعُولا [47]
nindex.php?page=tafseer&surano=4&ayano=47يَا أَيُّهَا الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ آمِنُوا بِمَا نَـزَّلْنَا يَعْنِي الْقُرْآنَ:
nindex.php?page=tafseer&surano=4&ayano=47مُصَدِّقًا لِمَا مَعَكُمْ [ ص: 1283 ] أَيْ: مُوافِقًا لِلتَّوْرَاةِ:
nindex.php?page=tafseer&surano=4&ayano=47مِنْ قَبْلِ أَنْ نَطْمِسَ وُجُوهًا أَيْ: نَمْحُوَ تَخْطِيطَ صُوَرِهَا مِنْ عَيْنٍ وَحَاجِبٍ وَأَنْفٍ وَفَمٍ، وَقَالَ
الْعَوْفِيُّ عَنِ
nindex.php?page=showalam&ids=11ابْنِ عَبَّاسٍ : طَمْسُهَا أَنْ تَعْمَى.
nindex.php?page=tafseer&surano=4&ayano=47فَنَرُدَّهَا عَلَى أَدْبَارِهَا أَيْ: فَنَجْعَلُهَا عَلَى هَيْئَةِ أَدْبَارِهَا وَهِيَ الْأَقْفَاءُ مَطْمُوسَةً مِثْلَهَا جَزَاءً عَلَى الْكُفْرِ، فَالْفَاءُ لِلتَّسْبِيبِ، أَوْ نُنَكِّسُهَا بَعْدَ الطَّمْسِ فَنَرُدُّهَا إِلَى مَوْضِعِ الْأَقْفَاءِ وَالْأَقْفَاءَ إِلَى مَوْضِعِهَا، وَقَدِ اكْتُفِيَ بِذِكْرِ أَشَدِّهِمَا، فَالْفَاءُ لِلتَّعْقِيبِ.
قَالَ
الرَّازِيُّ : وَهَذَا الْمَعْنَى إِنَّمَا جَعَلَهُ اللَّهُ عُقُوبَةً لِمَا فِيهِ مِنَ التَّشْوِيهِ فِي الْخِلْقَةِ وَالْمُثْلَةِ وَالْفَضِيحَةِ؛ لِأَنَّ عِنْدَ ذَلِكَ يَعْظُمُ الْغَمُّ وَالْحَسْرَةُ.
nindex.php?page=tafseer&surano=4&ayano=47أَوْ نَلْعَنَهُمْ كَمَا لَعَنَّا أَصْحَابَ السَّبْتِ أَيْ: أَوْ نَفْعَلَ بِهِمْ أَبْلَغَ مِنْ ذَلِكَ، وَهُوَ أَنْ نَطْرُدَهُمْ عَنِ الْإِنْسَانِيَّةِ بِالْمَسْخِ الْكُلِّيِّ جَزَاءً عَلَى اعْتِدَائِهِمْ بِتَرْكِ الْإِيمَانِ، كَمَا أَخْزَيْنَا بِهِ أَوَائِلَهُمْ أَصْحَابَ السَّبْتِ جَزَاءً عَلَى اعْتِدَائِهِمْ عَلَى السَّبْتِ بِالْحِيلَةِ عَلَى الِاصْطِيَادِ، فَمَسَخْنَاهُمْ قِرْدَةً.
nindex.php?page=tafseer&surano=4&ayano=47وَكَانَ أَمْرُ اللَّهِ أَيْ: مَا أَمَرَ بِهِ
nindex.php?page=tafseer&surano=4&ayano=47مَفْعُولا أَيْ: نَافِذًا كَائِنًا لَا مَحَالَةَ، هَذَا وَفِي الْآيَةِ تَأْوِيلٌ آخَرُ وَهُوَ أَنَّ الْمُرَادَ مِنْ طَمْسِ الْوُجُوهِ مَجَازُهُ، وَهُوَ صَرْفُهُمْ عَنِ الْحَقِّ وَرَدُّهُمْ إِلَى الْبَاطِلِ وَرُجُوعُهُمْ عَنِ الْمَحَجَّةِ الْبَيْضَاءِ إِلَى سَبِيلِ الضَّلَالَةِ، يُهْرَعُونَ وَيَمْشُونَ الْقَهْقَرَى عَلَى أَدْبَارِهِمْ.
قَالَ
nindex.php?page=showalam&ids=16456ابْنُ كَثِيرٍ : وَهَذَا كَمَا قَالَ بَعْضُهُمْ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى:
nindex.php?page=tafseer&surano=36&ayano=8إِنَّا جَعَلْنَا فِي أَعْنَاقِهِمْ أَغْلالا فَهِيَ إِلَى الأَذْقَانِ فَهُمْ مُقْمَحُونَ nindex.php?page=tafseer&surano=36&ayano=9وَجَعَلْنَا مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ سَدًّا وَمِنْ خَلْفِهِمْ سَدًّا فَأَغْشَيْنَاهُمْ فَهُمْ لا يُبْصِرُونَ [يس: 8 - 9]: أَيْ: هَذَا مَثَلُ سُوءٍ ضَرَبَهُ اللَّهُ لَهُمْ فِي ضَلَالِهِمْ وَمَنْعِهِمْ عَنِ الْهُدَى.
قَالَ
nindex.php?page=showalam&ids=16879مُجَاهِدٌ :
nindex.php?page=tafseer&surano=4&ayano=47مِنْ قَبْلِ أَنْ نَطْمِسَ وُجُوهًا يَقُولُ: عَنْ صِرَاطِ الْحَقِّ
nindex.php?page=tafseer&surano=4&ayano=47فَنَرُدَّهَا عَلَى أَدْبَارِهَا أَيْ: فِي الضَّلَالِ.
قَالَ
nindex.php?page=showalam&ids=11970ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ : وَرُوِيَ عَنِ
nindex.php?page=showalam&ids=11ابْنِ عَبَّاسٍ nindex.php?page=showalam&ids=14102وَالْحَسَنِ نَحْوُ هَذَا.
قَالَ
nindex.php?page=showalam&ids=14468السُّدِّيُّ :
nindex.php?page=tafseer&surano=4&ayano=47فَنَرُدَّهَا عَلَى أَدْبَارِهَا فَنَمْنَعُهَا عَنِ الْحَقِّ، نُرْجِعُهَا كُفَّارًا.
قَالَ
الرَّازِيُّ : الْمَقْصُودُ عَلَى هَذَا بَيَانُ إِلْقَائِهَا فِي أَنْوَاعِ الْخِذْلَانِ وَظُلُمَاتِ الضَّلَالَاتِ، وَنَظِيرُهُ قَوْلُهُ تَعَالَى:
nindex.php?page=tafseer&surano=8&ayano=24يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَقَلْبِهِ وَأَنَّهُ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ [الْأَنْفَالِ: 24]
[ ص: 1284 ] تَحْقِيقُ الْقَوْلِ فِيهِ أَنَّ الْإِنْسَانَ فِي مَبْدَأِ خِلْقَتِهِ أَلِفَ هَذَا الْعَالَمَ الْمَحْسُوسَ، ثُمَّ إِنَّهُ عِنْدَ الْفِكْرِ وَالْعُبُودِيَّةِ كَأَنَّهُ يُسَافِرُ مِنْ عَالَمِ الْمَحْسُوسَاتِ إِلَى عَالَمِ الْمَعْقُولَاتِ، فَقُدَّامَهُ عَالَمُ الْمَعْقُولَاتِ، وَوَرَاءَهُ عَالَمُ الْمَحْسُوسَاتِ، فَالْمَخْذُولُ هُوَ الَّذِي يَرُدُّ عَنْ قُدَّامِهِ إِلَى خَلْفِهِ، كَمَا قَالَ تَعَالَى فِي صِفَتِهِمْ:
nindex.php?page=tafseer&surano=32&ayano=12نَاكِسُو رُءُوسِهِمْ [السَّجْدَةِ: 12].
ثُمَّ قَالَ
الرَّازِيُّ : قَالَ
عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ زَيْدٍ : هَذَا الْوَعِيدُ قَدْ لَحِقَ الْيَهُودَ وَمَضَى، وَتَأَوَّلَ ذَلِكَ فِي إِجْلَاءِ قُرَيْظَةَ وَالنَّضِيرِ إِلَى
الشَّامِ ، فَرَدَّ اللَّهُ وُجُوهَهُمْ عَلَى أَدْبَارِهِمْ حِينَ عَادُوا إِلَى
أَذْرِعَاتٍ وَأَرِيحَاءَ مِنْ أَرْضِ
الشَّامِ ، كَمَا جَاءُوا مِنْهَا وَ(طَمْسُ الْوُجُوهِ) عَلَى هَذَا التَّأْوِيلِ يَحْتَمِلُ مَعْنَيَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: تَقْبِيحُ صُورَتِهِمْ، يُقَالُ: طَمَسَ اللَّهُ صُورَتَهُ، كَقَوْلِهِ: قَبَّحَ اللَّهُ وَجْهَهُ.
وَالثَّانِي: إِزَالَةُ آثَارِهِمْ عَنْ بِلَادِ الْعَرَبِ وَمَحْوُ أَحْوَالِهِمْ عَنْهَا، وَثَمَّةَ تَأْوِيلٌ آخَرُ، وَهُوَ: أَنَّ الْمُرَادَ بِالْوُجُوهِ الْوُجَهَاءُ، عَلَى أَنَّ الطَّمْسَ بِمَعْنَى مُطْلَقِ التَّغْيِيرِ، أَيْ: مِنْ قَبْلِ أَنْ نُغَيِّرَ أَحْوَالَ وُجَهَائِهِمْ، فَنَسْلُبَ إِقْبَالَهُمْ وَوَجَاهَتَهُمْ، وَنَكْسُوَهُمْ صَغَارًا وَإِدْبَارًا.
وَقَالَ بَعْضُهُمُ: الْأَظْهَرُ حَمْلُ قَوْلِهِ:
nindex.php?page=tafseer&surano=4&ayano=47أَوْ نَلْعَنَهُمْ إِلَخْ عَلَى اللَّعْنِ الْمُتَعَارَفِ، قَالَ: أَلَا تَرَى إِلَى قَوْلِهِ تَعَالَى:
nindex.php?page=tafseer&surano=5&ayano=60قُلْ هَلْ أُنَبِّئُكُمْ بِشَرٍّ مِنْ ذَلِكَ مَثُوبَةً عِنْدَ اللَّهِ مَنْ لَعَنَهُ اللَّهُ وَغَضِبَ عَلَيْهِ وَجَعَلَ مِنْهُمُ الْقِرَدَةَ وَالْخَنَازِيرَ [الْمَائِدَةِ: 60]، فَفَصَلَ تَعَالَى بَيْنَ اللَّعْنِ وَبَيْنَ مَسْخِهِمْ قِرَدَةً وَخَنَازِيرَ.
وَأَقُولُ: لَا يَخْفَى أَنَّ جَمِيعَ مَا ذُكِرَ مِنَ التَّأْوِيلَاتِ - غَيْرَ الْأَوَّلِ - لَا يُسَاعِدُهُ مَقَامُ تَشْدِيدِ
[ ص: 1285 ] الْوَعِيدِ، وَتَعْمِيمِ التَّهْدِيدِ، فَإِنَّ الْمُتَبَادَرَ مِنَ اللَّفْظِ الْحَقِيقَةُ، وَلَا يُصَارُ إِلَى الْمَجَازِ إِلَّا إِذَا تَعَذَّرَ إِرَادَتُهَا، وَلَا تَعَذُّرَ هُنَا، كَمَا أَنَّ الْمُتَبَادَرَ مِنَ اللَّعْنِ - الْمُشَبَّهِ بِلَعْنِ أَصْحَابِ السَّبْتِ - هُوَ الْمَسْخُ، وَهُوَ الَّذِي تَقْتَضِيهِ بَلَاغَةُ التَّنْزِيلِ، إِذْ فِيهِ التَّرَقِّي إِلَى الْوَعِيدِ الْأَفْظَعِ، وَلَا نُنْكِرُ أَنْ تَكُونَ هَذِهِ التَّأْوِيلَاتُ مِمَّا يَشْمَلُهُ لَفْظُ الْآيَةِ، وَإِنَّمَا الْبَحْثُ فِي دَعْوَى إِرَادَتِهَا دُونَ سَابِقِهَا، فَالْحَقُّ أَنَّ الْمُتَبَادَرَ مِنَ النَّظْمِ الْكَرِيمِ هُوَ الْأَوَّلُ؛ لِأَنَّهُ أَدْخَلَ فِي الزَّجْرِ.
وَيُؤَيِّدُهُ مَا رُوِيَ أَنَّ
nindex.php?page=showalam&ids=16850كَعْبَ الْأَحْبَارِ أَسْلَمَ حِينَ سَمِعَ هَذِهِ الْآيَةَ، رَوَاهُ
nindex.php?page=showalam&ids=16935ابْنُ جَرِيرٍ nindex.php?page=showalam&ids=11970وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ ، وَلَفْظُهُ بَعْدَ إِسْنَادِهِ: عَنْ
nindex.php?page=showalam&ids=11811أَبِي إِدْرِيسَ عَائِذِ اللَّهِ الْخَوْلَانِيِّ قَالَ : كَانَ
أَبُو مُسْلِمٍ الْجَلِيلِيُّ مُعَلِّمَ كَعْبٍ، وَكَانَ يَلُومُهُ فِي إِبْطَائِهِ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ فَبَعَثَهُ إِلَيْهِ يَنْظُرُ أَهُوَ هُوَ؟ قَالَ كَعْبٌ: فَرَكِبْتُ حَتَّى أَتَيْتُ
الْمَدِينَةَ ، فَإِذَا تَالٍ يَقْرَأُ الْقُرْآنَ يَقُولُ:
nindex.php?page=tafseer&surano=4&ayano=47يَا أَيُّهَا الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ آمِنُوا بِمَا نَـزَّلْنَا مُصَدِّقًا لِمَا مَعَكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَطْمِسَ وُجُوهًا فَنَرُدَّهَا عَلَى أَدْبَارِهَا فَاغْتَسَلْتُ، وَإِنِّي لَأَمَسُّ وَجْهِي مَخَافَةَ أَنْ أُطْمَسَ، ثُمَّ أَسْلَمْتُ.
وَرُوِيَ مِنْ غَيْرِ طَرِيقٍ نَحْوُهُ أَيْضًا.
فَإِنْ قِيلَ: قَرِينَةُ الْمَجَازِ عَدَمُ وُقُوعِ الْمُتَوَعَّدِ بِهِ، فَالْجَوَابُ: أَنَّ عَدَمَ وُقُوعِهِ لَا يُعَيِّنُ إِرَادَةَ الْمَجَازِ، إِذْ لَيْسَ فِي الْآيَةِ دَلَالَةٌ عَلَى تَحَتُّمِ وُقُوعِهِ إِنْ لَمْ يُؤْمِنُوا، وَلَوْ فُهِمَ مِنْهَا هَذَا فَهْمًا أَوَّلِيًّا لَكَانَ إِيمَانُهُمْ بَعْدَهَا إِيمَانَ إِلْجَاءٍ وَاضْطِرَارٍ، وَهُوَ يُنَافِي التَّكْلِيفَ الشَّرْعِيَّ، إِذْ لَمْ تَجْرِ سُنَّتُهُ تَعَالَى بِهَذَا، بَلِ النَّظْمُ الْكَرِيمُ فِي هَذَا الْمَقَامِ مُحْتَمِلٌ ابْتِدَاءً لِلْقَطْعِ بِوُقُوعِهِ الْمُتَوَعَّدِ بِهِ، وَلِوُقُوعِهِ مُعَلَقًّا بِأَمْرِهِ تَعَالَى وَمَشِيئَتِهِ بِذَلِكَ، وَهُوَ الْمُرَادُ، كَمَا يُنْبِئُ عَنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى:
nindex.php?page=tafseer&surano=4&ayano=47وَكَانَ أَمْرُ اللَّهِ مَفْعُولا [الْأَحْزَابِ: مِنَ الْآيَةِ 37] أَيْ: مَا يَأْمُرُ بِهِ، وَيُرِيدُ وُقُوعَهُ، وَإِذَا كَانَ الْوَعِيدُ مَنُوطًا بِأَمْرِهِ سُبْحَانَهُ فَلَهُ أَنْ
[ ص: 1286 ] يُمْضِيَهُ عَلَى حَقِيقَتِهِ، وَلَهُ أَنْ يَصْرِفَهُ لِمَا هُوَ أَعْلَمُ بِهِ، إِلَّا أَنَّ وُرُودَ نَظْمِ الْآيَةِ بِهَذَا الْخِطَابِ الْمُتَبَادَرِ فِي الْوُقُوعِ غَيْرِ الْمُعَلَّقِ؛ لِيَكُونَ أَدْخَلَ فِي التَّرْهِيبِ، وَمَزْجَرَةً عَنْ مُخَالَفَةِ الْأَمْرِ، هَكَذَا ظَهَرَ لَنَا الْآنَ، وَهُوَ أَقْرَبُ مِمَّا نَحَاهُ الْمُفَسِّرُونَ هُنَا مِنْ أَنَّ الْعِقَابَ مُنْتَظَرٌ، أَوْ أَنَّهُ مَشْرُوطٌ بِعَدَمِ الْإِيمَانِ، إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ، فَقَدْ زَيَّفَهَا جَمِيعَهَا الْعَلَّامَةُ
أَبُو السُّعُودِ ، ثُمَّ اخْتَارَ أَنَّ الْمُرَادَ مِنَ الْوَعِيدِ الْأُخْرَوِيِّ، قَالَ: لِأَنَّهُ لَمْ يَتَّضِحْ وُقُوعُهُ، وَهَذَا فِيهِ بُعْدٌ أَيْضًا لِنُبُوِّ مِثْلِ هَذَا الْخِطَابِ عَنْ إِرَادَةِ الْوَعِيدِ الْأُخْرَوِيِّ، لَا سِيَّمَا وَالْجُمْلَةُ الثَّانِيَةُ الَّتِي هُدِّدُوا بِهَا - أَعْنِي لَعْنَهُمْ كَأَصْحَابِ السَّبْتِ - كَانَ عِقَابُهَا دُنْيَوِيًّا، فَالْوَجْهُ مَا قَرَّرْنَاهُ، وَمَا أَشْبَهَ هَذِهِ الْآيَةَ فِي وَعِيدِهَا بِآيَةِ يس، أَعْنِي قَوْلَهُ تَعَالَى:
nindex.php?page=tafseer&surano=36&ayano=66وَلَوْ نَشَاءُ لَطَمَسْنَا عَلَى أَعْيُنِهِمْ فَاسْتَبَقُوا الصِّرَاطَ فَأَنَّى يُبْصِرُونَ nindex.php?page=tafseer&surano=36&ayano=67وَلَوْ نَشَاءُ لَمَسَخْنَاهُمْ عَلَى مَكَانَتِهِمْ فَمَا اسْتَطَاعُوا مُضِيًّا وَلا يَرْجِعُونَ [يس: 66 - 67] بَلْ هَذِهِ عِنْدِي تَفْسِيرٌ لِتِلْكَ، وَالْقُرْآنُ يُفَسِّرُ بَعْضُهُ بَعْضًا، فَبَرِحَ الْخَفَاءُ، وَالْحَمْدُ لِلَّهِ.
لَطِيفَةٌ:
الضَّمِيرُ فِي (نَلْعَنَهُمْ) لِأَصْحَابِ الْوُجُوهِ، أَوْ (لِلَّذِينَ) عَلَى طَرِيقَةِ الِالْتِفَاتِ أَوْ (لِلْوُجُوهِ) إِنْ أُرِيدَ بِهَا الْوُجَهَاءُ.